حين يُرادُ الحديثُ عن السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- من زاوية جديدة، فإن المدخل الأصدق هو وعيه العميق بوظيفة الكلمة، وإدراكه المبكر أن أخطر ما تواجهه الأُمَّــة هو التشويش، والتزييف، وقلب الحقائق.
من هنا، تشكّلت شخصيتُه القيادية بوصفها مشروعَ وعيٍ قبل أن تكون حالة مواجهة، وبوصفها بناءً للعقل والضمير قبل تحريك الأجساد.
وكأنّه يستلهم قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}؛ فجعل الدعوة بالحكمة أَسَاس حركته.
ويتعامل مع الأُمَّــة بوصفها أمانةً تحتاج إلى تبصير، وإلى تدرُّج، وإلى خطاب يحترمُ عقولَها.
لذلك جاءت محاضراتُه بعيدةً عن الاستثارة الرخيصة، قريبةً من التفكيك الهادئ؛ تضعُ الأمورَ في سياقها، وتعيد ترتيب الأولويات، حتى تشعر أنك أمام إنسان يشرح لك لماذا تقف، ولماذا يطلب منك الوقوف.
ومن يراقب مسيرته يلحظ ذلك الإصرار اللافت على كشف المشاريع المعادية من زاوية السنن الإلهية والتجارب التاريخية.
يربط الحاضر بالماضي، ويُسقِطُ الدروس على الواقع، فيُخرج المستمع من حالة الانفعال الآني إلى مستوى الفهم العميق.
وهنا تتجلّى سمة نادرة في القادة: أنه لا يكتفي بتحديد العدوّ، بل يشرح لك كيف يفكّر، وكيف يعمل، وكيف يخدَع؛ حتى تكون المواجهةُ واعيةً ومسؤولة.
في خطاباته، لا تجد تهوينًا من التضحيات، ولا تهويلًا يُصيب الناس باليأس، بل توازن دقيق بين الصراحة والطمأنة، وبين كشف حجم التحدي وبعث الأمل.
يُسمِّي الأمورَ بأسمائها، لكن دون أن يُسقِطَ الناسَ في الإحباط.
يزرع الثقةَ بالله، ويُحمّل كُـلّ فرد مسؤوليته، ويُعيد الاعتبار لمعنى الصبر الواعي، لا الصبر السلبي، مستحضرًا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}.
وكأن كلماته تقول: إن الطريق صعب، نعم، لكنه واضح، ومن سار فيه ببصيرة لن يضل.
ومن أبرز ملامح هذه القيادة، ذلك الحرصُ الشديد على ألا يتحوّل الصراع إلى حالة انتقام أَو فوضى أخلاقية.
يضع للغضب ضوابطه، وللقوة أخلاقها، وللمواجهة سقفَها القيمي؛ فلا يُبرّر الظلم بحُجّـة الرد، ولا يسمحُ أن تُطمَسَ الفوارق بين الحق والباطل تحت ضغط المعركة.
هنا يظهر القائد الذي يفهم أن الانتصار الحقيقي في الحفاظ على نقاء القضية، متخلقًا بخلق المؤمنين الذين: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.
كما يلفت النظر هذا الاتساق العجيب بين كلمته ومواقفه العملية.
لا تجد فجوة بين ما يُقال وما يُفعل، ولا بين الخطاب والميدان.
القراراتُ تأتي امتدادًا للرؤية، حتى في أشدِّ اللحظات تعقيدًا، يظل الميزان حاضرًا: حساب للعواقب، وتقدير للمسؤولية، واستحضار دائم أن الدماء أمانة.
وفي تعامله مع الأُمَّــة، يبرز بوضوح رفضُه لصناعة التبعية العمياء؛ يُريد أتباعًا واعين، لا مهللين بلا بصيرة.
يُحمّلهم مسؤولية الفهم، ويُعيدهم دائمًا إلى القرآن، وإلى القيم، وإلى معايير الحق.
هذه السطور هي شهادةٌ على تجربة حية نلمس آثارَها في يقظة الوعي العام، وفي صلابة الموقف، وفي قدرة هذا المجتمع -على رغم شدة الحصار وقسوة العدوان- على أن يدرك لبّ صموده، وجوهر رفضه، وحكمة اختياره لطريق وعرة الملامح لكنها مستقيمة المعالم.
إنه التحول الجوهري الذي ينبع من الأعماق؛ تجسيدًا عمليًّا للسنّة الإلهية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفسهِمْ}.
سِــرُّ هذا القائد أنه يتعاملُ مع الأُمَّــة بوصفها شريكةً في المسؤولية، يخاطب أعماقَها، عقلَها وضميرَها.. ومن هنا جاء الالتفافُ الصادقُ حوله قناعةً وفهمًا.
وبهذا المعنى، فإن الثقةَ به ثمرةُ مسار طويل من الصدق، والوضوح، وتحمل الأمانة.
هو قائدٌ أثبت بالفعل أن من يجعلَ الوعي أَسَاسًا، لا تهزُّه العواصف، وأن من يقُد بالعقل والإيمان معًا، يحفظ الأُمَّــة من التخبّط والتيه.
من فتح القلوبَ على البصيرة، كان أحقَّ بالاتباع، وأجدرَ بالثقة، وأقربَ إلى أن يحملَ بالأمة نحوَ الحق بثبات ويقين.