من يستطيعوا أن يغيروا في واقع الحياة هم العدد القليل جداً من المؤمنين، الذين يسعون لأن يبلغ إيمانهم أكمل الإيمان

|| من هدي القرآن ||

نجد أن من يستطيعوا أن يغيروا في واقع الحياة هم العدد القليل جداً من المؤمنين، أولئك الذين يسعون لأن يبلغ إيمانهم أكمل الإيمان، ويدعون الله أن يبلغ بإيمانهم أكمل الإيمان, وإلا فالمؤمنون – إن صح التعبير – أو أدعياء الإيمان من نوعيتنا كثير، ومعنى أننا ندعي الإيمان أننا نمتلك الحق، لكن ما بال هذا الحق الذي معنا لا يستطيع أن يزهق أي شيء من الباطل {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81)، لماذا لا يكون الباطل زهوقاً أمام الآلاف من مدعي الإيمان في مختلف المناطق؟.

 

لماذا يكاد أن يزهق الحق من أنفسهم هم؟ ناهيك عن أن يزهقوا الباطل من نفوس الآخرين أو من واقع الحياة، ربما لأننا جميعاً مؤمنون من هذا النوع الذي يرضى بأن يرسم لنفسه خطاً معيناً لا يتجاوزه فيصبح ذلك الخط هو المانع له دون أن يزداد معرفة, دون أن يزداد هدى، هو الحاجز الذي يمنعه أن يبحث عن أي مصدر للهداية، أن يحضر في جلسة معينة, في مسجد معين, يستمع لشريط معين، يتدبر كتاب الله بشكل جدي, يقرأ صفحات هذا الكون, وما أكثر ما يفيد الإنسان النظر في هذا الكون, وتأملات حياة الناس في هذا العالم, وأحداث هذا العالم، ما أكثر ما تصنع من إيمان في نفسك!.

 

هل أحد منا يرى أن بينه وبين الإمام زين العابدين نسبة في فضله، في إيمانه، في كماله، في عبادته في تقواه؟ الفارق كبير جداً بيننا وبينه, لكنه هاهو يقول ويدعو من الله سبحانه وتعالى. لماذا يدعو من الله سبحانه وتعالى؟ لأن الإنسان – أحيانا – قد يعتقد بأن كل مصادر الهدى قد اطّلع عليها. الإنسان بضعف إدراكه ومعرفته المحدودة – حتى وإن كان جاداً – يبدو له وكأن مصادر الهدى كاملة قد قدمت إليه وانتهى الموضوع, فلا يفكر أن يبحث أو أنه بحاجة إلى المزيد! هذه حالة تحصل عند الناس لكن ارجع إلى الله هو الذي يعلم أنك بحاجة إلى المزيد ليرشدك هو إلى المزيد, وإلى المزيد من مصادر الهدى والمعرفة والإيمان.

 

لا تقل في نفسك: يكفي، يبدو أنني قد فهمت من خلال شهر معين من خلال سنة معينة من الدراسة, يبدو قد فهمت كل شيء وأصبح ما في نفسي كفاية،! تحاول دائماً طول حياتك, طول حياتك وكلما تقرأ كتاب الله تدعو الله دائما أن يهديك بكتابه, وأن يوفقك لفهم كتابه لتزداد إيمانا, تزداد إيمانا, تزداد إيمانا.

 

حتى وإن وصلت إلى درجة أولئك: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(الأنفال: من الآية2) وهل نحن وصلنا هذه؟ لا نزال بعيدين، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ}يذكره أحد عندهم{وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} تضطرب، ترتجف خشية من الله وخوفا منه، هل قد وصلنا إلى جزء من هذه الدرجة؟ لا.

 

إذاً ما يزال الطريق طويلا داخل أنفسنا لنصل بها إلى هذه الدرجة – إن شاء الله – في قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(الأنفال: من الآية2) ثلاث صفات مهمة جداً: خوف من الله، خشية من الله، اشتياق إلى الله توجل له القلوب، حرص على الهداية، معرفة لعظمة وقيمة الهداية فيزدادون إيماناً كلما تتلى عليهم آيات الله، وكلهم ثقة بالله، ثقة قوية بالله, يتوكلون على الله {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. لا نزال دون هذا المستوى في المجالات الثلاثة كلها, أليس كذلك؟.

 

قد يقول البعض: [الحمد لله والله إن كل منا يعرف ما له وما عليه, وقد سمعنا الذي فيه الكفاية ويكفي، وسنمشي على الذي قد فهمناه وانتهى الموضوع]! حاول دائماً, دائماً هكذا, ومتى رأيت نفسك أنك ترى أنه ليس هناك شيء من مصادر الهداية إلا وأنت قد استكملته فاعرف بأن معرفتك قاصرة، فارجع إلى الله هو من لا يزال يعلم بأن هناك الكثير، الكثير مما أنت بحاجة إليه في ميدان الهداية وتقوية إيمانك، كـ[زين العابدين] من كان قمة في العبادة والتقوى, والفهم لكتاب الله سبحانه وتعالى, فما يزال يقول: ((اللهم بلغ بإيماني أكمل الإيمان)).

 

إذا كنا لا نزال نحتاج إلى من يوجهنا, من يدفعنا إلى أن تكون نفوسنا فيها ذرة من روح الجهاد الذي هو من أعظم ما تناوله القرآن الكريم من أعمال المؤمنين فنحتاج إلى من يدفعنا ويشجعنا ويوعينا ويفهمنا، ونحتاج إلى بعضنا البعض. أليس هذا يدل على أننا ما نزال هابطين كثيراً؟. أين نحن من درجة أن تكون هذه مسألة مفروغ منها عندنا؟ فنحن الذين ننطلق إلى الآخرين، ننطلق إليهم لنجعلهم هم من يحملون الروحية التي نحملها؟ ألسنا لا نزال بعيدين عن هذه؟.

 

ما أكثر المتوجسين فينا ممن لم يصل إلى درجة أن يقطع على نفسه إلزاماً بأن يثقف نفسه بثقافة القرآن بما فيها أن يحمل روحية الجهاد التي يريد القرآن منه أن يحملها! ما أستطيع – أنا واحد منكم – أن نقطع بأننا وصلنا إلى هذه الحالة.

 

إذا كان زين العابدين يمكن فعلاً أن تصدق عليه تلك الصفات التي ذكرها الله للمؤمنين بما فيها الجهاد في سبيل الله, وإن كان الواقع الذي عاش فيه واقعا مظلما, أمة هُزِمت وقُهِرت، وأُذلِّت تحت أقدام يزيد, وأشباه يزيد، لكنه هو من عمل الكثير الكثير وهو يوجه، وهو يعلِّم, وهو يربي، أليس الإمام زيد هو ابنه؟ من أين تخرج الإمام زيد؟ إلا من مدرسة أبيه زين العابدين.

 

إن الحالة التي كان فيها حالة فعلاً شديدة، بالغة الشدة النفوس مقهورة ومهزومة والأفواه مكممة، لكن زين العابدين من أولئك الذين يفهمون بأن المجالات دائماً لا تغلق أمام دين الله فانطلق هو ليعلم ويربي، ويصنع الرجال؛ لأنه يعلم أنه إن كان زمانه غير مهيأ لعمل ما فإن الزمان يتغير فسيصنع رجالاً للمستقبل. وصنع فعلاً وخرج الإمام زيد (عليه السلام) شاهراً سيفه في سبيل الله, وترك أمة ما تزال تسير على نهجه من ذلك اليوم إلى الآن.

 

هو عبرة للعلماء، قدوة للمعلمين الذين يرون بأن الأوضاع قد أطبقت، والناس لم يعودوا بالشكل الذي يمكن أن يؤثر فيهم كلام، أو يحركهم كلام، لينطلقوا في نصر الحق, ومقاومة الباطل وإزهاقه, فليسلكوا طريقة زين العابدين, الإمام علي بن الحسين, اجمع ولو خمسة من الطلاب تختارهم ثم علمهم، قدم لهم الدين كاملا، ابعث في نفوسهم الأمل، علمهم الأمل الذي يبعثه القرآن الكريم، لا تسمح بأن يكونوا عبارة عن نسخ للواقع الذي أنت فيه، لا تسمح أن تمتد هزيمتك النفسية إليهم، إلى أنفسهم، حاول دائما أن تعلمهم كيف يكونون رجالا, كيف يكونون جنداً لله, كيف يكونون من أنصار الله, كيف يعملون في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع رايته.

 

الكثير ممن يعلّمون لا ينطلقون هذا المنطلق, إما لأنه قد يرى أن بعض تلاميذه ليسوا ممن يثق بأن يكلمهم بكل شيء، إذاً فاختر لك تلاميذ خاصين، تلاميذ تختارهم ممن نفسياتهم قوية, ممن هم مؤهلون لحمل العلم، ممن هم مؤهلون لأن ينطلقوا للعمل في سبيل الله، فعلّمهم، وإن لم يكونوا إلا ثلاثة أشخاص، وإن لم يكن إلا شخصا واحداً.

 

لا يجوز أن نمشي في حياتنا هكذا جيلا بعد جيل، ومساجدنا تكتظ بحلقات العلم، وكثير من منازل علمائنا أيضا تقام فيها حلقات العلم لكنها في معظمها حلقات باردة, لا تصنع أكثر من امتداد للواقع المظلم، وامتداد للهزيمة النفسية، نتوارثها جيلا بعد جيل، يتلقاها التلميذ من أستاذه، وعندما يصبح هذا التلميذ أستاذاً أيضا يحملها للآخرين ويلقنها للآخرين، ندرس فنوناً معينة, لا نتحدث بجدية عن مختلف المواضيع المهمة، حتى أصبح الواقع هو نسيان, هو نسيان ما يجب أن يتحرك الناس فيه.

 

وكلنا نعرف ذلك الظرف القاهر الذي كان يعيشه زين العابدين (صلوات الله عليه)، لكن ننظر ماذا عمل زين العابدين، بنى زيداً, وبنى الكثير من الرجال، الذين انطلقوا فيما بعد حركة زيدية جهادية جيلا بعد جيل على امتداد مئات السنين.

 

هو نفسه كان يقول: ((اللهم بلغ بإيماني أكمل الإيمان)) وقد يكون في واقعه ليس ممن رضي لنفسه تلك الحالة التي كان عليها، لكن ذلك هو أقصى ما يمكن أن يعمله، لا يستطيع أن يخرج هو فيعلن الدعوة إلى إعلاء كلمة الله ونصر دين الله، ليس لضعفه هو, أو لعدم كماله, وإنما رأى الناس من حوله كلهم مهزومين، كلهم مقهورين, فمن الذي يستطيع أن يحركهم؟.

 

وهذه أحيانا تحصل، تحدث وضعيات كهذه، لكنها وضعيات هي نتيجة تقصير من قبل الناس أنفسهم يوم تخاذلوا مع علي (عليه السلام) كانت نتيجة تخاذلهم قوة للباطل في جانب بني أمية، جعلت مواجهتهم لذلك الباطل في أيام الإمام الحسن صعبة جداً، تخاذلوا معه أيضاً, جعلت المواجهة في أيام الإمام الحسين أكثر صعوبة أيضا، وصل الحال إلى أن يصبح واقع الأمة في عصر زين العابدين هو الانكسار، الهزيمة المطلقة، هي الظروف الصعبة, هي الحالات السيئة التي يصنعها تخاذل الناس.

في ضلال دعاء مكارم الأخلاق الدرس الأول صـ 3ـ 4.

 

قد يعجبك ايضا