موقع أنصار الله ||مقالات ||عبدالحكيم عامر
غزة اليوم مسرح إبادة جماعية تُنفذ بأدوات متكاملة: القصف المدمر، الحصار الخانق، والصمت المتواطئ، إنها ثلاثية الموت التي تطوق قطاعًا يسكنه أكثر من مليوني إنسان، تترابط كحلقات جحيمية تُطبق على رقاب الشعب بلا رحمة.
لكن الحرب الصهيونية تعدّت حتى الجرائم للحروب، لتتخذ شكلاً أكثر فتكًا وخبثًا: التجويع الممنهج كأداة إبادة جماعية، وسلاح يهدف إلى تركيع شعب بأكمله عبر تحطيم معدته أولًا، وكسر روحه أخيرًا، في واحدة من أبشع صور الإجرام، يتحوّل الجوع إلى سلاح أكثر فتكًا من القنابل، يستخدم لتحطيم الصمود وفرض الاستسلام، فيما يتفرّج العالم على موت الفلسطينيين جوعًا وعطشًا، بصمت لا يقل جرمًا عن الفعل ذاته.
فمن الخطأ الفادح اعتبار الجوع في غزة نتيجة عَرَضية لحرب عسكرية أو ظروف قتال، فما جرى ويجري هو سياسة متكاملة الأركان، مخطط لها بدقة وسبق إصرار، تهدف إلى إحداث انهيار شامل في المجتمع الفلسطيني، بدأ الاحتلال بتنفيذ هذه الاستراتيجية عبر: تدمير ممنهج للبنية التحتية الغذائية، بشكلٍ كامل.
- أهداف التجويع الإبادة تحت غطاء الصمت
إن سياسة التجويع كما وسيلة ضغط، تعتبر تمهيدًا لإعادة إنتاج النكبة الفلسطينية عبر وسيلة مختلفة: التهجير القسري البطيء، فقد عمد العدو الإسرائيلي إلى تحويل غزة إلى سجن جماعي بلا طعام ولا دواء ولا مأوى، والهدف كان واضحًا: إرغام الشعب الفلسطيني على الانهيار الداخلي، وتفكيك نسيجه الاجتماعي، وصولًا إلى قبوله بحلول مذلّة يفرضها الكيان الإسرائيلي تحت شعار "الإنقاذ من الجوع".
- المخاطر الإنسانية والسياسية
اليوم، يواجه أكثر من 2.3 مليون إنسان خطر الموت جوعًا، وفي شمال القطاع سُجلت حالات وفاة أطفال بسبب الجوع، في مشاهد يندى لها القلوب، المستشفيات لا تملك وقودًا، ولا أدوية، ولا معدات، فيما يفتك سوء التغذية بالأطفال والنساء الحوامل، ويزدهر المرض في بيئة بلا ماء نظيف ولا طعام ولا خدمات صحية.
وفي حسابات الاحتلال، فإن استمرار التجويع قد يؤدي إلى إضعاف الموقف الفلسطيني التفاوضي، وتحويل المطالب الوطنية إلى مطالب إنسانية، وإلى ربط النجاة بقبول الحلول الإسرائيلية، لكن التجربة الفلسطينية، منذ النكبة إلى انتفاضات الأقصى، تؤكد أن الألم لا يكسر الإرادة، بل قد يشعل جذوة مقاومة أشد.
- المآلات المحتملة.. مفارقات الجوع والمقاومة
رغم فداحة الكارثة، إلا أن التجويع قد يكون سلاحًا يرتد على مُطلقيه، فالجوع حين يُمارَس بهذه الوحشية، قد لا يُنتج استسلامًا، بل يثير سخطًا شعبيًا دوليًا ويؤسس لمرحلة جديدة من الحراك السياسي والحقوقي ضد الكيان الإسرائيلي، ويُعيد تعريفها في أعين الرأي العام العالمي، كقوة استعمارية تمارس أبشع أشكال الإبادة الجماعية الحديثة.
وعلى المدى القريب، سيتحوّل الجوع إلى محفّز ثوري لا أداة استسلام، وهذا ما لا يفهمه الكيان الإسرائيلي، أن الشعوب لا تموت بالجوع فقط، بل تُولد منه ثوراتها، وإذا كانت المقاومة قد وُلدت من رحم المجازر، فإنها اليوم تُعاد تشكيلها من بطون خاوية، وعقول أدركت أن لا خيار إلا المقاومة أو الفناء، فكلما اشتد الحصار، تعاظم الإيمان بخيار المقاومة، لا العكس.
وفي الأخير، إن الصمت حيال هذه جرائم الإبادة الجماعية الذي ينتهجها العدو الصهيوني بالقصف والتجويع، مشاركة فعلية في تنفيذها، إن صمت العالم، وتخاذل الأنظمة، وصمت المؤسسات الدولية، كله جزء من آلة القتل ذاتها.
ورغم كل هذا الجوع، ورغم محاولات الإبادة الشاملة، لم تسقط غزة، ولم تستسلم، لا تزال تقاوم، رغم المرض والجوع، بل وربما لأنّها جاعت، أدركت أنّ الكرامة لا تُشترى برغيف، وأن الجهاد لا يُقايض بصندوق مساعدات، هذه البقعة المحاصرة لا تزال تكتب بدمها وجوعها ملحمة صمود إنساني ومقاوم لن تُنسى.
وسيفشل العدو "الإسرائيلي" مرة أخرى، فكما فشلت القنابل في كسر غزة، سيفشل التجويع في إذلالها، لأن من لم تُرَكعه الجراح، لن تُرَكعه البطون الخاوية بإذن الله.