التاريخ يصنع وعينا (10): أولو قوة وأولو بأس شديد، ومقبرة العرب أيضا
|| مقالات || حمود الاهنومي
بلغتُ في الحلقة السابقة عند وصف القرآن الكريم لأهل سبأ (اليمن)، على لسان ملئهم، بأنهم (أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل: 33]، القرآن الكريم الذي أقر وصفهم بذلك، هو الذي تحدث عن البأس الشديد باعتباره أحد أهم صفات الحديد، أي أن لديهم أهم صفات الحديد في الحرب، وهي قوة التحمل، وعظيم النكاية، وإذا كان الحديد قد وُصِف بأنه (فيه بأسُ شديد ومنافع للناس) [ الحديد : 25]، فإن اليمنيين في الوصف المقرِّ به قرآنيا، وُصِفوا بوصف إضافي وهو أنهم (أولو قوة).
ولما ذكّر الله بني إسرائيل بفسادهم في الأرض مرتين وأنه عاقبهم على ذلك بأن سلّط عليهم عبادا له أشداء، قال عنهم: (عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء: 5]، بنفس وصف اليمنيين، ولما ذكَر الصادقين المتقين وصفهم بأنهم (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177]، ولما أرشد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية مواجهة بأس الذين كفروا، أمره بالقتال في سبيله، وبتحريض المؤمنين على القتال، فقال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ)، ثم ذكر أن الله هو من بيده البأس الأشد، والتنكيل الأنكى، فقال: (وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) [النساء: 84].
وإذا كان الملأ من سبأ أولي قوة، وأولى بأسٍ شديد، وهم لا يزالون على شركِهم بالله، وعبادة الشمس، فكيف بهم وقد انطلقوا مع الله وفي سبيله، وفي مواجهة أعدائه، ممن وقعوا في دائرة سخطه وعذابه، وهو الأشد بأسا، والأشد تنكيلا، الذي يمنح عباده ما يتفضّل به عليهم من البأس الأشد، والتنكيلِ الأشد، والنصر، والقوة، والعزة، والبأس، كما هو الحال مع المجاهدين من أبطال الجيش واللجان الشعبية.
إن مفاجآت الأيام الماضية بالتطوُّراتِ العسكرية الاستراتيجية من خلال هجمات السلاح المسير في الرياض وأبو ظبي، واستهداف البوارج الحربية في عُرض البحر الأحمر، ومهاجمة الغزاة ومرتزقتهم المنافقين في المخا، خلف خطوط النار، وفي عمق العدو، لهي شواهدُ ماثلة للتوِّ على ما أورده القرآنُ من وصفٍ لليمنيين بأنهم أهلُ بأسٍ شديدٍ في الحرب، كما أن شهاداتِ المجرِّبين من أعداءِ اليمن وخصومِه في الماضي لهي أكبرُ رادعٍ وزاجر للمعتدين لو كانوا يعقلون.
في الأشهر الأولى من عمر العدوان توقّع الأستاذ المخضرم محمد حسنين هيكل في مقابلته مع الإعلامية لميس الحديدي، أن يفشل العدوان، واعترف بوضوح أن اليمن معقّدة، وأن لدى المصريين عقدة من التورُّط في اليمن، وأن السعودية لن تحسِم هذه المعركةَ لصالحها، ورغم أن هيكل غادر الحياة سريعا بعد إطلاقه تلك التوقعات، لكنها لم تغادِر مسرح الحقيقة التاريخية، ولكن لأن الفتيين الغِرَّين لم يكونا في واردِ أن يسمعا لرجلٍ حصيف وحكيم مثل هيكل، بل كانا يطربان لعنتريات المهرّج فهد الشليمي، وتحليلات آل مرعي العدمية، وتغريدات زايد العمري التطبيلية، وقعا في هذا المستنقع الوبيء.
الشهادات والتقارير المتسربة تحكي عن أعداد مهولة من القتلى والجرحى، الذين فتك بهم اليمنيون من كل الأجناس، والألوان، الذين جلبهم تحالف العدوان إلى اليمن، ولن تكون سنة هؤلاء الغزاة أفضل من سنن من سبقوهم، إذ حملتهم رياح الدبور إلى هذه الأرض الفتاكة.
أجرت دراسة جادة وحديثة إحصاءات دقيقة لعدد الجنود العثمانيين الناجين من مذابح اليمن، فتوصّلت إلى أنه لم يعُدْ من الجنود العثمانيين الذين أُرسلوا إلى اليمن أكثرُ من عشرين بالمئة، أما 80% فقد التهمتهم اليمن، بجبالها وسهولها ووحوشها وطيورها، كما بينت تلك الدراسة أنه خلال أقل من سبع سنوات، أي ما بين 1321- 1327هـ / 1903 – 1909م فُقِدَ أكثر من مئة ألف عثماني. [رامزور، أرنست أ.، تركيا الفتاة وثورة 1908، ط1، 1960م، ص163].
أما ما يمكن قوله للمرتزقة المجلوبين من السودان، فهو أن اليمن ليست مقبرة الأتراك فقط، بل ظلت مقبرة العرب أيضا، وهو ما أكده الأستاذ محمد حسين بيهم [في كتابه قوافل العروبة ومواكبها خلال العصور، بيروت، ط1، 1369هـ/ 1925م، ج3، صـ127-128]، حيث ذكر أن الدولة العثمانية “كانت تسوق المجنّدين من أبناء البلاد العربية للقتال في اليمن السعيدة، فيلقون هناك حتفَهم، حتى كان الناس في بر الشام يُطلِقون على اليمن “مقبرة العرب”.
ويقول محمد كرد علي [في كتابه خطط الشام، مطبعة الترقي بدمشق، ط1، 1343هـ/ 1950م، ص12]: “وثارت اليمن سنة 1329هـ / 1911م فأرسلت الدولة جيشا عظيما .. قتِل في حربها من أبناء الشام ألوفٌ، كما كانت كلُّ مرة تدفِن ألوفا من أبنائها في تلك البلاد القاصية”، ويضيف قائلا: “حدثني عظيم من الأتراك، وكان أكبر رجال الشورى العسكرية في الفيلق الخامس بدمشق أن الدولة بحسب إحصاء الجيش كانت تدفن كل سنة من أبناء الشام في بلاد اليمن نحو عشرة آلاف جندي يهلَكون بالأمراض والفتن والقلة وتغيُّر الهواء”.
أما النتيجة فقد كانت في بعض صورها فهو الفرار الجماعي لأولئك الجنود الذين تحينهم سوء الحظ إلى أقدار المنايا في هذا السوق اليمني الرائج، وهذا ما حدث مع الضباط والجنود العثمانيين، فقد كتب الكولونيل كونيرس سورتس الملحق العسكري لبريطانيا في إستانبول في رسالة إلى جي لوثر بتاريخ 23 يونيو 1909م / 2 ربيع الثاني 1327هـ، يذكر فيها أن أولئك الجنود فروا من مواقعهم فجأة من دون أخذ الإذن، وأنهم واصلوا سيرهم مع أسلحتهم من بيت الفقيه إلى الحديدة وأعلنوا التمرد، [Records of Yemen, Vol 5, No 76. P. 546]، وحدَثَتْ تمردات عديدة وفرار، ونجا بنفسه من نجا، من نار تهامة وحرِّها ومن بنادق المقاومة وقناصتها كما يُقِرُّ بذلك تقريرٌ عثماني. [وثيقة عثمانية في الأرشيف العثماني تصنيف داخلية متنوعة (DH.MUI) برقم 8/ 57، (توجد صورة منها في م. و . ث)].
بعد هذا كله .. أليس من الحكمة أن يُبْقِيَ هؤلاء الغزاةُ ومرتزقتُهم المنافقون على أنفسهم وأموالهم؟!
اللهم قد بلَّغْتُ .. فاشهد.