القرآن الكريم عمل على أن يدفع بالمسلمين نحو أن يسبقوا الأمم الأخرى في مجال الإبداع ،والتصنيع
موقع أنصار الله | من هدي القرآن |
{فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ} أي ولقد كانوا {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم:48 – 49) كانوا من قبل يائسين واجمين قلقين تصل الحال أحياناً إلى أن يعتقد الناس أنه ربما لن ينـزل مطر فقد يبست حتى [عروق الزِيَل] و(القات) و(البُن) قد تساقطت أوراقه، فأحياناً في اليوم نفسه وفي ساعة من آخر ساعات ذلك اليوم يأتي مطر غزير في لحظة واحدة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} متحسرين ما زالوا متحسرين متضجرين ويائسين.
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الروم:50) وهكذا يأتي الحديث عن نعمه، هداية للإنسان في أكثر من مجال بما فيها إظهار أن من يقدر على أن يحيي الأرض بعد موتها بقطرات الماء هو نفسه من يقدر على إحياء الإنسان بعد موته فتأتي هذه من الدلائل على إمكان البعث والحياة بعد الموت.
يقول تعالى أيضاً: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: من الآية20) ألم تعلموا؟ فما بالكم هكذا؟ ما بالكم هكذا كل واحد منكم ظلوم كفار؟ ما بالكم ليس في قلوبكم ذرة من خشية الله؟ ليس في نفوسكم ولا في ضمائركم تقدير لنعم الله وشكر لهذه النعم، وتقدير له سبحانه وتعالى على ما وهبكم إياه؟
{أَلَمْ تَرَوْا} تأتي عبارة {أَلَمْ تَرَوْا} كثيرا في القرآن بمعنى: (ألم تعلموا) وغالباً ما تكون في الأشياء التي الكثير منها من المشاهدات {أَلَمْ تَرَوْا} يعني: ألم تعلموا وأنتم ترون {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} أسبغ: أنعم نعماً كاملة، شاملة، وليس فقط يعطي القليل أو لا يعطي الحاجة إلا بتعب كبير ومحاولات كثيرة وتلحّ عليه حتى يعطيك هذا الشيء البسيط {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} ما أنتم تلمسونها, وتعرفونها ونعم باطنة كثيرة.
ويقول سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} (الجاثـية: من الآية12) لاحظ كيف تأتي هذه العبارات في هذه الآيات مصدّرة بقوله تعالى: {اللَّهَ} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (إبراهيم: من الآية32) {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}(الجاثـية: من الآية 12 – 13) جميعاً, جميع ما في السموات وما في الأرض سخرها لكم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الجاثـية: من الآية13).
آيات لقوم يتفكرون فيعلمون من خلال تفكرهم عظم نعم الله سبحانه وتعالى عليهم فتلين قلوبهم له, تخشع قلوبهم له, يحبونه, يستحيون من أن يسيروا في معصيته، يتفكرون أيضاً في ما سخر لهم داخل هذا العالم؛ لتتوسع معرفتهم بالله سبحانه وتعالى؛ وليصلوا من خلال تفكرهم ودراستهم لكل ظواهر هذه الحياة, وكل ما أودع في هذا العالم يتوصلون إلى معارف كثيرة في مجال العلوم فيبدعون ويخترعون ويصنعون ويكتشفون الأشياء الكثيرة، وهذه فعلاً من الآيات التي ترشد المسلمين لو ساروا عليها وفهموا ماذا تعني في قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ألم يتحدث بعد قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ}؟
الأوروبيون والأمريكيون واليابانيون وهؤلاء الذين هم من يبدعون ويخترعون ويصنعون من أين جاءت هذه الأشياء؟ أليست من خلال التفكر في ظواهر هذا الكون ودراستها؟ دراسة وتجارب وتفكر داخلها حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكنا نحن ضُرِبنا من قبل الآخرين الذين حولوا كل عبارات التفكر هنا إلى المجال العقائدي فقط, الذي هو فقط يتلخص في الأخير إلى إصدار أحكام حتى ولا يترك أثره في الوجدان، والذين حولوا هذه العبارات (يتفكرون) إلى أن معناها ينظرون فأخذوا منها ..ماذا أخذوا؟ إضفاء الشرعية على النظر وأنه هو الواجب في ميدان التشريع وتركوا ميدان الحياة.
فما الذي حصل؟ لا نفوس صلحت, ولا أمة بقيت متوحدة، كل ينظر في أصول الدين وفي فروعه فتطلع العقائد المتعددة, وتطلع الأفكار الشاذة, وتطلع العبارات القليلة الحياء مع الله سبحانه و تعالى، وفي ميدان التشريع, في مجال الأحكام الشرعية تطلع الأحكام المتعددة, والمذاهب المتعددة والأقوال المتعددة، فنرى أنفسنا أمة متفرقة ممزقة, ونرى ما بين أيدينا من ركام الأقوال لا يقدم ولا يؤخر، نرى أنفسنا في مثل هذا العصر منحطين في أسفل درك في عالم الصناعة، في عالم الاختراع، في عالم الإبداع، فنصبح نحن المسلمون جاهلين حتى باستخدام الآليات التي ينتجها الآخرون فنرى أنفسنا في الأخير كيف خضعنا لهم بل كيف انبهرنا بهم، بل كيف تنكرنا لديننا وحمَّلناه مسئولية تخلفنا.
والواقع نحن الذين ظلمنا ديننا من البداية, نحن لم ننطلق على هداه فظلمناه في البداية، وظلمنا أنفسنا حتى عندما وحينما رأينا الآثار السيئة للمسيرة المغلوطة التي سرنا عليها نأتي من جديد لنحمِّل ديننا المسئولية، نأتي من جديد لنقبل ما يقول الآخرون في ديننا: [دين تخلف] [أفيون الشعوب] لازم أن تلحقوا بركاب الحضارة الغربية، ونلحق بركاب الآخرين، فنتثقف بثقافتهم، القرآن لم يعطنا شيئاً، الدين لم يعطنا شيئاً، فلننطلق وراء الآخرين.
فأصبحنا فعلاً، هيَّأْنا أنفسنا، وهيَّأْنا أولئك الذين صرفوا الآيات هذه إلى المجال الذي ليس من مسئوليتهم، إلى المجال الذي قد تكفل الله به {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} (الليل:12) قد تكفل به {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(الأنعام: من الآية57) تكفل هو بأن يعرفنا بنفسه أن يعرفنا بكماله من خلال كتبه وأنبيائه، تكفل هو بأن يشرِّع لنا من خلال كتبه وأنبيائه وورثة كتبه، إذاً هذا الميدان مضمون، انطلق أنت في ميادين الحياة على وفق ما يرشدك إليه هذا الدين.
عندما تنكرنا لديننا أصبحنا فعلاً بيئة صالحة لتقبل الدعايات ضد الدين، بل أصبح الواحد منا يرى نفسه متحضراً بمقدار ما يتحلل من قيم دينه، بمقدار ما يتنكر لدينه وإلهه، فالقرآن لا شيء؛ ولهذا أصبح في المجتمع الإسلامي علمانيون كثير، علمانيون يتنكرون للدين، ويسخرون حتى من المرأة عندما تلبس الحجاب الإسلامي ويرون فيه مظهراً للتخلف. نقول لهم: لا تحمِّلوا الدين المسئولية، حملوا أولئك الذين نقلوا لكم الدين بشكل مغلوط، ارجعوا إلى القرآن أنتم.
والآخرون الذين أنتم منبهرون بهم هم من شهدوا لهذا القرآن، هم من تجلى على أيديهم من خلال ما أبدعوا إعجاز هذا القرآن. ارجعوا أنتم إلى أولئك الذين قدموا لكم الدين بشكل مغلوط، وشغَّلوا تفكيرهم في المجال الذي قد ضمن لهم، وصرفوه عن المجال الذي أريد أن يتحركوا فيه، أريد لهم من خلال دينهم هو أن يتحركوا فيه، ارجعوا إليهم فتنكروا لما قدموه لكم، وعودوا إلى القرآن من جديد لتعرفوا كيف أن القرآن كان باستطاعتنا لو مشينا على هديه، وعلى إرشاده أن نكون نحن الأمة السباقة حتى في مجال التصنيع، والاختراع، والإبداع في مختلف الفنون.
{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يعني ينظرون، ينظر في ماذا؟ ينظر في مجال معرفة الله، هذا مُحْدَث ولكل مُحْدَث مُحدِث، إذاً فله مُحدِث؟ كلمة مفروغ منها، تعرفها حتى الحيوانات، والنتيجة ما هي؟ النتيجة فقط إصدار حكم، فأصدرنا حكماً بأن الفاعل لهذا الفعل المحكم يسمى حكيماً، فقلنا: حكيم، أليس هذا إصدار حكم؟ حتى لم نحصل على أثر وجداني للمعرفة، وتحصل معرفة بسيطة جداً، ونحو هذه المعرفة المحدودة في واقعها، وعديمة الأثر فيما تتركه في النفوس، يسخّر كل آيات التفكر والنظر نحوها، بينما كان ستحصل المعرفة الواسعة من خلال القرآن وهو يرشدنا في مجال معرفة الله سبحانه وتعالى حينما نري أن كل شيء في هذا العالم يتحرك بالشهادة على كمال الله، وهو يرشدنا إلى كيف نتفكر فيما سخر لنا.
من خلال تفكرنا ودراستنا للأشياء وإبداعنا فيها واختراعنا وتصنيعنا، أليس سيظهر الكثير من الأشياء التي تشهد بعظمة حكمة الله، وسعة علمه ولطفه ورحمته وتدبيره لشئون خلقه وعلمه بالغيب والشهادة وعلمه بالسر في السموات والأرض؟ سيترافق الشيئان.
وهذا هو ما يمكن أن نقول فعلاً: أن القرآن الكريم عمل على أن يدفع بالمسلمين نحو أن يسبقوا الأمم الأخرى في مجال الإبداع والاختراع والتصنيع من منطلق عقائدي, ودافع عقائدي قبل دافع الحاجة التي انطلق على أساسها الغربيون، الحاجة والفضول هذا شيء، لكن القرآن أراد أن ننطلق في ما نفهم, أن ننطلق باعتبار هذا عبادة، بدافع عبادي (تفكروا) (يتفكرون) والتفكر ما هو؟ دراسة الأشياء، فهمها، متى ما فهمنا هذه العناصر في هذه الأرض فبطابع الفضول الموجود لدى الإنسان سنحاول أن نجرب كيف سيكون إذا أضفنا هذا إلى هذا، بعد أن عرفنا طبيعة هذا العنصر وطبيعة هذا العنصر، كيف إذا أضفنا هذا إلى هذا بنسب معينة زائد نسبة من هذا ماذا سيحصل؟ قد يحصل كذا فتأتي التجارب.
بل سعة حياة الإنسان وسعة حاجاته أيضاً ستعمل الحاجة ستضيف أيضاً أثرها في الموضوع فيتجلى الكثير من الأشياء التي تفيد في المجالين: تفيد في معرفتنا بالله سبحانه وتعالى معرفة متجددة واسعة، فنحن في كل فترة في كل لحظة يتجلى على أيدينا شواهد كثيرة جداً جداً تعمق في أنفسنا المعرفة الواسعة بحكمة الله وعلمه وأولوهيته وتدبيره ووحدانيته وكماله فنزداد خشية ونزداد معرفة فيما ننتج في واقع الحياة.
معرفة الله – نعم الله – الدرس الثاني / ص – 11 – 12.
ألقاها السيد / حسين بدر الدين الحوثي / رضوان الله عليه.