نص المحاضرة الرمضانية السابعة والعشرون للسيد عبدالملك الحوثي 1442هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وصلنا في الحديث على ضوء الآيات المباركة من سورة الأنعام إلى قول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الأنعام: من الآية152].
العدل هو عنوانٌ مهمٌ جداً، من أهم العناوين الرئيسية التي ركَّز عليها القرآن الكريم والرسالة الإلهية في كل مراحل الرسالة، ومع كل رسل الله وأنبيائه، والله “سبحانه وتعالى” جعل من المسؤوليات الأساسية للمؤمنين: العمل على إقامة العدل، والعدل مطلبٌ مهمٌ، وحاجةٌ إنسانية، يضبط مسيرة الحياة، وهو الذي يخلِّص الناس من الظلم، لا بديل عن العدل إلَّا الجور والظلم، والعدل مطلوبٌ على مستوى الفعل، وعلى مستوى القول.
ولذلك أتى هنا التأكيد على العدل في القول، والحذر من الجور والظلم فيما نقول، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، مع القريب ومع البعيد، فلا بدَّ أن يحرص الإنسان من واقع استشعاره لأهمية العدل؛ باعتباره من اللوازم الإيمانية، من الالتزامات الدينية الأساسية في القول وفي الفعل، لا بدَّ أن يحرص على أن يكون ملتزماً بالعدل فيما يقول، سواءً كان الذي تقوله حكماً، أو كان شهادةً، أو كان موقفاً، أو كان تأييداً، أو كان رفضاً، أو كان تعليقاً حول قضيةٍ معينة، أو موضوعٍ معين، أن تحرص على ألَّا تجور فيما تقول، ألَّا تظلم فيما تقول، ألَّا تتجاوز العدل فيما تقول، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن من أكثر ما يحصل فيه الظلم: الظلم في القول، الظلم في التعليق على كثيرٍ من القضايا، الظلم في إطلاق الأحكام بطريقة عشوائية، وعلى غير أساسٍ صحيحٍ على الآخر، وهكذا التجاوز في الكلام بطريقة جارحة وظالمة، فيكثر الظلم في القول؛ لأن القول وسيلة سهلة لدى الناس، وكثيراً ما يتحدث الناس ويعبِّرون عن مختلف القضايا، في صغيرها وفي كبيرها، ولكن قد لا يتنبه الكثير من الناس إلى أن يقولوا بمسؤولية، بإدراك أنَّ كلامهم وما يقولونه محسوبٌ إما لهم وإما عليهم، وأنهم محط رقابة الله “سبحانه وتعالى”، وأنه “جلَّ شأنه” مع أنه الرقيب على الإنسان فيما توسوس به نفسه، وفيما يقول، وفيما يفعل، هو أيضاً قد جعل علينا حفظةً ورصداً إلى جوارنا، ملازمين لنا، يراقبوننا في كل ما نقول، وفي كل ما نفعل، كما قال الله “سبحانه وتعالى”: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: الآية18]، فأنت ما تلفظ من قولٍ، إلَّا والملكان على يمينك وشمالك ومسؤوليتهما ومهمتهما الرئيسية: هي إحصاء وتوثيق ما تقول، على مستوى ما تلفظه من قولٍ وما تفعل.
لذلك يجب أن يكون الإنسان على يقظة، على وعي، على انتباه، على اهتمام، على إدراك لأهمية هذه المسألة، أهميتها من حيث موقعها الديني، من حيث أهميتها على المستوى الإيماني؛ لأنك تجسِّد إيمانك بالتزامك العدل فيما تقول، هذه واحدة مما تجسِّد به التزامك الإيماني والديني، مما يعبِّر عن إحساسك بالمسؤولية، عن تقواك لله “سبحانه وتعالى”، ثم أيضاً الإدراك لأهمية هذا من حيث آثاره، من حيث تبعاته في الواقع.
القول بعشوائية، بلا مسؤولية، باستهتار، والذي قد يتضمن الكلام الجارح الظالم، وقد يتضمن الكلام السيء، وقد يتضمن البهتان في بعض الحالات، البهتان لعباد الله، أو لأحدٍ من الناس، قد يتضمن الافتراء، قد يتضمن أيضاً التأييد للباطل، أو التأييد لظالم، أو الاشتراك من خلاله في جريمة، يمكنك أن تشترك في جريمة من خلال إطلاق عبارة تؤيِّد تلك الجريمة ومن ارتكبها، فتكون شريكاً في الجريمة نفسها، وهذه قضية خطيرة جداً، العشوائية، واللا مسؤولية، والتصرف في الكلام، وإطلاق القول بدون أي ضوابط ولا معايير العدل، يترتب عليه كل هذه الآثار والنتائج، فقد تشترك في بهتان، قد تشترك في افتراء، قد تشترك في جريمة، وقد تكون هذه الجريمة أحياناً على مستوى جريمة قتل، أو جريمة من أبشع الجرائم، قد تؤيِّد باطلاً، وهذه جريمة من أكبر الجرائم، التأييد للباطل وأهله، قد تقف مع ظالم، وهذه مسألة خطيرة جداً.
ثم التأثيرات السلبية على العلاقات الاجتماعية فيما بين المجتمع، التأثيرات السلبية على مستوى الأخوة الإيمانية، والتفاهم، والتعاون فيما بين المجتمع؛ لأن الكلام الجارح، الكلام الظالم، الكلام السيء، من ضمن تأثيراته السلبية: أنه يؤثِّر على وحدة المجتمع، على التآخي بين المؤمنين، على التفاهم، على التعاون؛ وبالتالي يؤثِّر على مدى تفاعل الأمة وقوتها في النهوض بمسؤولياتها الجماعية، وهذه مسألة خطيرة جداً، فيحسب الجرم في الكلام نفسه، عندما حِدْت عن العدل، عندما تجاوزت العدل، والجرم في آثاره، والجرم في نتائجه، والجرم فيما يترتب عليه، هذه قضية خطيرة جداً.
في هذا الزمن دخلت وسائل في واقع الناس، وسائل للتعبير، وسائل للتعبير، وسائل تترجم ما يقولونه، وتعبِّر عما يريدون أن يقولوه، مثل: مواقع التواصل الاجتماعي، وما أكثر ما يأتي فيها من الجور في الكلام! ما أكثر ما يحصل فيها من التجاوز للعدل! فيما يعبَّر فيها، فيما يقال فيها، ما يكتب فيه وهو قول؛ لأن القلم والكتابة هي وسيلة تعبير، هي وسيلة تعبير؛ ولذلك تدخل ضمن القول.
فيلحظ في ذلك أيضاً هذا التعامل بلا مسؤولية، والتعبير عن قضايا كثيرة، والتفاعل مع ما يطلق من شائعات ودعايات بلا تبين، بلا تحقق، بلا وزن للموقف، وزن للتعبير بميزان العدل، فيسهل على الكثير من الناس، والكثير من الشباب، والكثير من الرجال والنساء، الذين يدمنون على مواقع التواصل الاجتماعي، يسهل عليهم أي تعبير، تجاه أي قضية، مهما كان مبالغاً فيه، مهما كان جائراً، مهما كان… وقد يكون في كثيرِ من الحالات بهتاناً من الأساس، افتراءً من الأساس، والإنسان يكون قد حمَّل نفسه وزراً، وأغرق ذمته بذنبٍ ووزرٍ لم يكن له من حاجة، ولم يكن هناك من ضرورة لأن يفعل ذلك، لكن هكذا: [تشاعيب]، وأهواء، ورغبات، وانفعالات، والتفاعل الذي ينجرون إليه في ذلك الجو الذي هو سائد في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يطلق الإنسان موقفاً معيناً، أو تعليقاً معيناً فيه ظلمٌ وجورٌ، وهو مرتاح، يحس أنه أصبح شيئاً مهماً؛ لأنه يطلق مثل تلك التعبيرات والمواقف، لكنه عندما يرى يوم القيامة وزره وذنبه، وقد يتجمع الكثير الكثير، في بعض الأحوال قد تكون الأوزار في ذلك أوزاراً يومية، في كل يوم يحمِّل نفسه وزراً إضافياً، وأوزاراً إضافية، حتى يثقل نفسه بذنوب كبيرة، قضية خطيرة جداً، ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[الأحزاب: الآية58]، ويكثر هذا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن الإنسان بمجرد أن يرى أي شائعة، أو يرى أي دعاية، فكثيرٌ من الناس يطلقون فوراً بشكلٍ عاجلٍ جداً تعليقاتهم الخاطئة، تعليقاتهم الظالمة، تعليقاتهم الجارحة، تعليقاتهم المسيئة، وبتفاعلٍ سريع، وبدون تبين، وحتى بعد التبين بدون وزن لما يطلقونه من تعبير، أن يكون موزوناً بميزان العدالة، فلا يتجاوزه أبداً.
مع أنَّ التربية القرآنية الإيمانية هي تربي الإنسان على مستوى أعلى، ليس فقط بما يصونه عن الوقوع في الظلم فيما يقول، وإنما في أكثر من ذلك: في القول السديد، في أن يكون قوله سديداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[الأحزاب: الآية70]، هكذا ينادينا الله، وهكذا يخاطبنا في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، من هم الذين آمنوا؟ ألا تعتبر نفسك واحداً منهم؟ فالتفت إلى هذا النداء الإلهي: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، اتقوا الله فيما تقولونه، اتقوا الله فلا تظلموا، ولا تجوروا، لا تفتروا ولا تبهتوا، لا تسيئوا بغير حق.
{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، والقول السديد يراعى فيه العدل، ويراعى فيه الحكمة، وتراعى فيه الأولويات، ويرعى فيه الوضع والظرف العام، وحينها يقول الإنسان قولاً سليماً بكل الاعتبارات، سليماً: ليس فيه كذب، ليس فيه افتراء، ليس فيه ظلم، ليس فيه جور، ليس فيه تعدٍ على الآخرين، على أعراضهم، وفي نفس الوقت ليس فيه ثغرة للأعداء، ليس فيه تأثيرات سلبية على الواقع العام، على المسؤوليات العامة، على الأولويات الأساسية والملحة، فتعتبر هذه مسألة مهمة، تربية راقية جداً، ترقى بالأمة إلى أن تكون على درجة عالية من الحكمة، والانضباط، والمسؤولية، والدقة، والتقوى، والعدل في أقوالها وفي تعبيراتها، هذه مسألة مهمة جداً، في غاية الأهمية.
فهذه عندما نلحظ اليوم أصبحت إشكالية كبيرة في واقع المسلمين، في مختلف شعوبهم، إشكالية كبيرة وحقيقية: الانفلات في مواقع التواصل الاجتماعي، الانفلات في التعبير فيها، اللا مسؤولية، ولا مبالاة، وحالة الاستهتار بشكلٍ شنيعٍ جداً في التعاطي فيها، والتعبيرات فيها، وإطلاق الأحكام العامة، والتعبيرات والتعليقات السلبية تجاه مختلف الأشياء، بدون تبين، بدون مسؤولية، بدون وزن ما يعبَّر به بميزان العدل، والحق، والحكمة، والقول السديد، تضيع كل هذه الاعتبارات، وهذه قضية خطيرة على الإنسان، قد يكون حال الكثير أنهم يشعرون بالإعجاب، بالارتياح لما يفعلونه، لهذه الحالة من الانفلات والفوضى في تصرفاتهم، ولكنهم يحمِّلون أنفسهم ذنوباً كبيرة، وأوزاراً ثقيلة، سيدركون فيما بعد ذلك عواقبها السيئة، ونتائجها الوخيمة على أنفسهم.
أيضاً مما ينبغي الانتباه له في هذا السياق: فيما نقول، والالتفاتة إليه جيداً: هو مقايل القات في اليمن، مقايل القات في بلدنا، الناس في مقايل القات، ومع أجواء القات، ومع تأثير القات، يكثر كلامهم، خاصةً في بداية الأمر، وفي وسطه، أمَّا في آخره تكثر تفكيراتهم، والتطانين على حسب التعبير المحلي، يكثر ما يقولونه، ولكن بعضهم أيضاً يحركهم الهاجس حتى في آخر التخزينة، فيكثر كلامهم، ويتشعب حديثهم، ويتناولون قضايا كثيرة، من قضايا شخصية، من قضايا محلية، إلى قضايا عامة، وهكذا تجري الأحاديث، ويستمر الكلام في أكثر الأحوال بدون هذا الضابط، بدون هذا المعيار الإيماني الأخلاقي القيمي المبدئي: العدل، فيطلق المجال للألسنة لتقول أي شيء، لتعبِّر بأي تعبير، لتعلِّق بأي تعليق، شيء غريب جداً، كأنه لا مسؤولية، ولا عقاب، ولا حساب، ولا جنة، ولا نار، فوضى بشكل رهيب جداً، يتحدث الإنسان بدون أي مسؤولية، بدون أي انتباه، بدون أي تركيز على التدقيق فيما يقوله، وهذه قضية خطيرة جداً، قضية خطيرة جداً، وتكثر الفوضى في المجتمعات وهم يتحدثون، خاصةً في المجالس التي ليس فيها ذكر لله “سبحانه وتعالى”، مجالس الغفلة، مجالس الغيبة والنميمة، مجالس البهتان والزور، مجالس خطيرة جداً، مجالس جهنمية، مجالس جهنمية، يدخل الإنسان فيها ويخرج وقد أصبح له رصيد كبير من الإثم، والجرم، والوزر، نعوذ بالله ونستجير بالله، مسألة خطيرة جداً.
يفترض بنا أن نحرص على أن تكون مجالسنا مجالس هدي، مجالس عامرة بذكر الله “سبحانه وتعالى”، مجالس ننضبط فيها بضابط التقوى، نلتزم فيها فيما نقول بتقوى الله “سبحانه وتعالى”، وبالعدل، وبالقول السديد، نتحدث فيها بكل مسؤولية، بكل مصداقية، بكل التزامٍ بالتقوى، نركِّز على ما هو مفيد، على ما هو نافع في شؤون ديننا ودنيانا، مع الحذر التام من كل تلك السلبيات التي تحصل في المجالس، الحذر من:
الغيبة.
والنميمة.
والبهتان.
والظلم في القول.
والجور في القول.
والتعبيرات السيئة.
والتعبيرات الجارحة.
والتعبيرات المفسدة.
ونركز على أن نبدأ مجالسنا هذه بدايةً طيبةً، وأن نختمها ختاماً طيباً، بذكر الله، وبالاستغفار، حتى لا تكون بؤراً جهنمية، كلما دخل الإنسان فيها أغرق ذمته، وخرج منها وهو محملٌ بالذنوب، وبشكلٍ يومي، نستجير بالله، ونعوذ به، هذه مسألة مهمة جداً.
ثم يحصل أيضاً في هذا السياق أيضاً: يتعود البعض من الرفاق والأصحاب فيما بينهم أن يجتمعوا أيضاً في مجالسهم الخاصة، غير المجالس العامة، وقد يكون هذا أيضاً في الحالات التي فيها أيضاً توجهات سلبية، المجالس الخاصة، والاجتماعات الخاصة، والجلسات الخاصة، قد تأتي أحياناً في جوٍ سلبي، في جوٍ معقد، في جوٍ له اتجاهات مخالفة ومشاققة لما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون:
في تعاونهم.
في تفاهمهم.
في نهوضهم بمسؤولياتهم.
في أدائهم لواجباتهم.
في تعاونهم على البر والتقوى.
فتأتي الجلسات الخاصة، والاجتماعات الخاصة، والمجالس الخاصة، في إطار جوٍ سلبيٍ للتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ولهذا كانت تحصل مثل هذه الظواهر السلبية، حتى في عصر النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، في عصره “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” كان بعض المعقدين يجتمعون لوحدهم اجتماعات خاصة، يتداولون فيها الحديث في اتجاهٍ سلبيٍ مشاقق للاتجاه العام، الذي عليه الرسول والمؤمنون، وخارج إطار الأولويات والمسؤوليات التي تتحرك فيها الأمة، في إطار جوٍ معقدٍ، تكون نتيجة تلك الاجتماعات الخاصة التناجي- كما قال الله “سبحانه وتعالى”- بالإثم، والعدوان، ومعصية الرسول، فيسود الجو كلام تخريبي، كلام سيء، تدابير منحرفة، مشاققة، خارجة عن الاتجاه الصحيح، بعيدة عن الأولويات الرئيسية، التي تفرضها المسؤولية والتقوى، وأتت صفحة كاملة عن هذا الموضوع في سورة المجادلة، ولكن لا يتسع المقام للحديث عنها بشكلٍ عام، نتحدث عن بعض ما ورد فيها، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المجادلة: الآية9]، هذا في سياق صفحة كاملة أتت للحديث عن هذه الظاهرة السلبية، والتي تحصل في كل زمان، في كل زمان يحصل شبيهٌ بذلك، يحصل حالة من العقد لدى البعض، اتجاهات سلبية مناوئة، مشاققة، لدى البعض، فتتجه اتجاهاً تخريبياً وسلبياً وسيئاً، بدلاً عن الاتجاه الصحيح، الذي يجب أن يكون عليه الجميع، ضمن الأولويات الرئيسية الجامعة، ذات الأهمية الكبيرة التي تفرضها المسؤولية.
في سياق الحديث أيضا عن المناجاة، عن الاجتماعات الخاصة، عن الجلسات الخاصة، وما يجري فيها من الحديث، يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً في الآية المباركة من سورة النساء: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}[النساء: من الآية114]، أكثر الجلسات الخاصة، والاجتماعات الخاصة للناس، وما يدور فيها من الكلام الخاص لا خير فيه، عادةً يكون الباعث عليه سلبيته، على ذلك الجو، في كثيرٍ من الأحيان، في كثيرٍ من الأحيان وليس في كلها.
ثم يأتي الاستثناء: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء: من الآية114]، في هذه الحالة تكون لهذه المناجاة، لهذا التناجي، لهذه الاجتماعات، لهذه الجلسات، قيمتها الإيجابية، عندما تكون في هذا السياق:
تجلس مع أحد، أو مع مجموعة وأنت تحاول أن تشجعهم للإنفاق، للصدقة، أو لما هو معروف، وليس بمنكر، ودائرة المعروف دائرة واسعة في شؤون الدين والدنيا.
أو بما فيه إصلاح بين الناس، ما يكون لهذا قيمته، وإيجابياته.
من الحالات السيئة على الإنسان فيما يقول، فيجور ويظلم فيما يقول، ويفتري ويبهت فيما يقول، ويتجنى فيما يقول، هي حالة العقد والشنآن:
الكثير من الناس عندما يحمل العقدة: إما على شخص، أو على ناس، عندما يشنؤهم، عندما يتعقد عليهم، يطلق لنفسه المجال ليقول أي شيءٍ عنهم، ليتجنى عليهم، ليطلق عليهم الأحكام العامة والشاملة، ليقول ما يرضي عقدته، ما ينفس به عن عقده، عن حنقه الشخصي، عن عقدته الشخصية، ينطلق فيما يقول عليهم بدافع تلك العقدة، ومن عمق تلك العقدة، وهذه حالة خطيرة جداً، حالة خطيرة جداً على الإنسان، الله “سبحانه وتعالى” يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ}[المائدة: من الآية8]، ويكثر هذا، يكثر إطلاق الأحكام العامة، الإنسان المعقد يعمى عن رؤية كل الإيجابيات مهما كانت ومهما بلغت، يرى السلبيات، وتتضخم عنده السلبيات:
في حيثياتها.
وفي أسبابها.
وفي دوافعها.
وفي حجمها.
حتى تكون كالجبال الكبيرة، تكبر السلبية الجزئية عنده، يعطي لها تفسيرات تزيد من سوئها، يعطي لها حيثيات تزيد من قبحها، يحجمها ويجسمها، ويكبرها؛ حتى تصير كبيرةً جداً، بفعل تلك العقدة، التي يعاني منها، وهي تحصل لدى الكثير من المعقدين، وهي قضية خطيرة على الإنسان المعقد نفسه، قد يشعر بالراحة؛ لأنه قال كلاماً جارحاً، أو تجنى، وقال كلاماً مسيئاً، أو كتب كتابة مسيئة، فضفض، فضفض عن نفسه، وشعر بالراحة، لكنه حمَّل نفسه وزراً كبيراً، وجرماً كبيراً بحجم ذلك التجني، بحجم ذلك البهتان، بمستوى جور الحكم الذي أطلقه في كلامه، فهي قضية خطيرة جداً، الإنسان في حالة السخط، هي حالة خطيرة عليه، هو بحاجة فيها إلى تقوى الله؛ لأن الإنسان في حالة السخط يكون حساساً، ويكون مندفعاً إلى:
إصدار الأحكام.
إصدار المواقف.
التعميمات.
المبالغة في الأمور.
ومثل ما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
ولكن عين الشر تبدي المساويا
وأكثر من ذلك، هي
وأكثر من ذلك، هي تضخم المساوئ عين الشر، وتفتري، وتضيف، وتخترع، وتلفق، وتكثر من الأشياء الأساسية السلبية جداً، السلبية للغاية، ثم تنسى كل الإيجابيات، ولا تعتبرها وليس لها قيمةٌ لديها.
على العموم الإنسان هو يضر نفسه، مهما شعر بالراحة وهو يتجنى، مهما شعر بالراحة وهو يفتري، مهما شعر بالراحة وهو يطلق الكلام الجارح، والأحكام الجائرة على الناس، ويعمم بالتعميمات السلبية، ويتجاهل القضايا الأساسية، ويتجاهل القضايا المهمة، والمسؤوليات العامة، ويتجاهل القضايا الكبيرة، ويتجاهل الإيجابيات المهمة، هو يجني على نفسه، ويحمل نفسه الوزر، وسيعاقب على ذلك، لن تنفعه عقدته، لن تكون مبرراً له يوم القيامة أمام الله “سبحانه وتعالى”.
أيضاً مما يجدر الإشارة إليه والانتباه له في سياق الكلام والقول هو: أهمية أن يحرص الإنسان على الإقلال من القول، وعلى عدم الإفراط والإكثار فيما يقول:
طبعاً من السلبيات الكثيرة، من السلبيات البارزة، من الظواهر السلبية في المجتمعات: الإكثار من القول، وتضييع الكثير من الوقت، مثلاً: في مجالس القات، في مقايل القات كم يضيع من الوقت عبثاً، كم يهدر من الوقت، مع الإكثار من الكلام، كلام كثير، حتى بعض المواضيع، لا تحتاج إلى كلام كثير في الحديث عنها، وقد تعطى وقتاً طويلاً، ويأتي حديثٌ كثيرٌ عنها، لا حاجة له أصلاً:
فيه تضييعٌ للوقت.
ويأتي ضمنه السهو.
ويأتي ضمنه الزفق.
التجاوز.
المبالغة.
النقص في أشياء معينة، وعلى حساب أشياء معينة.
أيضاً في الاجتماعات، حتى في الاجتماعات العملية، ليحرص الناس أن يكونوا حكماء، أن يعطوا الأمور حجمها الطبيعي، فيما يقولون، وفيما يفعلون، وفي تركيزهم على المواضيع، قد يجتمع الناس، وبالذات- كما قلنا- إذا كانت في إطار تخزينة ومجالس القات، ومقايل القات، حتى لو كان اجتماعاً عملياً، يكثر الكلام حول أبسط الأمور كثيراً وكثيراً، حسب التعبير المحلي هدرة هدرة، كثيرٌ جداً من الكلام، وتعليقات كثيرة، وتطويلات تضيع وقتاً طويلاً، الوقت ثمين، الوقت نعمة، التركيز على الأولويات مسألة مهمة، ويأتي الحرج للإنسان الذي لديه حرص، ولديه اهتمام بأعمال، ولديه مسؤوليات، فيحرج ليصغي لهذا الإنسان الذي قد يتحدث حول قضية معينة.
طبعاً نعاني نحن من هذه المشكلة، البعض يتصل بنا من أجل موضوع بسيط قد يكفيه خمس دقائق، فيتحدث ساعة، يتحدث نصف ساعة، يتحدث ساعة ونصف، يحرج الإنسان، يتألم، يشعر الإنسان بالضيق؛ لأن هناك بانتظاره قضايا أخرى، قضايا مهمة، قضايا حرجة، مسؤوليات مهمة، التزامات عملية، ثم الآخر، والآخر ينتظر منك أن تسمع له ليتحدث كثيراً جداً.
ففي الواقع العملي والناس أمام التزامات ومسؤوليات ليختصروا في الكلام، ليختصروا في المواضيع، ليتركوا للأمور حجمها الطبيعي، فالقضية التي لا تستحق ثلاث ساعات، أو أربع ساعات، أو خمس ساعات، من الكلام الكثير الكثير، لا لزوم لذلك، لا يضيع الناس أوقاتهم الثمينة المهمة، في الحديث الذي لا ضرورة له، لا حاجة له، الناس بانتظار مسؤوليات، ومهام، وأعمال، وانشغال، وعلى الأقل إذا كنت في فراغ، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 7-8]، استفد من جزءٍ من فراغك هذا استفد جزءًا منه في ذكر الله “سبحانه وتعالى”، وهذه من الأمور المهمة جداً، لمعرفة أهمية الوقت، الوقت ثمين.
حتى في المجالات العملية، الذين لهم اجتماعات عملية، اجتماعات رسمية، اجتماعات في إطار عملي، ليتعلموا الاختصار، خاصةً في القضايا التي لا تستحق الكثير من الكلام عنها، والتطويل الممل بشأنها.
فالله “سبحانه وتعالى” يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، مع القريب والبعيد، اعدل، اعدل، البعض من الناس مثلاً إذا كان صاحب الموقف، أو صاحب القضية من أقربائه، أو من قبيلته، أو من منطقته، من بلاده، من محافظته، فقد يتسرع للحكم لصالحه، للتضامن معه، لإطلاق العبارات المؤيدة له، يتعصب له، لهذه الروابط؛ وبالتالي:
يجور فيما يقول.
يتجنى فيما يقول.
يفتري فيما يقول.
يتهم باطلاً فيما يقول.
يطلق الأحكام العامة، الجائرة الظالمة فيما يقول.
وفي كثير من الأحيان قبل أن يعطي نفسه فرصة للتبين، وهذا مما نعاني منه بشكلٍ كبير في الواقع العملي، بشكلٍ كبير.
البعض من الناس بمجرد أن يسمع أي شكوى، أو أي دعاية من أحد، أو تجاه أحد في بلده، أو منطقته، أو محافظته، بسرعة يطلق الأحكام الجائرة، ويتبنى الموقف على نحوٍ عاجل، بدون أي تأخير، وبدون أي تحقق، أو تبين، هذه قضية خطيرة جداً، علينا أن ندرك أهمية العدل فيما نقول، وفيما نعمل.
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الأنعام: من الآية152]، الوفاء بالعهد، العهد: الالتزامات والمواثيق ما بين الإنسان وبين الله، وما بينه وبين عباده، ومن أهم ما علينا أن نلتزم به، أن نفي به، على المستوى الإيماني والديني، والأخلاقي، والإنساني، ولصلاح الحياة واستقرارها، أن يكون الإنسان وفياً وصادقاً تجاه التزاماته ومواثيقه، مع الله، ومع عباده، هذه مسألة مهمة جداً، قيمتها الإنسانية كبيرة، قيمتها الأخلاقية كبيرة، قيمتها الدينية والإيمانية كبيرة، وبدون ذلك فالإنسان خائنٌ، والإنسان مجرمٌ، والإنسان كاذبٌ، والإنسان لا دين له ولا ذمة له، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}، تأكيد من الله “سبحانه وتعالى”، توجيهات ملزمة، ليست مقترحات، ليست أفكار تقدمها جهة عادية للناس، فيما إذا ترجح لهم الأخذ بها، هذه توجيهات من الله “سبحانه وتعالى”، من ربنا العظيم، ملزمة، وبينها لنا، وأكد عليها، وبقي علينا أن نستوعبها جيداً، وفي وسعنا الالتزام بها، تقدم قوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[الأنعام: من الآية152]، في وسعنا، يعني: حتى أن الوسع هو أكثر من مسألة الطاقة، الطاقة حالة أضيق، ما تطيقه، لكن الوسع يعني أن بإمكانك أن تفعل هذا، بمقدورك أن تلتزم بذلك حتى بيسر، حتى بسعة، حتى في سعتك أن تلتزم به، فلا مبرر للإنسان بعدم الالتزام بهذه الوصايا الملزمة، لا مبرر له، أصبحت واضحة، بينها الله “سبحانه وتعالى”، أكد عليها، ألزم بها، وفي نفس الوقت إذا تذكر الإنسان ووعى وأدرك أهميتها، ثمرة الالتزام بها، خطورة التفريط بها، هذا يساعده على الالتزام بها.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛