الرحمة المهداة
حمدي دوبلة
في العام 570 ميلادية كان العالَمُ في ذلك التأريخ قد وصل إلى أقسى درجات الانحطاط الأخلاقي والقيمي وبلغت المظالم بين بني البشر إلى مستوى غير مسبوق فالقوي يبطش بالضعيف كيف شاء وبدون اية قيود أو موانع.
هذا العام اطلق عليه العرب عام الفيل في اشارة إلى معجزة الطيور الابابيل التي ارسلها الله على جيش ابرهة الحبيشي وفيله الضخم بعد ان وصل إلى مشارف مكة بهدف هدم بيت الله المحرم اذ كان العرب يربطون تدوين التأريخ بأبرز حدث تشهده السنة.
كانت الارض في عام الفيل غارقة في ظلام دامس على كافة المستويات الإنسانية فلم يكن في الدنيا في ذلك الوقت غير قوتين عظميين احداهما وثنية وهي دولة الفرس اما الاخرى فقد انحرفت عن مسار النصرانية بعد ان تعرض الانجيل للتحريف والتبديل على ايدي اليهود والنصارى ممن حرفوا كلام الله ليشتروا به ثمناً قليلاً كما ذكر الله ذلك في القران الكريم هذه القوتان الضآلتان دخلا في صراع شامل وتسابقتا على الحاق الدول والشعوب تحت لوائهما وتبعا لذلك فقد تفرق العالم بما فيه العرب في شبه الجزيرة العربية بين هاتين الامبراطوريتين ..اما دين التوحيد الابراهيمي فقد غزاه الشرك وطغت عبادة الاصنام على تعاليم الحنفية السمحاء وصار البيت الحرام يعج بأكثر من 350 وثناً واتخذت كُلّ قبيلة عربية آلهة لها من تلك الاوثان فانتشر الشرك على اوسع نطاق وعمت الفوضى والعبودية وانتهاك قيم الحياة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان كُلّ ارجاء الارض وغادرت القيم والمبادئ نفوس البشر وسقطت المعاني الإنسانية ومفاهيم الخير والسلام من كُلّ المجتمعات عربها وعجمها وسادت فيها شريعة الغاب التي تعطي القوي الحق المطلق في الحياة وفي استباحة اي حقوق للفقراء والمستضعفين فأصبح الظلم والظلام سمتان بارزتان لذلك العصر الاسود.
وكما هي سنة الله في خلقه فحين تشتد الظلمة يكون الايذان ببزوغ انوار الصباح وهكذا جاء مولد الرسول الكريم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب عليه وآله افضل الصلاة والسلام في ذلك العام وفي هذه الظروف بالغة التعقيد والخطورة.
في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل كانت البشرية على موعد مع حدث عظيم من شانه ان يغير وجه الحياة ويبدل بؤسها سعادة وظلامها ضياء ومظالمها وسقوطها إلى قيم ومبادئ إنسانية راقية تنتصر لقيم الحياة وتعيد الكرامة والحقوق لبني الإنسان..وُلد الرسول الكريم وسط تلك الظلمة الحالكة وبعد أربعين سنة من مولده الشريف بدا بمهمته الربانية في انقاذ البشرية وإعادة النور إلى ارجائها المعتمة وحيدا دون نصير أو معين غير الخالق سبحانه وتعالى الذي اصطفاه ليكون رحمة للعالمين واجتباه دون خلقه جَميعاً لحمل رسالة هي الاعظم والاسمى منذ ان خلق الله الارض والسموات إلى ان يرث الله الارض ومن عليها.. وما هي إلا سنوات وإذا بمن بدا وحيداً أمة هي خير أمة اُخرجت للناس ولا تزالُ كذلك إلى يوم القيامة كما ورد ذلك في محكم التنزيل العزيز..ثلاثة وعشرون عاما فقط وهي عمر الدعوة المحمدية المباركة لكنها كانت كافية لإحداث التغيير الجذري في حياة العالم عربه وعجمه لتزول في هذه المسيرة المقدسة المظالم والظلمات وتتهاوى أمامها كُلّ قوى الاستكبار والطغيان وتتلاشى جميع مظاهر الانحطاط الأخلاقي وتعلو راية الخير والسلام وترسى دعائم الحق والعدالة وإذا بأمة العرب المتناحرة والغارقة في الظلم والهَوَان تحملُ لواءَ الحق إلى كُلّ الدنيا.
وما أحوجنا اليوم وقد زاغت الأمةُ عن نهج الاسلام القويم وغرقت في غياهب الصراعات والانقسامات المذهبية والطائفية إلى استلهام الدروس والعبر من ذكرى مولد سيد الخلق والاسترشاد بسيرته العطرة لتقويم ما أصاب الأمة من اعوجاج وانحراف في مسارها الرباني لتعودَ إلى سابق عهدها وتتمكن من تأدية رسالتِها في خدمة الإنسان والإنسانية جمعاء.