من الكعبة إلى الكوفة ..
موقع أنصار الله || مقالات || عبدالملك سام
في إحدى الليالي، يقف رأس الدولة، وأهم رجل لأهم دولة العالم في ذلك الوقت، يقف ليصلي نافلة الليل وحيدا دون حرس .. قلبه المتعب من كثرة الهموم والمصاعب التي حاول حلها منذ الصباح من مشاكل رعيته، ولذلك فهو لا يجد الراحة إلا عندما يخلو بنفسه ويصلي الليل، وهو أعلم من في الأرض منذ وفاة نبيه وقائده وابن عمه وأبو زوجته البتول، وهو من قال عنه أنه بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعده ..
القوم قد اعتادوا التجبر، خاصة والنموذج الفرعوني ما يزال موجودا في الشام، تلك المملكة التي وهبت ممن لا يملك لمن لا يستحق، أما النموذج الذي يقدمه أمير المؤمنين علي (ع) فهو نموذج جديد عليهم، سلطة لا خوف فيها ولا رياء، لا مواكب فيها ولا ربوبية لغير الله، لا قهر فيها ولا استكبار .. ولأن الكثيرين لم يفهموا بعد قيمة العدل والحق والخير فقد اطمأنوا واستكانوا للقعود، بينما الشياطين شحذوا خناجر الغدر ليقضوا على هذا النموذج الذي سلبهم التكبر والتجبر والمال الحرام الذي كانوا يأخذونه دون وجه حق ..
متسلحا بالغدر، مدفوعا بالحقد، ومستغلا نوم الناس وغفلتهم، اتجه الشقي (ابن ملجم ) لينجز ما عاهد الشيطان عليه، فهو لن يجرؤ أن يقاتل هذا الأسد الواقف في المحراب، فقد راقبه ليالي كثيرة، وهو قد شاهد قوة بأسه وتبسمه في ميادين المعارك التي جندل فيها أقوى وأعتى الفرسان، إذن فلا سبيل لينجز مهمته وينال ثمنها سوى أن يكمن له في بيت الله، فهو يعرف أن هدفه يكون مشغولاً بذكر ربه منقطعا عما دونه، وهذا ما تأكد منه بعد أن رآه على هذه الحال ليلة بعد أخرى ..
كان اللعين ابن ملجم يتظاهر بالخشوع ليلة بعد ليلة حتى اطمئن أصحاب أمير المؤمنين لوجوده، وفي هذه الليلة وجد الظروف مهيأة أكثر من الليالي السابقة، لذا تحرك سريعا ليخرج سيفه من مكمنه، وتحرك بسرعة على أطراف أصابعه، ورفع سيفه لينهي مهمته، التي ستظل الأمة بعدها تنحدر إيمانيا وأخلاقيا وحضاريا حتى تصل إلى أن تكون أذل الأمم على وجه الأرض، بل تحت من ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم الدين !!
الحادثة معروفة، ودوافعها مفهومة، فقد ضاق الباطل بعدل وإيمان علي، وقد تضررت الأمة بأكملها مما حدث، فلم ينج الظالمون، ولم يسلم الساكتون .. لقد بدأ انحدار الأمة من لحظتها حتى وصلت إلى الوضع البائس الذي تعيشه اليوم، ودارت المؤامرات في كل قصر لطاغية، فقتل من قتل وهلك من هلك، وكل تلك الروايات التي ملأوا بها الكتب عن الحضارات التي أقيمت وحكمت ما هي إلا حكايات لتجمِّل واقع الظلم الذي لحق بالناس، فحكايات القصور والجواري والخمور والطغيان والمؤامرات أخفت خلفها واقع الفقر والقتل والظلم حتى يومنا هذا .
استشهاد الإمام علي -عليه السلام ليس قصة اغتيال سياسي فحسب، بل هي عملية اغتيال لكل ما كان يمثله الإمام علي من قيم وأخلاق ومثل وعلم وعدل وجهاد، ولعل ما يجعلنا نعرف أكثر عن علي -عليه السلام ما نطق به بعد استهدافه حين قال : ( فزت ورب الكعبة )، وهو من جعله النبي مقياسا للإيمان والحق والامتثال بتعاليم القرآن، وكم قيل وكتب عن الإمام علي -عليه، السلام الذي أعجز الظالمين الضالين الذين لاحقوا ذكره عبر كل العصور لمحو ذكره وسيرته العطرة، فأنار ما بين المشرقين رغم أنوفهم، كيف لا وهو وصي وخليفة وأخو وصهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو الأئمة الأطهار ..
فسلام الله عليه يوم ولد بالكعبة، ويوم استشهد بالكوفة، ويوم يبعث مع حبيبه وقائده ومعلمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. اللهم احشرنا في زمرتهم، واجعلنا ممن عاش ومات على محبتهم، وممن جاهد وانتصر لمبادئهم .. اللهم إنا نتولاك، ونتولى نبيك، ونتولى الامام علي، ونتولى من أمرتنا بتوليهم من الأئمة الأطهار، ونبرأ إليك من عدوك، وعدو نبيك، وعدو الإمام علي، وأعداء دينك من اليهود والنصارى والكفار والمنافقين .. والعاقبة للمتقين .