شكَّلت الحرب النفسية، التي يقودها الكيان الإسرائيلي مدعوماً بـ الآلة الأمريكية الضخمة، قوة تدمير استراتيجية لا تقل فتكاً عن القذائف والصواريخ، بل تتجاوزها في المدى والتأثير العميق والمستمر، وهي حرب أفكار وصراع إرادات تجسدت فيها مقولة الاستراتيجي الصيني "صن تزو" بأن إخضاع العدو دون قتال هو النصر الأفضل.

وقد نجح العدو الإسرائيلي في تطويع جزء كبير من الأمة وتحويله إلى أداة لتنفيذ المشروع الصهيوني والوقوف ضد محور المقاومة ، كما عمد العدو إلى تحول المنظمات التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة إلى أدوات استخباراتية تستغل الغطاء الإنساني لجمع المعلومات وتحريك "خلايا تجسسية".

 تفتيت الوعي والتوظيف الأعمق للعمالة

لم تكن العمليات النفسية مجرد تكتيك عسكري فحسب، بل هي استراتيجية ممنهجة تستهدف البنية المعنوية والثقافية والاجتماعية للبيئات المعادية والمحايدة على حد سواء، بهدف تفكيكها من الداخل وتهيئتها للاستسلام السياسي والاقتصادي،

نشط العدو مدعوماً بماكنة إعلامية غربية ضخمة وكذلك وسائل وأدوات إعلامية ناطقة باللغة العربية، لتكثيف الحرب النفسية على بيئة المقاومة وهذه الجهود لم تتوقف عند ميادين القتال، وإنما امتدت لتخلق واقعاً اجتماعياً وسياسياً يخدم أجندة الهيمنة.

لقد تركزت الأهداف الإجرامية لهذه الاستراتيجية على محاور عدة لضمان الهيمنة وتكريس الانقسام، وتمثلت في زرع الشقاق والتناقضات بين فئات الأمة، وتصوير النظم السياسية والاقتصادية على أنها عاجزة عن تلبية آمال الشعب، والهدف العام هو "تحطيم وحدة الجبهة الداخلية للعدو وخلق التناقضات بين فئاته".

و هذا التدمير المعنوي يتجاوز الإحباط العادي، وصولاً إلى "تعميم مشاعر الإحباط واليأس بين أفراد المجتمع، خاصة بين فئة الشباب"، مما يضمن الاستسلام الروحي قبل العسكري.

وفي مسار تشويه صورة المقاومة وتكريس "أسطورة الصهيونية"، عملت الماكنة الإعلامية الصهيونية على تشويه صورة محور المقاومة وتسميته بـ "محور الشر والإرهاب"، وفي الوقت ذاته، استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي والدعاية لـ "تكريس صورة العدو الصهيوني بأنه لا يقهر"، هذا التضخيم للقوة العسكرية الصهيونية، والتعمية على إنجازات المقاومة، استهدف تحطيم الروح المعنوية والتشكيك في جدوى الصمود من خلال "التركيز على الكلفة الباهظة لخيار مقاومة الكيان الصهيوني المؤقت، في مقابل إخفاء الخسائر المتراكمة في الكيان الصهيوني".

أما على صعيد الهيمنة الاقتصادية وصناعة التبعية المزمنة، فقد استخدمت الحرب النفسية أساليب تهويل وتضخيم الضائقة الاقتصادية والمالية، ليس فقط لإثارة اليأس، بل لفرض الهيمنة عبر "قروض وخطط إنقاذ وفق شروط تزيد الدولة المستهدفة تبعية ورضوخاً".

التطبيع في مواجهة المقاومة

في سياق التحليل النقدي القوي والمباشر، تجلت فضائح هذه الاستراتيجية النفسية في مواقف حلفاء أمريكا الإقليميين، وتحديداً الكيان الإسرائيلي، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، الذين تحولوا إلى أدوات إقليمية لتنفيذ الأجندة العدوانية الأمريكية في المنطقة.

على صعيد الموقف المتواطئ من المقاومة الفلسطينية، وعلى النقيض من الحاضنة الشعبية والجماهيرية للمقاومة، وخاصة حركة حماس، تبنى محور التطبيع والعمالة خطاباً إعلامياً يتسق مع السردية الصهيو-أمريكية، يعمل على تجريم المقاومة وتحميلها مسؤولية العدوان، متجاهلاً جذور الصراع وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، هذا التواطؤ يصل إلى حد العمل الاستخباراتي والمحاولات الدبلوماسية للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات في أعقاب الهجوم.

أما على مسار التدمير الممنهج لمحور الممانعة الإقليمي، فقد ركزت الحملات الدعائية الصهيو-أمريكية، بدعم من الأنظمة العميلة، على بث الشقاق بين مكونات محور المقاومة في لبنان،  العراق، إيران واليمن.

العدوان على اليمن.. مشاهد الجريمة المتجددة

وفي سياق الفضائح الاستراتيجية التي تكشف عمق التوظيف العدواني لأدوات العمالة، يتجلى المشهد الأكثر درامية وكارثية في اليمن، حيث يرتكب تحالف العدوان جرائمه الممنهجة. وتحديداً، ما يقوم به المرتزقة الموالون لـ الإمارات والسعودية في المحافظات الجنوبية والشرقية هذا الانخراط العدواني يمثل أداة تنفيذية صريحة لأهداف السياسة الصهيو-أمريكية التي تعمل على تدمير وحدة الأمة وقدرتها على المقاومة.

لقد تحولت مناطق واسعة إلى ساحات اقتتال داخلي مُدارة من الخارج، حيث استغلت قوى العدوان الفقر والحاجة لتوظيف أدواتها المحلية، مما يخدم بشكل مباشر الهدف الاستراتيجي المتمثل في تفكيك الدول المحورية وإبقائها تحت رحمة التبعية والصراع المستمر.

هذا إلى جانب الفضائح المعروفة المتعلقة بـ "الفساد المالي والإداري وانتهاكات حقوق الإنسان" المرتكبة من قبل هذه "التنظيمات الوظيفية" في عدن وحضرموت وغيرها، والتي أصبحت مادة إخبارية موثقة تكشف عمق التدمير الذي جلبته سياسات العمالة والتطبيع على البنى الاجتماعية والاقتصادية، تبرز محاور إجرامية استراتيجية أخرى:

ففيما يتعلق بعسكرة الجزر والموانئ الإستراتيجية (تفكيك الجغرافيا)، فيُعدّ هذا المحور هو الأشد ارتباطاً بالأجندة الصهيو-أمريكية الهادفة للسيطرة الكاملة على الممرات المائية الحيوية. ففي مشاهد توثق هذا التآمر، تبرز الأنشطة العدوانية التي تهدف إلى فصل واحتلال الجزر اليمنية الاستراتيجية مثل سقطرى وميون وتحويلها إلى قواعد عسكرية للكيان الإسرائيلي والإمارات، تحت ذريعة حماية الملاحة الدولية. هذا العمل يمثل تفكيكاً للهوية الجغرافية والسيادية لليمن، ويضع هذه المواقع تحت السيطرة المباشرة لقوى الهيمنة، مما يخدم بشكل قاطع مصالح الكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر وخليج عدن، ويضمن له التفوق الجيوسياسي على حساب الأمن القومي للأمة، إلا أن شعب اليمن لديه القدرة والمقومات على إفشال كل هذه المشاريع.

من الإغاثة إلى التجسس.. نموذج المنظمات الأممية

لم يقتصر التورط على المنظمات غير الحكومية ذات التمويل الغربي، بل امتد ليطال كيانات تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة. وقد كشف السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي عن تورط بعض المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني في اليمن، وضلوعها في تحريك "خلايا تجسسية"، مستغلة غطاء العمل الإنساني لخدمة العدوين الأمريكي والإسرائيلي.

لقد وضع القائد أيادي الشعوب المقاومة على حقيقة خطيرة: أن العمل الإنساني يمكن أن يصبح قناعاً لـ "الاستخبارات الثقافية". ومن أبرز الفضائح الموثقة برنامج الأغذية العالمي (WFP) واليونيسف، ولاسيما حيث أشار السيد القائد بشكل مباشر إلى تورط منظمتين دوليتين رئيسيتين هما برنامج الأغذية العالمي ومنظمة اليونيسف. هذا الكشف يشير إلى إمكانية استخدام المساعدات الأساسية (الغذاء والطفولة) كـ "طُعم" ووسيلة لجمع البيانات، وتحويل الأفراد المحتاجين إلى مصادر استخباراتية غير مباشرة، وتحديد نقاط الضعف المجتمعية بدقة عالية.

الكلمة الأخيرة لصراع الإرادات

لقد أثبتت وقائع المواجهة الاستراتيجية أن الحرب النفسية التي يشنها الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، وإن نجحت في صناعة إحداث شرخ عميق وتقسيم الأمة إلى محوري المقاومة والتطبيع، فإنها اصطدمت دائماً بـ الإرادة الصلبة والقوة المعنوية التي لا تهزم. فبينما كان الكيان الإسرائيلي يلجأ إلى الدعاية السوداء وتقنيات الذكاء الاصطناعي لـ "إنتاج ونشر عدد من الصور والفيديوهات والقصص" بهدف تضخيم قوته وإيجاد مبررات لعدوانه، كانت المقاومة تقتنص اللحظات لتدمير هذا الوهم، مؤكدة أن "القوة المعنوية تضطلع بدور موازٍ في أهميته لدور القوة المادية، وقد يفوقه أحياناً".

هذا الصراع الدائر، هو صراع إرادات، حيث تستطيع العمليات النفسية -متجاوزة حدود المكان والزمان- أن تجرّد العدو من إرادة القتال وقدرته على الصمود، وتحطّم روحه المعنوية وتجعله يصنع هزيمته بنفسه، ولكنها في الوقت ذاته لا تستطيع أن تخترق جدار الإيمان بعدالة القضية، وتضحي في النهاية خياراً أقل كلفة للعدو الذي يخشى الخسائر المادية والبشرية التي تجلبها الحرب التقليدية، المشهد الراهن يؤكد أن العامل الحاسم في هذه الحرب الدائرة هو الوعي وقدرة الأمة على التثبت من الأخبار وتفنيد ادعاءات العدو وفبركاته الإعلامية، لتجنب الوقوع في دوامة الهلع التي يسعى إليها العدو لـ "كسر إرادة القتال والصمود" لديها.