أرادوا أن يُطفئوا نور الله.. فأبى الله إلّا أن يُتم نوره
موقع أنصار الله || مقالات || زينب العياني
أُخمدت الأصوات وماتت الحُرية، تعددت المذاهب المُحرّفة للدين، وأصبح بلد الإسلام زنزانة لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله- ومن يحمل دينهم ويحذو حذوهم.
في زمانٍ أعظم ما يُسمى بزمن الجاهلية، حالت الدولة الأمويّة لإطفاء نور الله بإنهاء عترة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله- وقتلهم بأبشع صورة، بعد مجزرة كربلاء التي تمزقت فيها أطهر الخلائق من آل محمد -صلى الله عليه وعلى آله-، الحسين السبط وأبناؤه وبنو أخيه وبنو عمه -عليهم السلام- الذين تم إعدامهم بأقسى الطرق الإجرامية، حتى أصبح الناس يتعاملون مع أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله- مثل ما يتعاملون مع المُصاب بالجذام، الجميع يتجنبهم تجنب النار المُهلكة خوفًا على أنفسهم من حُكام بني أميّة المتجبرين.
بعد ثورة الحسين -عليه السلام- انتقل العقب من أولاده علي -عليه السلام- الملقب بزين العابدين إلى مدينة جده محمد -صلى الله عليه وعلى آله-، عاش هُناك وخلّف محمد الباقر وإمام الأولين والآخرين زيد -عليه السلام- فاتح باب الجهاد والاجتهاد الغاضب لله في أرضه مُحيي السُّنن والفرض.
كبر الإمام زيد بن علي -عليه السلام- وترعرع في حجر أبيه السجاد زين العابدين الذي كانت تسجد الأشجار مع سجوده وتُسبح بتسبيحه لشدّة خشوعه وخضوعه بين يدي الله، تربى الإمام زيد -عليه السلام- الملقب بحليف القرآن لعمله به وتلازمه معه، على أخلاق آبائه وجده رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله-، كان الإمام زيد -عليه السلام- منذ أن كان طفلًا يستاء لحال أُمَّـة جده التي أصبحت شتى، وخرجت عن مسارها الصحيح الذي شقَّه لها نبيُّها محمد -صلى الله عليه وعلى آله- وانحرفت عنه.
كان الطاغية هشام بن عبدالملك قد جعل حُكامه بالمدينة، يُحاصرون الإمام زيد بن علي -عليه السلام- ويحرسون حتى أنفاسه خوفًا من أن يدّعي الإمامة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كان الإمام ذلك الحين يختلي بربه أغلب وقته، ظلّ يتمعن بالقرآن الكريم ويتأمله ثلاثة عشر عاماً، كان لشدة خشوعه إذَا تُلي عليه القرآن يخر مُغشيًا عليه.
بعد أن بلغ عمره خمسة وثلاثين عاماً، كانت قد اكتملت فيه شروطُ الإمامة، وانتشر صيته وعلمه بين الناس، حيث أنه شُبّه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- في الفصاحة والبلاغة والبراعة، فبدأ -عليه السلام- بالتجمع مع البضعة المتبقية من أهل البيت ليحاورهم في حال الأُمَّــة وكيفية استنهاضها من جمودها وتيهيها إلى الصراط المُستقيم.
كان يحرص أَيْـضاً على تدريس الناس القرآن وتفسيره لهم، وتوضيح الناسخ والمنسوخ والمحكم والمُتشابه فيه، حريصًا على ربطهم به، وتعليمهم أمور دينهم ومَـا هو لهم وماذا عليهم، وجميع فرق الأُمَّــة الإسلامية أجمعت على مبايعته آنذاك، ما عدا الرافضة الذين رفضوه وادّعوا أن ابن أخيه جعفر الصادق هو الإمام، وسبب مفارقتهم له مذكور في كتاب معرفة الله للإمام الهادي إلى الحق، وغيره من مؤلفات الأئمة والأمة، فإن الأُمَّــة أجمعت على أن الرافضة هم الفرقة الناكثة على الإمام زيد بن علي، ولكنها اختلفت الروايات في سبب نكثهم عليه، وأهل البيت أعلم بهذا الشأن.
وروى فيه السيد أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون الحسني في كتاب الدعامة: أن جميع فرق الأُمَّــة اجتمعت على إمامة زيد بن علي -عليه السلام- إلا هذه الفرقة التي تقدّم ذكرها، فقال لما شهر فضله وتقدمه وظهر علمه وبراعته، وعرف كماله الذي تقدم به أهل عصره، اجتمع طوائف الناس على اختلاف آرائهم على مبايعته، فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلي، ولا المعتزلي أسرع إليها من المرجي، ولا المرجي من الخارجي، فكانت بيعته -عليه السلام- مشتملة على فرق الأُمَّــة مع اختلافها ولم يشذ عن بيعته إلا هذه الطائفة القليلة التوفيق.
إلى قوله: وكان أفضل العترة؛ لأنه كان مشاركاً لجماعتهم بوجوه لم يشاركوه فيها، فمنها اختصاصه بعلم الكلام الذي هو أجل العلوم وطريق النجاة، والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلا معه والتقدم فيه والاشتهار عند الخاص والعام.
هذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يصفه في صنعة الكلام ويفتخر به ويشهد له بنهاية التقدم، وجعفر بن حارث في كتاب الديانة وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبدالله الإسكافي وغيره ينسبون إليه في كتبهم، ويقولون: نحن زيدية وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه مع أنها تنظر إلى الناس بالعين التي ينظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً، فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه على كُـلّ أحد في فضيلته لما انقادت له المعتزلة.
واجه الإمام -عليه السلام- الكثير من الطواغيت الذين يريدون إيقافه وثنيه عن نشر الدين المحمّدي وإطفاء نوره الذي ملأ الأركان بالعلم والإيمان والزهد والورع والتقوى والإحسان، لكن الإمام زيداً -عليه السلام- لم يهَن ولم يرتد، وكيف لذلك العظيم أن يضعف وهو القائل (من أحبّ الحياة عاش ذليلاً).
دعا الإمام -عليه السلام- كُـلّ الذين قاموا بمراسلته وعاهدوه على البيعة له، لمحاربة بني أميّة، عندها لم يكن جيش الإمام -عليه السلام- إلا ثلة وقفت بقيادته لمُقاتلة اثني عشر ألفًا، هزم الإمام زيد -عليه السلام- الجيش الأموي وأنقذ الكوفة من بطش أمير الدولة الأمويّة هشام بن عبدالملك، ولكنَّ أهل الكوفة انقلبوا على الإمام -عليه السلام- كالوحوش، نقضوا البيعة وخذلوا سبط رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله-، وكأنهم ليسوا الذين أرسلوا له آلاف الرسل لينقذهم من بطش بني أميّة، ولكن ذلك ليس بغريب عليهم فقد فعلوها قبل ذلك.
غدروا به وبالذين معه وبارزوهم حتى أصابوا الإمام زيداً -عليه السلام- في جبينه الطاهر بسهمٍ غادر، فنطق الإمام بصوت يملأه الإيمان والحب للقاء الله: (الشهادة الشهادة، الحمدُ لله الذي رزقنيها).
وهل اكتفى أهالي الكوفة والأمويّون بقتل الإمام زيد؟!
بعد استشهاد الإمام -عليه السلام- أخذ جثمانَه بضعةُ أشخاص من المحبين له لدفنه خفية من دون أن يعرف أحد من بني أميّة وأهالي الكوفة مكان جثمانه، فعلم الطواغيت بمكان قبر الإمام زيد -عليه السلام- فأخذوه وقطّعوا رأسه الشريف ليطوفوا به في البلدان، أما جثمانه الطاهر قاموا بنصبه وتعريته للمارة، حقدًا وبغضًا لهذا الرجل الرباني.
بعد صلبهم للإمام زيد -عليه السلام- ظهرت فيه الكثير من الآيات منها العنكبوت التي نسجت خيوطها لستر عورته فأزالوها أُولئك شذاذ الآفاق، وبعدها استرسل من بطنه لحم من أمامه وخلفه ليستر عورته، وبقي الإمام زيد -عليه السلام- مصلوبًا أربع سنوات، وكانت تظهر لهم المعجزات في جثمان هذا الرجل العظيم، رائحته كانت كالمسك فلم تكن كرائحة شخص مصلوب، فأصبح الكثيرُ يقول بأن هذا ليس رجلًا عاديًّا، فلا ريب أن له شأناً كَبيراً عند ربه، فخاف الأمويون أن ينقلب السحر عليهم، فعمدوا إلى إحراقه حتى أصبح رمادًا، ومن ثم ذرُّوا بجزء منه في نهر الفرات.
أية جُرأةٍ ووقاحة التي تجرأ بها أهالي الكوفة والأمويّون على انتهاك أطهر حرمات الله حرمة نبيّهم، الإمام زيد -عليه السلام- وقبله جده سبط الرسول -صلواتُ الله عليه وآله-، الحسين وأهل بيته -عليه السلام-.
أرادوا إطفاء نور الله بإحراقهم للإمام زيد بن علي -عليه السلام- وتحويله إلى رماد، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المنافقون، فالإمام -عليه السلام- لم يمُت فهو ما زال حيًّا وكائنًا بيننا، حتى الآن بعلمه ومذهبه الذي أسسه لنا، نحن الزيدية، منهج الحق والعدل الذي لا تفريط ولا إفراط في تأصيله.