«تحرير» على الطريقة الأميركية !!
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية || عامر محسن – صحيفة “الأخبار” اللبنانية
مع عدم التقليل من أهمية الأحداث السياسية الجارية في بغداد، فإنه لا يجب أن ننسى أن العراق في حالة حرب، وأنّ متغيّراتٍ كثيرة تحصل خلف الكواليس، وأميركا ــــ كوجود عسكري مباشر ــــ قد عادت الى البلد.
بهذا المعنى، فإن تعقيدات الحرب ونتائجها ومسار «تحرير الموصل» قد لا تقل أهمية، في تقرير مستقبل العراق، عن أزمة النظام السياسي في بغداد.
بعد زيارة الى العراق، كتب الباحث كينيث بولاك تقريراً من ثلاثة أجزاء حول «الحرب الأميركية ضد داعش» وخطة تحرير الموصل. يكتب بولاك أساساً في الشؤون العسكرية، وقد أصدر عام 2002 كتاباً مرجعياً حول الجيوش العربية وأدائها الحربي؛ الّا أنه، اثر أحداث 11 ايلول وغزو العراق، ابتعد نسبياً عن المجال البحثي الأكاديمي الصرف واقترب من دوائر صنع القرار العسكرية والسياسية في اميركا، وله عدة تقارير استشارية سابقة عن العراق أيام الاحتلال وقد أصبح في فترة مديراً لمعهد «بروكنز» في واشنطن.
يدّعي بولاك أن أحد أهم الأحداث التي لا تتم تغطيتها في الإعلام هو النجاح الأميركي في بناء حملة غربية ضد «داعش» في العراق. بناء على مشاهداته ومقابلاته مع الضباط العراقيين والأميركيين، يقول الباحث إن اميركا قد درّبت وجهّزت، خلال السنة الماضية، ستة ألوية من الجيش العراقي، تقاتل تحت اشرافها، وتشكّل القوة التي يريد لها «التحالف» أن تسترجع الموصل (تسمّى رسميا «ألوية هجوم الموصل المضاد»). يؤكّد بولاك أن هذه الألوية أثبتت اداءً متفوّقاً عن باقي الوحدات العراقية، وكانت هي من قاتل في تحرير الرمادي مؤخراً، «ما يرفع من هيبتهم ومن تأثير الولايات المتحدة (داخل العراق)».
هذه الوحدات «التي أعاد التحالف تدريبها وتجهيزها»، بحسب بولاك، والتي تقاتل تحت اشراف المستشارين الأميركيين (وبمشاركتهم)، يتمّ تحويل بعضها شمالاً من أجل المعركة المنتظرة في نينوى. يقدّر الكاتب أنّ عملية التحالف الغربي، لو وضعت الموصل كأولوية واستمرّ تقهقهر دفاعات «داعش» غرب الفرات، فهي قد تدخل المدينة خلال ستة أشهر الى سنة من اليوم.
وفق تحليل الباحث، يرجع هذا «النجاح المتوقع» لخطة «التحالف» الى ثلاثة عوامل أساسية:
1ـــ الضعف المتزايد لتنظيم «داعش» بعد عامين من الغارات الجوية والقتال على أكثر من جبهة، وخسائر بشرية لدى شنّ الهجمات تصل «بشكلٍ اعتيادي» الى أكثر من 60 في المئة من القوة المتقدّمة (يقول إن «داعش»، بسبب هذه الخسائر، لم تتمكن من شنّ هجومٍ واسعٍ النطاق منذ ما يقارب السنة، حين استولت على تدمر والرمادي).
2ــــ التدريب والتجهيز الأميركي، والإنخراط المتزايد لعناصر أميركية في المعركة؛ اذ يعترف بولاك أن العدد الحقيقي للقوات الأميركية في العراق ليس 3800 «مستشار» كما تدّعي واشنطن، بل أكثر من خمسة آلاف جندي وضابط. 3ــــ تغيير قواعد الاشتباك والقصف لدى طيران التحالف، اذ لم تعد الغارات تقتصر على الأهداف التي يحددها ويوافق عليها الجنود العراقيون على خطوط النار، بل صارت الطائرات تقصف بحريّة و»تحرث الأرض بالغارات أمام التشكيلات العراقية حتى في أصغر الهجمات».
من جهةٍ أخرى، فإن بعض الوقائع تثير شكوكاً حول هذا التحليل وفرضياته، سواء في ما يتعلق بضعف «داعش» واقتراب نهايته، أو بكفاءة القوات والميليشيات التي تدرّبها أميركا. منذ أيامٍ فقط، في تلسقف شمال الموصل، تمكّنت قوات «داعش» من شنّ هجومٍ مفاجىء على الوحدات الكردية، وتسلّلت خلف خطوط «البشمركة» مستخدمة جسوراً متحرّكة لاجتياز الخنادق الدفاعية، وقد قُتل في الهجوم جندي أميركي ينتمي الى القوات الخاصة في سلاح البحرية (والملفت أن القوات الكردية على الجبهة، التي دربها وسلحها الأميركيون ايضاً، قد هربت وتركت مستشاريها الأميركيين ليحاصرهم مقاتلو «داعش»، وقد تم انقاذهم باستخدام الحوامات).
إضافة الى ذلك، يؤكد بولاك أن الوسيلة الأساسية في «تحرير» المدن العراقية، وفقاً للسيناريو الأميركي، يتلخّص في استخدام القوة الجوية بشكل مكثّف، ويكون دور القوة البرية أساساً في التقدّم لاحتلال الركام الذي تتركه الطائرات. هذا الإعتراف يذكّر بمقابلةٍ مع قيس الخزعلي، أحد قادة «الحشد الشعبي»، حين سئل عن الرمادي إثر تحريرها بمساهمة كبيرة للطيران الغربي، وهي المثال الذي استخدمه بولاك. وقتها، ضحك الخزعلي متسائلاً لماذا لم يرفع العلم العراقي في الرمادي على مبنىً حكومي أو منزل، في اشارة الى أنّه لم تتبق في المدينة مبانٍ قائمة. ذكر الخزعلي جملة من الإحصاءات تقول إنه، على طريقة معركة الفلوجة الثانية عام 2004، وصلت نسبة الدمار في مباني الرمادي الى تسعين في المئة، في حين أن كامل البنية التحتية صارت أثراً بعد عين. يقارن الخزعلي هذه الحالة مع تحرير تكريت، حيث لم يزد عدد المباني المدمرة في المعارك على 300 مبنى (من أصل أكثر من 22 ألف مبنى في المدينة)، وقد عاد التدريس في جامعة تكريت بعد أسابيع من خروج «داعش»، في حين لن يجد أهل الرمادي شيئاً يعودون اليه، أو امكانية للحياة في مدينتهم بعد «تحريرها» (هذا مع العلم بأن الرمادي مدينة كان جزءٌ أساسي من أهلها، قبل المعركة وخلالها، يعادي «داعش» ويحاربها).
المفارقة هنا هي أنّ الإعلام العربي، الذي ملأ الأثير تحريضاً على العراقيين وبينهم، لن يمانع أن يتمّ «تحرير» الموصل على هذه الطريقة وبأيدي الأميركيين؛ ويفضّل أن يدمّرها الطيران الأميركي على أن يتولّاها الحشد الشعبي ــــ الذي حرّر عشرات آلاف الكيلومترات، وحمى بغداد من السقوط، واسترجع صلاح الدين، وهو القوة الوحيدة التي تواجه توسّع البرزاني وميليشياته (فالحشد، تقول أصوات الخليج، أشرارٌ ويسرقون الثلّاجات). بل أنّه يمكننا الجزم بأن الفلّوجة، لو تمّ دخولها تحت اشراف اميركا، ومسح الطيران المدينة بأكملها، فإن واشنطن ستوعز لحلفائها بالصمت وسيستكين إعلام الخليج و»مثقفوه».
الأساس هو أنّ الجبهة ليست في بغداد فحسب، ومن المستحيل فصل قضايا السياسة عن المعركة الكبرى التي يواجهها البلد، فيما واشنطن تعود بجنودها، وتنشىء ألويةً «لها» داخل الجيش، وتخطط لحملات عسكرية قد تنتهي ــــ لو سارت حسب إرادتها ــــ و»داعش» قد خرجت من شمال العراق، ولكن نينوى كلها خرابٌ وشقاق (حتى بولاك يعترف بأن واشنطن لا تملك خطة ادارة أو إعمار لما بعد دخول الموصل). في هذا السياق، قد تناسب الوضع في العراق، والعديد من بلادناِ، مقولة دونالد ترامب: «قبل أن نختلف على شؤون وطننا، يجب أن يظلّ لدينا وطنٌ أوّلاً».