موقع أنصار الله ||مقالات ||عبدالقوي السباعي
في زمنٍ تكسّرت فيه أضلاعُ العروبة على أعتاب التطبيع، وتسلّلت فيه الخيانة من نوافذ القصور ومواسم الترفيه؛ خرج اليمنيون كأمةٍ تصنع من التراب جبهة، ومن الوجع نارًا، ومن الجوع سلاحًا، يدك حصون الطغيان.
لليوم الـ 595 من طوفان الأقصى، واليمن لا يزال في طليعة المسير، وفي مقدمة المسيرة؛ لا يكلّ ولا يلين، بحرٌ طوفاني من البشر احتشد في أكثر من 1093 ساحةً وميدانًا؛ استجابةً لنداء قائد الثورة، وتلبيةً لصرخة المسجد الأقصى، في مشهدٍ تهتزُ له الأرض، وترتجفُ له الأوتاد خشوعًا ورهبة.
من ميدان السبعين في قلب العاصمة التاريخية صنعاء، إلى جبال المحافظات العصية، ووديان الأرض الأبية، ومدرجات الحصون اليعربية، وكثبان الرمال العتية، وسواحل النصر الوفية، خرج اليمنيون، أمس الجمعة، في مليونياتٍ لا تشبه إلا ذاتها.
مسيراتٍ جاءت لترسل تحية حب ووفاء، تحية إجلال وافتخار، لصمود غزة الأُسطوري، لأبنائها الشرفاء الأبرار، لمجاهديها الشجعان الأخيار، واحتجاجًا صاخبًا بوجه جريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها كيان العدوّ الإسرائيلي بدمٍ باردٍ، ودعمٍ أمريكي وتواطؤ دولي مريب.
"يا غزة، نحن معاكِ.. أنت لستِ وحدكِ".. هكذا صدحت الحناجر، في تعبيرٍ عاطفي جياش، جاء كقرارٍ شعبي معلن، وكأن كُـلّ ساحات اليمن تقول بلسان الحال: "لقمة الخبز مقسومة، والسلاح مصطف، ولا تراجع قبل الحسم والانتصار".
مشهدٌ لم تألفه العيون العربية منذ قرون؛ كان الشعب فيه هو القائد، وكان القائد هو صوت الشعب النابض، ورأى العالم كيف انفلقت الجموع وهي تُحيي الجيش اليمني الذي مرّ بوحداته الرمزية في ميدان السبعين أثناء المليونية؛ كالطود العظيم، ليس كعرضٍ عسكري، بل كحلفٍ أخلاقي عميق، وكأنهم يقولون: "ها نحن من ورائكم، بالدماء والأرواح.. بالمال والعتاد".
مليونية "ثباتًا مع غزة" بعثت رسائل تنفيذية، وبيانات شعبيّة لا تعترف بالصمت والخِذلان العربي ولا بالقرارات الدولية المُخزية؛ فاليمن تجاوز الموقف، إلى الفعل، تجاوز الهتاف إلى القرار، وهو يُلزم كيان العدوّ بقرار حظر الملاحة الجوية والبحرية، ويثبت معادلات الردع نصًّا وروحًا، بقرار الساحات لا المؤتمرات.
إنه يمن فلسطين.. يمنٌ لا تنكسه التحالفات، ولا ترهبه الطائرات، يمنٌ يعلّم البشرية معنى العزة والكرامة، ويؤكّـد أن الحصار والمجاعة لا تقتل من عاهد الله في الجبهات والميادين، بل تصقلهم وتصهرهم؛ فتخرجهم جبالًا على جبال، في مسيرة الجهاد والنصرة، ومسير التضحية والفداء.
لم يحتشد اليمنيون؛ مِن أجلِ الصورة، بل؛ مِن أجلِ غزة العزة؛ شارعًا شارعًا، خيمةً خيمة، مترسًا مترسًا، ونفقًا نفقًا، جموعٌ لم تأتِ لتفرغ غضبها ثم ترحل وكأن شيئًا لم يكن؛ بل لتصنع بعدها التاريخ، وتوقّع بدمها وثيقة الانتصار القادم.
ومع كُـلّ موقفٍ يمني، تشعر غزة أن هناك من يقاسمها العدوان والحصار حرفًا بحرف، ومن يقاتل عنها من وراء السحاب، ومن يزرع في ضمير الأُمَّــة والعالم نداءً: "يا أهل الحق، لا تسكتوا.. فَــإنَّ الله لا يحب الخانعين".