مستوى الاستهداف للأمة فرض مشروعا شاملاً للردع
طبيعة الاستهداف الأمريكي والإسرائيلي لأمتنا، ومعه تحالفه الواسع، ومعه كل تلك القوى التي تتبعه، تتآمر معه، تشترك معه، تشتغل معه في مؤامراته على هذه الأمة والاستهداف لهذه الأمة، طبيعة هذا الخطر والتهديد، وهو شامل يشتغل في كل المجالات: يشتغل في المجال السياسي وبشكلٍ واضحٍ ومكشوف وصريح وعلني، بل تروضت هذه الأمة إلى أن تتقبل هذا التدخل في شؤونها السياسية، وكأن الأمريكي، وكأن الإسرائيلي، وكأن الغربي جزءٌ لا يتجزأ ومعنيٌ أساسيٌ بقضاياها بأكثر مما هي معنية، بمشاكلها بأكثر مما هي معنية، بوضعها وواقعها الداخلي بأكثر مما هي معنية؛ حتى بات البعض من أبناء الأمة قد يتقبل بالأمريكي أن يتدخل في موضوعٍ معين أو قضية معينة، ولا يتقبل بأخيه المسلم، ولا يتقبل بابن جلدته ووطنه، ويقبل من الآخر- وبكل رحابة صدر- أن يأتي، وأن يفرض آراءه، وأن يتدخل بكل أشكال التدخل.
مستوى هذه الهجمة التي أتت لتشمل كل المجالات: على المستوى السياسي، على المستوى الثقافي والفكري، وتسعى أيضاً على المستوى العسكري بفرض قواعد عسكرية ووجود عسكري وتدخلات عسكرية بالقتل والتدمير والاحتلال في مناطق هنا وهناك من ساحتنا العربية، من ساحتنا الإسلامية، التدخل على مستوى العقوبات الاقتصادية… التدخل بكل أشكاله. مستوى هذه الهجمة الشاملة والكبيرة والهائلة لابدَّ في مواجهة هذا التهديد وهذا المستوى من الخطر من مشروعٍ نهضويٍ تعبويٍ شاملٍ وواسع، لا يتجه فقط إلى النخبة لا يقتصر فقط على المساحة السياسية؛ لأن الهجمة من الأعداء هجمةٌ شاملة، وتستهدفنا في كل شيء، وأتت إلى كل مجالات الحياة وميادين الحياة، فنحن بحاجة إلى أن يقابل هذا العدوان وهذا المشروع المعادي بمشروعٍ واسع، وبحالة استنهاض شاملة، وبحالة تعبئة شاملة تأتي إلى كل أبناء الأمة؛ لأن العدو يستهدف كل أبناء الأمة، يسعى للتأثير على كل أبناء الأمة، يسعى للسيطرة على كل أبناء الأمة، له برامجه وأنشطته واهتماماته التي تستهدف كل أبناء الأمة: رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، كباراً وصغاراً، من كل الفئات وعلى كل المستويات، ويشتغل ويتحرك ويتسلل من كل النوافذ والأبواب لاختراق كيان هذه الأمة، والتغلغل إلى ساحتها الداخلية، والتأثير في واقعها الداخلي.
وعندما ننظر في وضعية أمتنا، فإننا من سنجد أنفسنا أمام واقع مرير جدا، الكثير من الظواهر السلبية القائمة، مع تخلف، وتشرذم، وعداوات بينية، واستضعاف، واستكانة، وهزيمة نفسية، واستسلام للأمر الواقع، وتبعية عمياء للأعداء، وحروب داخلية، وأمراض متفشية، وفقر مدقع وأزمات اقتصادية وسياسية خانقة، وهيمنة وتسلط قوى خارجية وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، وهذا بسبب القصور والتقصير من قبل الأمة، إذ لم يكن العدو وحده هو من أوصل الأمة إلى ما وصلت إليه، بل كان قصور وعيها وتقصيرها تجاه دينها، ورموزها، وقيمها، ومبادئها، وتنكرها لهويتها، وأخلاقها، وتناسيها لمسؤولياتها وأمجادها، هو أهم ما ساعد العدو على تركيعها وقهرها وإذلالها، وايصالها إلى أسوء انحطاط عرفه التاريخ البشري، فمنذ حادثة السقيفة وإلى اليوم لازال القصور والتقصير ينخر جسد هذه الأمة، ولازالت بؤرة الانحراف تتسع وتكبر مع مرور الأيام جيلا بعد جيل، فأمة خالفت نبيها، وهجرت كتابها، وقتلت هداتها، معرضة لامحالة للعقوبة الإلهية والخذلان الرباني، والتسليط عليها، حتى تثوب إلى رشدها وتعود إلى ربها وكتابه ونبيها وهداتها، وهذه هي سنة الله مع الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
معناة الأمة من أعدائها:
عندما تخلت الأمة عن مقومات قوتها وسر صمودها، غزيت في عقر دارها فذلت وجبنت وقهرت واستسلمت، وصار حاميها حراميها على رأي المثل، ومن هذا المنطلق سحق العدو كل ما تبقى لها من فضول قوتها، ونشاطها، وذلك من خلال:
مؤامراته ومكائده المتكررة: والتي أبرزها مؤامرة (الإرهاب) التي سعى العدو من خلالها للقضاء على الإسلام والمسلمين، فدمر عددا من شعوبهم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، ومزق الباقي بالمشاكل، والخلافات الداخلية، واستطاع توجيه بوصلة العداء العالمي ضد الإسلام وأهله، وتشويهه، والتشكيك فيه، والتعرض لرموزه ومقدساته، وفي مقدمتهم الرسول الأعظم محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) وفسح المجال لانتشار العلمانية والتي من خلالها هدف إلى سياسات التعهير الجماعي، وتفريغ المجتمعات من الدين الإسلامي والأخلاق الفاضلة، واسدل الستار على القضية الفلسطينية، واستبدالها بمشروع التطبيع مع اليهود.
كما أثرت سياسة الاغتيالات والاعتقالات: بشكل كبير على واقع الأمة, لما تمثله من خطورة بالغة، حينما حرمت الأمة من قادتها, وأبطالها ومفكريها, ومثقفيها, وعلمائها المخلصين وخيرة أبنائها الذين في مقدورهم قيادة الأمة نحو بر الأمان, وزج بمن تبقى منهم في السجون والمعتقلات الأمريكية, والإسرائيلية, وهذا له أثره الكبير في نشر الخوف, وترسيخ الهزيمة النفسية بين أوساط الأمة, وشل الحركات المقاومة, والمناهضة لأي احتلال يطال الأمة .
أما الحرب الثقافية والإعلامية: فهي أبلغ خطورة، وأشد ضررا من مثيلاتها، وقد أوصلت الأمة إلى مستوى رهيب من الفوضى والتبعية, والاستسلام, وسلاسة الانقياد، حتى صار الكثير من أبناء الأمة يؤمن قطعا بأن الأمة لن تستطيع النهوض إذا تخلى عنها الغرب، بينما صار البعض منهم مقتنع تماما أن الإسلام هو سبب تخلف هذه الأمة، وهذه القناعات الخطيرة تولدت بسبب الحرب الثقافية والإعلامية التي يشنها أعداء الأمة على أهم مقوماتها وهي: معتقداتها ـ وعاداتها ـ وأخلاقها ـ وهويتها، فإذا كانت الحرب العسكرية والاقتصادية تقتل البعض، فإن الحرب الثقافية تفسد الكل.
الحرب السياسية والاجتماعية: أما إذا تلمسنا آثار الاستهداف السياسي, والاجتماعي على أمتنا، فإننا سنرى واقعا اجتماعيا ممزقا ومبعثرا، تسوده المشاكل والخلافات، وتغلب عليه العنصريات والقوميات، واقعا ملؤه التخلف والجهل، لا مشروع له في الحياة ولا هدف ينشده سوى التنافس على رضى العدو الأمريكي والإسرائيلي، والتهالك على الفتات المتبقي من ثرواته المنهوبة، والتسابق على ما يصل إليه من صدقات وتبرعات أعدائه، والتي يدفع ثمنها من عزته وشرفه، وعرضه وأرضه، ودينه ومقدساته وحريته، في ظل أنظمة عميلة هي عليه أشد وطئا وأعظم تسلطا وقهرا.
الحرب الاقتصادية والناعمة : يقال بأن الاقتصاد عصب الحياة, ولأن العدو بتر هذا العصب فقد ترك الأمة مقعدة لا تقوى على الحراك, فدمر اقتصادها, وألتهم ثرواتها ومقدراتها, وحولها إلى سوق استهلاكية كبيرة لمنتجاته, تعمها البطالة ويسودها الفقر, وتنتشر فيها العاهات والأمراض, والتسول الجماعي والفردي, ويتدنا مستوى الدخل الفردي في بعض شعوبها إلى أحط المستويات, مما يسمح له فقط أن يفكر في لقمة عيشه, دون أن يلتفت لأي مشروع قد يخلصه من معاناته, ولم يكتف بذلك بل عمد إلى استهداف أبناء هذه الأمة في أخلاقهم ومبادئهم، وعاداتهم وتقاليدهم، فنشر بينهم الخلاعة والسفور، والفساد الأخلاقي, والخمور والمخدرات, وحول الكثير من شباب هذه الأمة إلى شباب تافه ضائع، لاهم له إلا اشباع غرائزه وشهواته، فلا ضياع دينه يعنيه، ولا قتل أبناء جلدته يهمه، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان44
ومن بين هذا الركام من المآسي والنكبات، وفي ظل هذه الوضعية المحبطة جدا، كسر الشهيد القائد (رضوان الله عليه) جدار الصمت المريب، وصدح بمشروعه النهضوي، التصحيحي، التحرري، الواقعي، الإيجابي، وصرخ في وجه المستكبرين الظالمين، ليقول لكل أبناء الأمة أن في ارتباطنا بالله، وبرسوله, وكتابه, وأعلام هداه, سر نجاتنا, فوزنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة, وليثبت للعالم كله أن الإسلام دين لن يقبل الهزيمة.
ففي مواجهة هذا المستوى من الاستهداف لابدَّ أن يكون هناك مشروعٌ شامل، مشروعٌ استنهاضيٌ، ولابدَّ أن يلحظ هذا المشروع كمشروعٍ شامل لا يتجه فقط إلى النخبة، وإنما يتجه إلى جماهير الأمة وأبناء الأمة بكلها، أن يلحظ التعبئة والتحسيس بالمسؤولية، وأن يلحظ رفع مستوى الوعي لدى أبناء الأمة، الوعي بالعدو، المعرفة بالعدو، المعرفة بمخططات هذا العدو، بأساليب هذا العدو، والمعرفة أيضاً بالأساليب والوسائل الصحيحة للتصدي لمؤامرات هذا العدو في كل المجالات، وإبطال وإفشال كل مخططاته ومؤامراته في كل المجالات أيضاً.
هذه الرؤية من أين تتوفر؟ من أين تتوفر رؤية شاملة، رؤية واسعة، مفاهيم صحيحة، برنامج عمل يؤتي ثماره المطلوبة في تعبئة الأمة، في اكسابها وفي تعبئتها بالطاقة اللازمة لمواجهة هذا المستوى الكبير من التهديد والخطر، ولتزويدها بالرؤية النقية والصحيحة والسليمة تجاه هذا العدو وتجاه مخاطره؟ لا شيء يرقى إلى مستوى القرآن الكريم يحقق للأمة كل هذا: رؤية متكاملة صحيحة واقعية، وكذلك أيضاً طاقة معنوية هائلة ترتقي بالأمة لمستوى مواجهة هذه التحديات وهذه الأخطار، وهكذا كان المشروع القرآني الذي تحرك به السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- وشعاره المعروف، وخطوته المشهورة والمعروفة بالدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، ثم ما يدخل ضمن هذا المشروع من خطوات عملية في كل المجالات، وما يقدمه للأمة لتحصين ساحتها الداخلية من كل حالات الاختراق والاستهداف.
[مقتبس من محاضرات السيد عبد الملك في ذكرى الصرخة]