الوهّابية السّعودية… وديمقراطية الكهوف…؟
مملكة الوهّابية تغادر دبلوماسية حقيبة الدولارات، والتآمر عن بعد، لتدخل دون مواربة حقل اختبار القوة والمكانة والحجم، تجازف برصيد عقود طويلة من اللعب عبر الوسطاء، والتحرك خلف الكواليس، لاقتناص ما تعتبره فرصة تاريخية لتنظيف صفحات السلالة الحاكمة من الدسائس والتواطؤات والتهرب السلس من الاستحقاقات العربية والإسلامية، لكي تدير بانسيابية الأفاعي العملية المعقدة لتلزيم المنطقة سياسياً الى تحالف الأصوليات في الشرق والغرب، وأمنياً الى المنظومة الأطلسية، وإلا فكيف يمكن ليّ عنق الثورات على أبواب مملكة الوهابية وكيف يمكن دون ذلك حماية عرش النفط الوهّابي؟
مسألتان أشير إليهما في البدء:
الأولى: أنّ التّكفيريّة بدأت مذهبيّة وهّابيّة، ولا تزال عند أهلها، وانتهت أنّها خيار سياسيّ، إذ تجد تكفيريّاً مُعرِِضاً عن كلّ الواجبات الدّينيّة، ولا يهمّه أمر الشّرع في قليل أو كثير، وهو في صفوف التّكفيريّين الوهّابيّين.
الثانية: هي أنّ الدّوائر الغربيّة الصهيونيّة التي تدير اللعبة تريد أن تضرب ضربة مزدوجة، فهي حريصة على إعادة تشكيل جغرافية المنطقة، بما يخدم المشروع الصّهيوني، كما أنّها تريد صياغة أخلاق تكفيريّة، نفسيّة، جديدة تنسجم مع تلك التّوجّهات.
ففي ظروف الإفقار والتجهيل والتهميش ينشط الفكر الوهابي المتطرف ليشكّل وعياً زائفاً ومنقلباً يحيل صبّ النقمة الناتجة عن وضع سياسي واقتصادي متردٍّ، إلى فئة أو طائفة بعد التمهيد لشيطنتها وتكفيرها وبالتالي تحليل قتلها.
ومما يثلج الصدر أنه تنادت اليوم في العديد من دول العالم لتأسيس منظمات وجمعيات ومؤسسات تكشف زيف وخداع وتطرف الفكر الوهابي السعودي. فقد أكدت مصادر أكاديمية وصحفية بريطانية أن اتصالات تجري منذ أسابيع بين عشرات من المثقفين والأكاديميين من جنسيات وقارات مختلفة لإنشاء ''الجمعية العالمية لمناهضة الوهابية بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية'' بعد استشعار أخطارها الكبيرة على المجتمعات كافة.
أكاديمي بريطاني من جامعة ''أكسفورد'' قال إن الفكرة ولِدت بعدما تزايد نفوذ الوهابية والأدوار التي تلعبها في عمليات التحريض على القتل الجاري في العديد من البلدان العربية، فضلاً عما لعبته وتلعبه في أماكن أخرى من جاكرتا شرقاً إلى نيويورك غرباً.
وقالت صحفية بريطانية من مجلة The Red Pepper وهي تُشارك في عملية التأسيس الجارية الآن: إن الوهابية أشد خطراً على البشرية ومستقبلها من الصهيونية، رغم أن كلتيهما تشربان من كأس فكري عنصري واحد، بالنظر لأن الصهيونية غالباً ما انحصر نشاطها في إطار رعاية مصالح إسرائيل في صراعها مع الدول العربية، أما الوهابية فهي صليبية جديدة مضافاً إليها فكر تكفيري لا يتردد في القتل بإسم الله حتى في أوساط المسلمين السنة الذين يختلفون معها. وأضافت الصحفية، إن الصهيونية ورغم أنها وقفت خلف المشروع الكولونيالي في فلسطين، إلا أنها بقيت تنطوي على الكثير من العلمانية، وبالتالي إمكانية وجود ولو مساحة صغيرة للنقاش والحوار مع الآخر الكاذب والمخادع، أما الوهابية فتريد تحويل العالم ذكوراً وإناثاً إلى مقبرة جماعية للأحياء، أنها تتدخل حتى في طريقة نوم الزوج مع زوجته في غرفة النوم، وتعتبر الطفل الوليد من علاقة مضاجعة لا يكون فيه رأس الزوجة باتجاه القبلة إبن زنا، وهو أغرب فكر عرفته البشرية في تاريخها كله منذ أن كانت في الكهوف وقبل أن تنتقل للعيش في قرى ومساكن شكلت المظهر الأول من مظاهر التحضر البشري!. فالمبادرة الوليدة التي يتبناها مفكرون وسياسيون ومثقفون لاعتبار الفكر الديني المتطرف (الوهابي) مثالاً فكراً عنصرياً لا يقل عدوانية عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا أو غيرها أو عن النازية التي دمرت نصف العالم بفكر يعتقد أنه الأفضل، هي مبادرة هامة ويجب علينا جميعاً الإسهام فيها كل حسب موقعه وجهده.
لقد شهد القرن الثامن عشر في بلاد نجد والحجاز قيام الحركة الوهابية كحركة دينية اعتمدت في نشوئها على المذهب الحنبلي وعلى إضافات ''ابن تيمية'' وكلاهما كان إرساء لحالة القطيعة بين الدين والفلسفة التي نشأ عنها ''المعرفة الجامدة'' إذ تحولت هذه الأخيرة إلى مجرد صيغ إنشائية لا يربطها منطق متماسك يُجيب عن أسئلة العصر.
يقول ابن تيمية: ''يجب ألا يُعطى العقل ثقةً مطلقة وأن العقل البشري لا يملك الكفاءة للتعديل على القضايا التي جاء بها الوحي''. فالقول واضح ويشير إلى أن العقل البشري (بحسب ابن تيمية) لا يمكن أن يكون نداً للوحي ولا يمكن لهذا العقل أن ينتج معارفه خارج السياق الذي جاء به.
رفعت الوهابية شعار تقديس النص وربطها بالجغرافيا التي وقع فيها في محاولة لترجيح اعتماد النص كمعيار في التشريع الاجتماعي بدلاً من ''الإجماع'' الذي من شأنه أن يفقد السعودية ميزة التشريع، في الوقت الذي يحوِّل فيه (تقديس النص) أقاليم مثل بلاد الشام والرافدين ومصر إلى أقاليم تتلقى الفتاوى ولا تنتجها. رسم المدى الذي وصلت إليه الوهابية قبيل منتصف القرن التاسع عشر حدود المملكة التي أعلنها فيما بعد عبد العزيز آل سعود بعد أن أرخى ''روزفلت'' مظلته عليها في عام 1945. يمثّل قيام الإمارات الأخرى المجاورة للمملكة إرضاء للعشائر التي تقيم فيها ولا تريد الوقوع تحت سلطة آل سعود، ما خلق تناقضاً بين الإمارات والمملكة من الصعب أن تمحى آثاره على المدى المنظور. فالبنية السياسية التي نشأت في تلك الإمارات المتناقضة أعطت أجنَّة وُلدت بحالة إعاقة ومن الصعب تقويمها حتى بالجراحة، فقد نحت هذه الإمارات لحماية وحدتها الداخلية عبر التركيز على وجود عدو خارجي جعلت من وجوده أمراً يتناقض تماماً مع وجود كياناتها.
للوهلة الأولى يمكن فهم هذه الحالة وهي قائمة في الكثير من الكيانات السياسية في العالم، إلا أنها في الحالة الخليجية تأخذ طابعاً إشكالياً كبيراً إذ إن هذا العدو المختلق (إيران) ينضوي تحت لواء الشريعة الإسلامية التي تعتمدها تلك الإمارات منهجاً لمسارها وهذا الكيان يرفع القرآن شعاراً له ويؤمن بقول الرسول (ص): لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ما يخلق ازدواجية في المعايير قد تقلب الطاولة رأساً على عقب، إذ إن الغوص في تلك المعايير يوصل إلى تهديد الكيانات الخليجية القائمة برمتها، حيث يفترض ذلك البناء أن جزءاً لا يستهان به من السكان هم عملاء لذلك العدو الذي تحاول السياسات الإعلامية الخليجية ترسيخه في شعوبها الأمر الذي يخلق التباساً في مفهوم المواطنة التي تعتبر أساساً ومبرراً لقيام واستمرار أي كيان.
استثمر التشدد الديني في شبه الجزيرة، الناجم عن الوهابية في النزاعات العالمية تحت أنظار حكام الخليج وعلى مسمع من آذانهم، فقد قدمت السلطات السياسية في هذه الكيانات الدعم اللوجستي اللازم لقوافل المتطوعين للوصول إلى أفغانستان حيث تستمر المعركة هناك ضد الشيوعيين (الكفرة) وفتحت المكاتب لتأمين وصولهم إلى أرض المعركة المقدسة التي استمرت بلا هوادة من العام (1979 ـ 1989) وكان ''النصر'' حليف ''المجاهدين''.
كان صانع القرار السياسي في الخليج يرى في الخطوة إيجابيات عدة تخدم مصالحه لعل منها علامات الرضا التي عبّرت عنها الإدارة الأمريكية طيلة قيام هذه الحرب إلى حين انتهائها إضافة إلى رأي أمني يرى بأن من شأن هذه الخطوة أن تؤدي إلى التخلص من المتشددين عبر إرسالهم إلى معركة خارجية لا أحد يعلم متى ستنتهي وقد تكون نهايتهم قبل أن تأتي نهاية الحرب.
وأثبتت التطورات المتلاحقة أن صانع القرار السابق الذكر لا يرى أبعد من أنفه بكثير، فعندما انتهت الحرب، عاد المقاتلون إلى بلدانهم بعد أن أقاموا ما يشبه ''الكومنترن'' العسكري الذي يرتكز على أن الله اختارهم وحدهم لإعلاء كلمته في أرجاء المعمورة، وما محاربة الشر الأصغر (الاتحاد السوفييتي) سوى الخطوة الأولى لمحاربة الشر الأكبر (أمريكا) والحكومات التي تساندها في المنطقة، لقد انقلب السحر على الساحر.
لقد تلقف آل سعود في القرن التاسع عشر محمد بن عبد الوهاب الذي لا يعرف له نسب ولا تاريخ ديني أو فقهي، وصنعوا منه شبه نبي ووفروا له الغطاء السياسي والاجتماعي المناسب لنشر فكره ومذهبه التكفيري الذي أقاموا عليه أركان دولتهم الأولى التي انهارت قبل أن يقوى عودها ففروا إلى الكويت ليعيدوا تجميع أنفسهم وقوتهم لإعادة إنشاء دولة الأسرة التي لا تشبهها دولة في العالم.
الدولة الثانية التي أنشأها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود كانت سلطنة محصورة في نجد بوسط الجزيرة العربية وكان أول ضحايا توسعها آل الرشيد سادة نجد وبعض القبائل من أصحاب الأرض الأصليين الذين قضى عليهم بحد السيف، ليبدأ بعد ذلك العمل على تحقيق حلمه وحلم آبائه في إقامة مملكة سعودية وهابية كان من أبرز أهدافها السيطرة على الحرمين الشريفين والتحكم في مقدرات الحج كمصدر دخل مهم لمملكة لا تملك شيئاً، وتمهيداً للسيطرة على أتباع المذهب السني في العالم، واستخدامه لخدمة مصالحهم السياسية باستصدار فتاوى تمنع وتحدد وتتلاعب في ممارسة شعائر هذا الركن وتؤثر في الإسلام كدين سماوي تأثيراً مباشراً، ولا أريد الخوض في التفاصيل لأن هدفي الأساسي تقديم وقائع حقيقية في دولة لا قيمة فيها للمواطن مهما علا شأنه ومكانته لأنه عبد لآل سعود الذين يملكون أرض الجزيرة العربية ومن عليها وما فيها، حتى إن أحد أفراد الأسرة قال في تصريح صحفي نشر مؤخراً: إن الله اختارنا لحكم الجزيرة العربية، وهو منطق الصهاينة نفسه في فلسطين.
ومن قرأ ثلاثية الأديب عبد الرحمن منيف (مدن الملح) يعرف طبيعة تكوين هذه الدولة التي كانت بداية تكوينها المشكوك فيه على يخت أميركي في البحيرات المرة بمصر عام 1946 الذي جمع الرئيس الأميركي روزفلت والملك السعودي عبد العزيز الذي قال لروزفلت: لكم النفط ولنا حكم الجزيرة العربية بدعمكم، وعلى هذا الأساس ولدت مملكة آل سعود، وأنشئت شركة أرامكو الأميركية التي تتحكم بالنفط والتي كانت وما زالت دولة في قلب المملكة السعودية لا سيطرة لهم عليها إلا بتعيين مدير شكلي لها.
لقد أقام عبد العزيز مملكته على أرجاء الجزيرة العربية بحد السيف وسفك دماء معارضيه بلا رحمة مستخدماً مجموعة من المرتزقة المأجورين من صعاليك القبائل، وكان للمنطقة الشرقية النصيب الأكبر من القتل وهتك الأعراض والتهجير، تلتها منطقة الحجاز التي كان يحكمها من يدعون أنهم هاشميون، وعسير اليمنية اللتان نالهما ما نال الشرقية لقمع إرادة سكانهما الذين رفضوا سيطرة آل سعود على مناطقهم، وحتى اليوم مازالوا يعاقبون بمنعهم من التطوع في الجيش والحرس الوطني والتوظيف في وزارتي الداخلية والدفاع واستلام مناصب عليا حساسة في الحكومة، وهذا لا يعني أن المناطق الأخرى كانت بمنأى عن بطش آل سعود.
ولو عدنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن كل المؤامرات على الأمة العربية التي ولدت الخلافات والأزمات، وتمزيق العالم الإسلامي تقف وراءها مملكة آل سعود التي صنعت المبادرة العربية لـ''السلام'' لإنهاء القضية الفلسطينية، وأن محاربة إيران كعدو رئيسي للمسلمين واستعداءهم عليها بذريعة الخوف من تصدير الثورة الإسلامية هو في الواقع خدمة ممنهجة للكيان الصهيوني ولأميركا وحلفائها، ويرتبط به مباشرة العداء للمقاومة اللبنانية وسورية الذي تحول الآن إلى تآمر دموي معلن ضدها، كما أن الحرب الضروس التي تعرض لها الرئيس جمال عبد الناصر من السعوديين شاهد على أسلوب عملهم وبخاصة بعد محاولة الانقلاب عليه في عام 1968 التي قام بها مجموعة الضباط الأحرار في الجزيرة العربية مازال من بقي منهم حياً يعاني من غضب آل سعود الحاقد عليه، أما من مات فيتحمل أفراد أسرته وربما قبيلته أو عشيرته جريرة ما فعل.
وكان إهداء الملك فهد بن عبد العزيز بندقية كلاشنكوف مذهبة لصدام حسين مع تحذير من الثورة المجاورة عند زيارته لبغداد الشرارة التي أشعلت الحرب بين العراق وإيران وذهب ضحيتها ملايين المسلمين، ثم كانت زيارة ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى أفغانستان حاملاً الدعم المالي واللوجستي لبن لادن مؤسس تنظيم القاعدة الإرهابي برعاية سعودية أميركية بذريعة مقاومة الاحتلال الروسي ليكتوي هذا البلد المسلم بنار الفتنة والحرب الأهلية المستمرة في ظل الاحتلال الأميركي الدولي.
وتأتي محاولة جهيمان القحطاني الضابط في الحرس الوطني للقضاء على الأسرة السعودية صبيحة عيد الفطر في عام 1980 وفشل المحاولة بسبب الاختلاف على رؤية الهلال، ثم استمراره في احتلال المسجد الحرام في مكة المكرمة لفترة زادت على أسبوعين بمؤازرة عدد كبير من الفقراء والمضطهدين استطاع خلالها أن يستميل معظم سكان مكة المكرمة إلى صفه وبرنامجه المعلن بالقضاء على تسلط آل سعود وإقامة دولة إسلامية وسطية غير وهابية المذهب، وعندما أحس آل سعود بالخطر يحدق بهم وأنهم على وشك أن يفقدوا السيطرة على الأوضاع استنجدوا بقوات خاصة من إحدى الدول العربية للدخول إلى الحرم المكي وتحريره، وقد تبع القضاء على هذه المحاولة عمليات إعدام أكثر من مائة وعشرين شخصاً بقطع الرأس في ساحات مدن المملكة ليكونوا عبرة لغيرهم.
والقمع الذي يتعرض له سكان المنطقة الشرقية منذ إنشاء مملكة آل سعود مازال مستمراً حتى اليوم بمستوى متصاعد، ويكرره السعوديون بشعب البحرين، وكذلك هو الحال مع أتباع المذهب الإسماعيلي في نجران بالجنوب حيث قتل واعتقل وهجّر الكثيرون منهم، ومنع من تبقى من ممارسة شعائرهم الدينية أو الإفصاح عن انتمائهم المذهبي، كما حظي المثقفون في هذه المناطق وغيرها بالحظ الأوفر من الاعتقال والترهيب، وتعتبر سياسة اختطاف المعارضين في الخارج وجلبهم إلى المملكة من السياسات التي مارسها آل سعود أكثر من مرة ولم يعرف مصير أي من المختطفين.
باختصار يبدو أن السعي إلى إفشاء الفكر الوهابي جارٍ، فالمملكة الوهابية تمول نحو 80 في المائة من الجمعيات والشبكات الدينية غير الرسمية في جميع أنحاء العالم، والأهداف واضحة:
الأول: محاولة مملكة الوهابية أن تسحب شعوب المنطقة بالكامل إلى حالتها المتخلفة بسبب عدم قدرة ممالك الخليج على التطور لتصبح ضمن السياق الحضاري للبشرية لأن هذا سيعني فوراً زوال تلك الطغم الحاكمة إذ لا عاقل في العالم يقبل أن يظلَّ في مملكة إسمها على إسم العائلة الحاكمة (بات واجباً علينا أن نحذف إسم السعودية ونعيد إليه إسمه المحبب لقلوبنا كمسلمين وهو الحجاز لأن مثله مثل القدس الشريف).
الثاني: فهو خلق حالة من الاحتقان المذهبي والديني تساعد المملكة في حربها المحتملة على إيران وخصوصاً بعد أن أرست إيران معادلة جديدة في المنطقة، أن أمن سورية مقابل أمن الخليج بالكامل.
وهذا الكلام أكده الكاتب الفرنسي المعروف فيليب توريل في مجلة (أفريك أسي) الفرنسية جاء فيه: إن السعودية تعمل على استغلال المذهب الوهابي لتحقيق نفوذ سياسي لها في العالم العربي، وقال: إن ممارسة الإرهاب في سورية تمت بدفع وتمويل من السعوديين الساعين إلى استغلال الأحداث فيها عبر الوهابية لكسب النفوذ السياسي.
وحقيقة، يقف العاقلُ، ذو الوجدان الحيّ موقف المندهش في مشاهدة ممارسات الوهّابيّين التّكفيريّين، ونقول ''العاقل ذو الوجدان'' لأنّ ثمّة عقلاء في التّصنيف، ولكنّهم يفتقرون إلى الحدود الدّنيا من خلجة الوجدان، فقد أعماهم الحقد، وسدّت الثأريّة عليهم أبواب الفهم الصحيح. ولعلّ من أخطر ما نواجهه، على المستويين الإجرائي والثقافي، أن يجعلوا من مشهد تقطيع الأحياء، والتّمثيل بالأموات، مشهداً عاديّاً، عبر التّكرار، من خلال الزّعم بوجود فتوى، تُبيح لهم ارتكاب الجرائم! وهي فتوى خاصة بهم، ولا يوافقهم عليها علماء المسلمين، وعبر هذه القنطرة، ومن خلال المزيد من الأفعال الإجراميّة تنتقل العدوى، لتصبح علامة من علامات التقاتل الدّاخلي في دنيا العرب والمسلمين، ولتكون شارة من شارات الوحشيّة، والتخلف، وتنكّب الأساليب الإنسانيّة، وهم بشكل ما يقفون في خانة الفظائع الصهيونيّة، وكأنّ ما فعله الصهاينة في تاريخ احتلالهم لهذه الأرض لا يريدون له أن يكون فريداً، بل لابدّ من جرّ آخرين إلى صفوفهم إليه، لا في السياسة فقط بل حتى في الفظيع من الجرائم.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ويقفز بقوة: هل عرفتْ البلاد العربية مثل هذا التّنكيل والفظاعة؟
لاشكّ أنّه يوجد في تاريخنا، كما في تاريخ غيرنا مَن ارتكب جرائم مفزعة بحقّ فرد أو مجموعة، وهو أمر مستنكَر، ولا تسوّغه الشريعة التي ظلّت منظومة يُهتدى بهديها، ولو بشكل مُضمَر، وذلك يعني أنّها تصرّف خارج عن حدود الشّرع والأخلاق الإنسانيّة، كاستباحة المدن، وقطع الرؤوس وتكديسها. وهنا من المهمّ الفصل بين ما فعله التّتر الوثنيّون في بغداد، وفي المنطقة، وما يفعله مَن ينتمي للإسلام الوهّابي، ولا سيّما الحاكم، حتى حين لا يجسّد شيئاً من قيمه، فهو يُخطب بإسمه، ويدعون له على المنابر، بمعنى أنّ المسلم الذي يفعل ذلك، أو يُفعل في عهده هو مخالف للشّرع، ولا ينسجم مع الأخلاق التي أرسى دعائمها، وأيّدها الرسول العربي (ص) والذي جرى في التّاريخ تفصلنا عنه أزمنة متطاولة، فكيف ونحن أبناء عصور جديدة كلّ الجدّة، فنحن في العالم ككل، يُفترَض أنّنا أبناء الحداثة وما بعد الحداثة، سواء كنّا في أستوكهولم أو في أقاصي أفغانستان، إذ للأزمنة الحضاريّة سمات وعلامات، لا يمثلها المتخلفون، ولا الذين قبلوا أن يُغلقوا أبوابهم على أنفسهم، ولا يرون إلاّ ذواتهم الافتراضيّة. لنتذكّر أنّ ما نحن بصدده قد عرفه الوطن العربيّ أوّل ما عُرف في الجزائر، على يد هؤلاء التّكفيريّين الوهّابيّين، واعتمادُ هذا الأسلوب، على تلك الطريقة التي عرفناها في ليبيا واليمن والعراق وسوريّة يعني أنّه أسلوب وطريق لهذه المجموعات، وليست العمليّات الانتحاريّة، والتفجيرات التي تودي بحياة مئات النّاس، وتخلّف الدمار، واليتم، والمقعَدين… إلاّ الوجه الآخر للتّقطيع، والتفظيع. فثمّة من احتجّ على هؤلاء التّكفيريّين، وثمّة مَن صمت، ونذكّر الصّامتين بمقولة: ''الرّاضي بالشيء كفاعله''، فكيف حين التّوافق التّام، في الحركة، وفي الشّعار !
وللغرابة فإن دعوات الجهاد الوهابية لا تقترب من الكيان الصهيوني أبداً! من هنا نلاحظ أنه وفي كل يوم جمعة يسعى شيوخ الوهابية بإيعاز من آل سعود لاستنهاض الهمم إن كان بالبكائيات على المنابر أو بخطب تتكلم عن انتهاك لحرمات المساجد وحرق للمصاحف وعن اغتصاب وما شابه للمسلمات… فشيوخ الوهابية تشجع وتحفّز الشباب العربي للذهاب إلى الجهاد على أرض العروبة والتورط بدماء أبنائها الشرفاء للحصول على حوريات شيوخ الوهابية، والمضحك أن كل شيخ منهم وهو يذرف الدمع يقول للرعاع الذين يصغون لبلاهته (والله لو أني أتمكن من الذهاب لذهبت) وهنا نسأل هؤلاء التجار بمرتبة رجال دين لماذا لا تتمكن من الذهاب؟ وكيف تدعو الشبان للذهاب إن كنت لا تعرف كيف سيذهبون؟
وقد وصف الامام علي (ع) هذا النوع من شيوخ الفتن والضلال قائلا: '' قصم ظهري إثنان عالم متهتك وجاهل متنسك''.
ان الفتاوى التي تصدر من أشخاص يقبعون تحت عباءة آل سعود المتسلطين على البلاد والعباد في الحجاز ونجد والذين يشرعون لهم الظلم والموبقات والمحرمات ويهدرون دماء المسلمين والمسيحيين في البلدان العربية، ما هي إلا محاولة لإشعال الفتنة والاقتتال وسفك الدماء وشرذمة الأمة العربية وتفتيتها خدمة للمشروعات والمخططات الصهيونية والأمريكية. فلم نسمع شيوخ الوهابية يفتون يوماً بتحريم التعامل مع الصهاينة الذين يدنسون المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين منذ أكثر من ستين عاماً، ويعلنون صباح مساء نيتهم هدمه وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه، ولم نسمعهم في يوم من الأيام يهدرون دماءهم لأنهم يقتلون المسلمين الفلسطينيين، ولم نسمعهم أيضاً يعلنون الجهاد في فلسطين لتحريرها من هؤلاء غير المسلمين. فمتى كانوا مع العرب والعروبة، ومع القضية الفلسطينية ؟
فويل أمة فيها مثل هؤلاء، وويل لإسلام فيه هؤلاء، يدعون أنهم خدم الحرمين، ويسقطون من حسابهم القدس والأقصى… يحللون ويحرمون على هواهم… شيوخ الفتاوى طوع إرادتهم…
لقد انتظموا في المشروع الأمريكي الصهيوني لتقطيع العرب، والإجهاز على العروبة لقاء حفاظ أمريكا وإسرائيل على عروشهم العاهرة، من أراضيهم دخلت الجيوش الأمريكية إلى العراق، و بمعرفتهم وتشجيعهم ومباركتهم حاصر الإسرائيليون غزة، وقصفوها باليورانيوم المخصب، و الأمر نفسه في عدوان إسرائيل على لبنان، وفعلوها مع ليبيا، واليوم يريدون تكرار تجاربهم العاهرة مع سورية…
وأمام ما يجري في مملكة الوهابية من تآمر وتكالب ودسائس على الأمة العربية، فثمة من يقول، بأن هناك صراع أجنحة في المملكة وأن الملك مغيَّب، ومن هذا الكلام الشيء الكثير، لكن في واقع الأمر، لا يمكنه أن يقنع مواطناً عربياً واحداً، ولذلك نحن نتفق مع الرأي القائل إن هناك صراع أجنحة في المملكة ولكن هذه الأجنحة تتصارع على من سيكون الخادم الأميركي الأكثر دونية ومن القادر بين هذه الأجنحة المتصارعة أن يقدم أوراق اعتماده بطريقة أفضل للراعي الأميركي و(الإسرائيلي)؟ أجل إن الصراع هو صراع من الأشطر بممارسة القوادة السياسية عند الراعي الأميركي (الإسرائيلي). أما أن الملك مغيَّب فإننا نقول ومتى كان هذا الملك حاضراً؟ وهل تصدقون مثلا أن الملك هو من أبدع بحنكته (التي تشبه تماماً حنكة وزير الخارجية الإماراتي) المبادرة العربية للسلام أم إنه نام واستيقظ فقرر الدعوة لمؤتمر الأديان ليجلس صاغراً مصغياً إلى رئيس الكيان الصهيوني وهو يحاضر بنا في التسامح والأخلاق الحميدة.
فمثلاً، مارتن بيرتزفي ''ذا ناشيونال ريبا بليك'' وصف مؤامرات آل سعود بالجبن مضيفاً:
''الرياض تخزّن الصواريخ منذ عقود ولم تقم سوى بالادعاء بدعم الديمقراطية… على حين العبودية هي القاسم المشترك الوحيد الذي يدل على المساواة بين الجنسين في المملكة''.
هذا الأمر أيضاً تكلم عنه المحلل الأميركي جوناثان شانزر في صحيفة ''كريستيان ساينس مونيتور'' عندما اعتبر أن القيادة في المملكة تسعى لاستغلال الأحداث في سورية من أجل تحقيق النقاط في صراعها المذهبي مع إيران، فهم خسروا العراق ويحاولون الآن التعويض في سورية والأهم حسب شانزر، أن المملكة تسعى من خلال تسليح المعارضة إلى ضمان استمرار المعركة مع القوات السورية عبر ميليشيات موالية لها، مؤكداً أن تزويد المعارضة بالسلاح سيكون منطلقاً من أبعاد مذهبية وليست حرصاً على الشعب السوري، معتبراً أن (سورية هي البلد الأكثر حاجة في الشرق الأوسط لأن تكون ثورته سلمية، بسبب قلق الأقليات المسيحية والعلوية والكردية).
وقد تبين دعم المملكة الوهابية للجماعات المسلحة بالمال والسلاح والإعلام، ليطفو على السطح صاحب الدور الأساسي المقابل على الأرض السورية وهو ـ جوكر ـ التطرف التكفيري الذي استخدم مجاهداً في افغانستان لإسقاط حكومة نجيب الله الشيوعية، وبعدها تم تحويله إلى إرهابي بعد 11 أيلول لاستقدام القوات الأميركية إلى أفغانستان، والجوكر ذاته استخدم لابتزاز الرئيس المصري السابق حسني مبارك لمزيد من التنازلات ومن ثم الانقضاض على حكمه، ووقود ما سمي ثورتي تونس وليبيا وتهديد بقية دول المغرب العربي، وفي المستقبل القريب دول الخليج العربي.
جوكر التطرف التكفيري يستخدم اليوم كمتظاهر سلمي مقتول وكمنشق بطل، وثائر بيمناه شعار الحرية على قنوات التضليل وبيسراه سكاكين ورصاص الغدر تحت جنح الظلام، كما يستخدم كطفل بريء يواجه الآلة العسكرية أو امرأة ثكلى، كل ذلك بتدريب وتمويل ورعاية وغطاء عربي ـ خليجي وإقليمي ـ تركي وبطبيعة الحال أميركي ـ أوروبي، والمستفيد الأول وربما الأخير ''إسرائيل''… الخنجر الاستيطاني في قلب الأمة الذي يتهيأ الآن تحت ضجيج هذه الزوابع لإعلان ''يهودية إسرائيل'' وطرد ما تبقى من عرب 1948 ومن ثم عرب الـ67 إلى الأردن… كوطن بديل… هل يعلم قادة العرب ذلك… بالتأكيد يعلمون… وإلا فلم هذا الصراخ ضد سورية… عربياً وإقليمياً ودولياً… وأبسط محلل في هذا العالم يدرك أن هذا المخطط المخيف لا يمكن أن يمر وسورية بكامل قوتها عدة وعديداً… دولة ومجتمعاً وموقفاً.
في مواجهة المد الديني الوهّابي المتطرف الذي يصنف البشر على أساس العقيدة لا على أساس الثقافة أي على أساس الجزء لا الكل، باعتبار العقيدة جزءاً من الثقافة، لابد من تجييش الحراك الثقافي والفني والتشكيلي والموسيقي… علينا محاربة ذاك الفكر المنغلق الإقصائي بفكر تنويري مضاد يشيع الحريات الفردية بكل أشكالها، والمظاهر المدنية والعلمانية في البلاد العربية، وقبل كل هذا اعتماد العدالة الاجتماعية في توزيع ثروات البلدان.
لكننا وفي ذروة هذا الانفعال ـ ربّما الصائب ـ سنواصل العصيان على الفتاوى الوهابية والتقارير والبيانات والقرارات والشعارات والاستطلاعات والاستبيانات الكاذبة المضللة التي لفقها ''أطبّاء السياسة ومُرَوّجُو الإعلام المُضلّل عن الشعب العربي''… وحسب أبسط بديهيّات التاريخ، فإنّ هذا الضّرب المتواصل على مؤخرة الرأس قد يفضي اليوم أو غداً أو بعد غدٍ إلى ما لا يُسِرُّ الضّاربين…
نَدِمَ البُغاةُ وَلاتَ ساعَةَ مَنْدَمِ وَالبَغْيُ مَرْتَعَ مُبْتغِيْهِ وَخِيْمُ…