لم تكن غزة يومًا عبئًا على أحد. بل كانت – وما زالت – عنوانًا للصمود حين تخاذلت العواصم، وميدانًا للكرامة حين ضاقت المسالك، وبوصلة للحق حين تاهت الأُمَّــة بين مشاريع التسوية وصفقات التطبيع.

ومع كُـلّ عدوان صهيوني على غزة، كانت العيون تتجه إلى العواصم العربية: عَلَّ في الموقف الرسمي بعضًا من بقايا نخوة أَو التزام تاريخي بقضية لم تكن يومًا مُجَـرّد "مِلف سياسي"، بل هي اختصار للوجدان العربي والإسلامي. لكن ما حدث – وما استمر حدوثه – لم يكن سوى سلسلة من الخذلان المنظّم، والتهرب من المسؤولية، بل والانخراط المباشر أَو غير المباشر في حصار غزة ومقاومتها.

غزة تُخذل.. والمكان لا يبقى فارغًا:

حين تخلّى "الأقربون" عن غزة، حين انشغلت بعضُ الأنظمة العربية بتجميلِ وجه الاحتلال والتقارب معه، وحين تحوّلت المقاومةُ في الإعلام الرسمي العربي إلى "مغامرة غير محسوبة"، فتحت السماء بابًا آخرَ للدعم والنصرة. لم يكن هذا الباب عربيًّا، ولم يكن في حسبان كثيرين، لكنه جاء من إيران، تلك التي اختارت أن تُدخل دعم فلسطين في عمق استراتيجيتها، لا منّةً، بل موقفًا مبدئيًّا.

"تل أبيب" على خط النيران: "الجزاءُ من جنس العمل":

وها هي القاعدة تثبت نفسها: الجزاء من جنس العمل. فكما خُذلت غزة، خذلت أنظمة العرب، وكما قُصفت غزة بصمت عربي، باتت تل أبيب اليوم تُقصف وسط صمت عربي – لكن من نوع مختلف: صمت العاجز المذهول من تغيّر المعادلة.

تل أبيب التي كانت تنعم بالتفوق العسكري الساحق، أصبحت مدينة الصواريخ والملاجئ. ما كانت غزة تراه يوميًّا، باتت تراه تل أبيب. الفارق ليس فقط في توازن الردع، بل في انتقال الوعي: أن زمن الهيمنة انتهى، وأن (إسرائيل) لم تعد الطرف الوحيد القادر على إيلام الآخرين دون ثمن.

لقد جاءت الصواريخ التي تسقط على تل أبيب لتقول ما لم تقله البيانات السياسية: إن المقاومة حين تجد سندًا حقيقيًّا، تتحول من دفاع مستميت إلى فعل استراتيجي. وإن العدوّ الذي اعتاد على الحرب من طرف واحد، بات يُجبر على حساب الكلفة مسبقًا.

سؤال اللحظة: مَن في صفِّ فلسطين اليوم؟

ما يجري اليوم ليس فقط تصدعًا في أمن الكيان الصهيوني، بل تصدعًا في مفاهيم قديمة حكمت مواقف كثير من الأنظمة: أن القضية يمكن احتواؤها، وأن المقاومة معزولة، وأن التطبيع هو المفتاح. لكن مفاتيح اليوم مختلفة، ومن لا يمسك بها، سيُغلق عليه باب التاريخ.

إن ما يحدث في تل أبيب اليوم هو ترجمة حرفية لقانون كوني عادل: "مَن ينصُرِ المظلوم يُنصَر، ومن يتواطَأْ مع الظالم يُخذَلْ، ومَن تخلَّ عن شرف الدفاع عن فلسطين، خسر حتى القدرة على حماية نفسه من نار المعركة".

ولذلك، فَــإنَّ دعمَ إيران للمقاومة ليس استثمارًا سياسيًّا فحسب، بل هو دخولٌ حقيقي إلى قلب معركة الأُمَّــة، بينما اختار غيرُها الوقوفَ على الرصيف، أَو في صفّ القاتل.

 الذاكرة لا تنسى:

قد تنسى الشعوبُ كَثيرًا، لكن فلسطين لا تنسى. والمقاومة لا تنسى من خذلها ومَن دعمها. والتاريخ سيُكتَب – كما كتب سابقًا – بأن من وقف مع غزة، وقفت معه غزة، ومن تركها، تَركه المجد، وأُتيح له الأبعد... فكان له شرف الاقتراب.