يبدو أن الجغرافيا اليمنية قد أقسمت على أن تقيم مظاهرة أسبوعية، تمامًا كما يقيم البعض صلاة الجمعة. الساحات تنبض، الحناجر تهتف، والرايات تلوّح، في طقس جماهيري أصبح مألوفًا كصوت الباعة في الأسواق، لكن بمعانٍ تتجدّد وصرخات تزداد حدّة، كأنها تقول للقدس: "لسنا بخير... لكننا معك!".
من المدن إلى القرى، ومن الجبال إلى السواحل، تخرج الحشود وكأن الجمعة صارت يومًا وطنياً للغضب الشعبي. شعارات تعلو، وهتافات ترتفع، وصور الشهداء تُحمل فوق الرؤوس لا في الإطارات، لتُذكّر العالم بأن فلسطين هنا هي القضية والمحور..
في صنعاء، اكتظ ميدان السبعين كعادته، وكأن سكان العاصمة قرروا استبدال عطلة نهاية الأسبوع بماراثون شعبي ضد الاحتلال. أما مديريات المحافظة، فقد تحوّلت إلى فصول مفتوحة في كتاب "دروس في الوفاء"، فيما الساحل الغربي من الحديدة قرر أن يُظهر ولاءه كل جمعة، دون أن يطلب من أحد "لايك" أو "شير".
صعدة، كالعادة، لا تكتفي بالشعارات، بل تمزجها بالتكبيرات وصور الشهداء، لتؤكد أن القضية ليست موسمية، بل فريضة ثورية، أما تعز وإب وذمار، فترفع عقيرتها بالهتاف: "لسنا في الهامش... نحن في صلب الحدث"، فيما البيضاء والجوف ومأرب ترسل برقيات قبلية تقول: "لا تجربوا صبر القبائل كثيراً".
اللافت أن حتى ريمة والمحويت، حيث الطرق تشبه ألعاب الفيديو من وعورتها، لم تمنع الناس من الوصول إلى الساحات. يبدو أن التضاريس هناك تذوب أمام حرارة القضايا الكبرى.
المسيرات ليست مهرجانات، ولا مناسبات ترفيهية، بل منصات لإسقاط الأقنعة وكشف الخيانة، حيث تتساقط أوراق التوت عن أنظمة التطبيع، وتُرفع شعارات تسخر من البيانات الدولية التي تبدأ دائمًا بعبارة: "نُعرب عن قلقنا العميق".
ولأن للجمعة مفاجآتها، فقد تزامنت المسيرات مع انسحاب أمريكي مرتبك من عدوانه على اليمن. انسحاب لم يكن على طريقة الأفلام الهوليوودية، بل على وقع الطائرات المسقطة والبحار المشتعلة. هنا، لم يكن الردع نظريًا، بل بصواريخ تعرف وجهتها جيدًا.
أما قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي يحفظه الله ، فكان كعادته يسبق الأحداث بخطوتين، يثبت أن من يقف مع فلسطين لا يخسر، وأن الدعم لا يعني فقط كلمات حماسية في مهرجانات، بل معادلات ردع تُرسم بالنار والدقة.
تل أبيب، بدورها، لم تخفِ قلقها، فها هي تواجه اليمن وحيدة في الساحة، بينما الإعلام الإسرائيلي يبحث عن عذر يُقنع به جمهوره لماذا بات البحر الأحمر “غير صالح للإبحار”.
الرسالة من كل هذا واضحة: اليمن قرر ألا ينسحب من معركة فلسطين، ولا من معركة السيادة، ولو خرجت الأرض كلها من الخريطة. والجمعة، لم تعد يومًا عاديًا، بل مناسبة أسبوعية تُذكّر أن الشعوب التي تهتف كل أسبوع، لا يمكن إسكاتها باتفاقيات، ولا إلهاؤها ببرامج ترفيهية.
في اليمن، كل جمعة ليست مجرد تظاهرة... إنها جلسة شعبية ساخرة مع العالم المتفرج، تقول له: "نحن نُصفّق لفلسطين، لكن بأسلحة لا تعمل بالبطاريات".