احتفالاتُ المولد.. عودةُ المجتمع اليمني إلى الإسلام المحمدي
|| صحافة ||
تُعتبَرُ القيمُ الدينية والطقوسُ الروحية والشخصياتُ المقدَّسة، متطلباً اجتماعياً يشبع رغبات متعددة لازمة لتطور المجتمعات، والنشوة الروحية رغم انتمائها إلى عالم السماء، إلا أن جذورَها تكمُنُ في واقعِ الحياة الاجتماعية الملموسة، كما أن انعكاساتِها دنيويةٌ ماديةٌ.
والاحتفالاتُ بالمولد النبوي لها أبعادٌ ثوريةٌ عميقةُ الأثر في الأوساط الاجتماعية الإسلامية، مُتعلقة بطبيعة الشخصية المُحتفل بها، وبالأوضاع والحاجات الاجتماعية الثورية لهذه الأوساط التي تقوم بهذه الطقوس الاحتفالية، ومن هُنا مثل الاحتفال بالأعياد النبوية خطراً على المُستبدِّين، فكان التوجّـه إما لإفراغ هذه الاحتفالات من مضمونها الثوري لتبقى فقط طقوساً تؤدي دوراً تخديرياً للمجتمع ترغبه في الزهد والتنسك والتعلق بالآخرة، وتبعده عن المسؤوليات العامة، أَو محاربتها تماماً، حتى تلك الطقوس المُفرغة من المضامين الثورية تُذكِّر المجتمع بهذه الشخصية.
احتفالاتُ المولد في العصر الحديث
لطالما كان المولد النبوي عيد اليمنيين الأول في تاريخهم القديم والحديث، فمنذ تأسيس أول دولة وطنية يمنية مستقلة في العصر الحديث المملكة المتوكلية اليمنية ١٩١٨م كان المولد أحد المناسبات والأعياد الرسمية في الدولة وُصُـولاً إلى فترة رئاسة الشهيد إبراهيم الحمدي في العهد الجمهوري، فقد كان المولد النبوي عيداً ومناسبة عامة كما تثبت بعض الصحف التي تعود إلى تلك الفترة، وبدأ تجاهل هذه المناسبة في الفترات اللاحقة حتى ثورة 21 سبتمبر.
في جنوب الوطن ظلت مناسبةُ المولد عيدَ الشعب الأول وخَاصَّةً في حضرموت وتريم، حَيثُ التربية الروحية الصوفية، وكانت هذه الطقوس في فترة الاستعمار والسلاطين غير محاربة فقد كانت تلعب دور المزهد ولا تحض على الجهاد في مواجهة الطغيان السلاطين والاستعمار -مع عدم إغفال أن هناك أُسَراً صوفيةً كانت لها مواقفُ وطنية وجهادية-.
بعد الاستقلال في جنوب الوطن كان يوم المولد النبوي يوم إجازة رسمية، إلا أن المناسبة تعرضت للتضييق -كمناسبة علنية عامة- وذلك في فترة حكم التيار اليساري المتطرف التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية، والذي كان له بشكل عام توجّـه معادٍ للفكر الديني وفقاً لفرضية أن “الدينَ لا يشجّع على الثورة والمشاركة المجتمعية في النضال السياسي، ويبرّر الفقر والجوع والبؤس على أنه قدر من الله”، كان هذا البُعد الفكري الخاطئ هو السبب الرئيسي في تضييق النظام الجنوبي سابقًا على النشاط الديني الجماهيري بما فيه مناسبة المولد النبوي الشريف وزيارة مقام نبي الله هود عليه السلام، وغيرها من المناسبات الإسلامية الصوفية، وهذا لا يعني بأنها كانت ممنوعة قطعاً، إنما كان المنع هو في القيام بها بشكل جماعي فيما ظلت مُستمرّة في بعض المساجد والزوايا والمنازل.
منعُ المولد في شمال الوطن
في شمال الوطن توقفت مناسباتُ المولد كاحتفالات شعبيّة، وكانت مقموعةً بشكل أكبر مما هو عليه الحال في جنوب الوطن، فقد كان قمعًا ثقافيًّا تكفيريًّا وتغيير المفاهيم في وسط المجتمع وهو أخطر من الحظر السياسي، وكان السبب الرئيسي لإيقاف فعاليات المولد في شمال الوطن قبل الوحدة، هو البُعد الوهَّـابي العقائدي الذي يُكفر كُـلّ مظاهر تعظيم شعائر الله من تقديس للنبي والأئمة والأولياء، على افتراض أن هذه الشعائر والمناسبات بدع ومناسبات شركية.
كان الدافعُ الوهَّـابي هو السبب الأول في محاربة فعاليات المولد النبوي وغيرها من الطقوس، وقد دخلت الوهَّـابية في صراع مفتوح مع المذاهب اليمنية التي تعايشت على مدى قرون، حَيثُ أن للوهَّـابية موقفاً من المذاهب الأصيلة في اليمن وهي الزيدية والشافعية والإسماعيلية ومختلف الطرف الصوفية.
ترافق المد الوهَّـابي في اليمن مع نشاط سياسي عسكري للمملكة العربية السعوديّة وللجبهة الإخوانية في مواجهة قوى اليسار والقوميين في شمال وجنوب الوطن، فكان الهدف الثاني في فرض رؤاهم الثقافية قسراً على المجتمع اليمني والتغيير فيه، لهدف سياسي يتمثل في إخضاع المجتمع اليمني وإعادة صياغة موقفه الثقافي وولائه السياسي للمملكة السعوديّة وشيوخ الوهَّـابية في نجد، وبعد حرب 94 التالية لقيام الوحدة اليمنية أصبح الوضع متماثلاً في جنوب الوطن وشماله فقد تم دعم الحركة الوهَّـابية في غزو جنوب البلاد ثقافيًّا وفي ملء الفراغ الديني الذي كان موجوداً بشكل نسبي في زمن حكم الحزب الاشتراكي بتوجّـهه العلماني وإهماله للبعد الروحي الديني في حياة المجتمع.
حربُ صيف 94 لم تؤدِّ فقط إلى تغوُّل الحركة الوهَّـابية لجنوب الوطن، بل أَيْـضاً ترافق معها توسع نشاط الوهَّـابية في شمال الوطن وقمع مختلف المدارس المذهبية وخَاصَّة الزيدية والصوفية، وقد استمر النظام السابق بعد الوحدة بتشجيع ودعم الحركة الوهَّـابية -وتغلغلها في مؤسّسة الدولة بما فيها المؤسّسة العسكرية- ومنع الفعاليات الجماهيرية لمناسبات المولد استجابة للتوجّـهات السعوديّة، وأصبح للنظام موقف من كُـلّ حراك إسلامي أصيل بعد توقيع اليمن اتّفاقية مكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2000م، وخلال الحروب الست الظالمة وصل الأمر إلى حظر النظام الاحتفال بعيد الغدير وذكرى استشهاد الإمام زيد وذكرى استشهاد الإمام الحسين عليهم السلام.
طوال فترة الوحدة كان النشاط العلني للمولد النبوي مقموعاً في أوساط المجتمع، دون أن يعني ذلك أنه لم يكن هناك فعاليات لإحيَاء هذه المناسبة ولكن بشكل شبه سري أحياناً وفي بعض المساجد والزوايا والمنازل، وإن كان النظامُ قد أتاح هامش حركة للصوفية في تريم حضرموت والحديدة، وسمح بقيام مدارس دينية تقام فيها هذه المناسبة، ولكن ذلك لم يكن عن قناعة بالمولد النبوي أَو التصوف بل برز كحاجة في الصراع التنافسي بين المؤتمر والإخوان.
في المرحلة السابقة لثورة 21 سبتمبر
في المرحلة السابقة لثورة 21 سبتمبر كان هناك تنافر ما بين الحُكام المستبدين، وبين ما جاء به الرسل عليهم السلام من مبادئ العدالة والرحمة والمساواة؛ لأَنَّ بقاء الجانب الروحي القادر على حشد الملايين سنوياً من مختلف الطبقات الاجتماعية، يُعد لقاءً جبهاوياً واسعاً مُزاحماً لشخصية الحاكم الفرد، فاستشعار الجماهير في لقاءاتهم هذه، وحدتهم الشعبيّة، وتذوقهم حلاوة الحضور الروحي، يُصغر في أعين المحتفلين بالمولد قداسة الحاكم المُدعاة وقوته وقدرته الاستبدادية الطاغوتية، خَاصَّة إذَا ما تناولت الخطابات والأناشيد والأغاني والمسرحيات في هذهِ المناسبة، مضامين نصرة المُستضعفين في سيرة الرسول الأعظم، وقبسات من سيرته الجهادية، ومفهوم العبودية لله وتنزيهه ومقام المصطفى وتوليه.
في الجانب الآخر، سيطرةُ الشرائح التجارية اللاهثة وراء الربح السريع، والتي تنمي ثرواتها من خلق الحاجات الاستهلاكية لدى المجتمع، هذه الطبقة الاجتماعية الطُّفيلية، في حالة تناقض طبقي مع الخطاب الديني، بما يُمثله الدين من دعوة للتقشف، لا اللهث وراء الموضة والاستهلاك السلعي، وبما يدعو إليه من الشراكة والإنفاق والإحسان، لا الاحتكار والاكتناز، وبما يدعو إليه من الالتزام بالقيم والأخلاق السوية، هذه القيم الأخلاقية التي تتناقض مع مبدأ الربح الرأسمالي –المتوحش- ومع مساعي الطبقة المترفة إلى بيع السلع والمنتجات قد يدعو بعضها لفساد أخلاقي أَو للعبث واللهو… إلخ، هذه الطبقة المترفة في حالة تناقض دائم مع القيم والأخلاق السوية، وبالتالي مع كُـلّ انشداد نفسي إلى الأنبياء والرسل والحكماء، وهي أَيْـضاً ضد كُـلّ اجتماع شعبي يوحد القوى الشعبيّة، ويُعيشهم نوعاً من الانسجام الروحي، وفي هذه المسألة يتوحد موقف البرجوازية مع موقف الحاكم المُستبد، فكلاهما لا يُريدان قيمة أعلى من قيمة المال والسُّلطان.
عودةُ اليمنيين للاحتفال بالمولد النبوي
يُحسَبُ لأنصار الله أنهم كانوا أولَ مَن أعاد طرحَ مسألة إحيَاء فعاليات المولد النبوي الشريف، في احتفالات جماعية عامة، كجزء من دعوتهم إلى العودة للقرآن الكريم والإسلام المحمدي الأصيل، وهو مشروع الشهيد القائد السيد حسن بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، والمتميز بتبني فعاليات المولد من قبل أنصار الله هو مسألة ربط الروحي بالسلوكي، وباعتبار الاعتزاز بالرسول جزءاً من التحَرّك العملي في المواجهة مع اليهودية الصهيونية والاستعمار الأمريكي، وقد ظل أنصار الله يحيون فعاليات المولد النبوي بشكل مُستمرّ.
الثورةُ الشعبيّة والارتباطُ الجديد بالرسول
من بعد انتصار الثورة الشعبيّة اليمنية دخل اليمنيون في مرحلة مميزة من العودة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإحيَاء مناسباته وفي مقدمتها مناسبة المولد النبوي الشريف، بصورة علنية حاشدة ومركزية، ومرتبطة بالممارسة العملية الثورية والموقف من الاستبداد والفساد والتدخلات الأجنبية.
أثبتت مناسبات المولد النبوي من بعد ثورة ٢١ سبتمبر حقائق جديدة، كانت مغيبة، فجاءت الثورة لتعلن عنها، وهي حقيقة رفض اليمنيين للوهَّـابية وحنينهم إلى الإسلام المحمدي الأصيل، فطوال فترة تسيد الوهَّـابية في اليمن وقمعها للمناسبات والأنشطة والطقوس الروحية والمدارس الإسلامية المختلفة، طوال هذه المرحلة كان يتبلور موقف إسلامي يمني مضاد للوهَّـابية، ومع اشتداد جرائم الجماعات التكفيرية على طول البلاد وعرضها دخل الإخوان في صراع مباشر مع الشعب ضد الثورة في المرحلة الأولى ثم إلى جانب العدوان ضد الثورة والشعب والوطن عُمُـومًا في المرحلة التالية، في مقابل هذا الطغيان الوهَّـابي والجرائم التكفيرية كان ينمو لدى اليمنيين موقف رفض الوهَّـابية، والحاجة إلى العودة نحو الإسلام المحمدي الأصيل، هذه التغيرات في الوعي الاجتماعي كانت مخفية تحت ضغط القمع العسكري والسياسي والإجرامي الإخواني الوهَّـابي السعوديّ الأمريكي.
إن ما قامت به ثورة ٢١ سبتمبر على هذا الصعيد أنها رفعت اليد الإجرامية عن الشعب اليمني فخرج اليمنيون بعفوية يعبرون عن محبتهم لرسول الله، هذه الحقيقة كانت تتضح وتتنامى وتتأكّـد من عام إلى آخر، ولم يكن مصادفةً أن كُـلّ محافظة ومديرية جديدة يتم تحريرُها من قبل قوات الجيش واللجان الشعبيّة كانت تقام فيها فعليات المولد النبوي، فلم يتم تغير موقف المجتمع في غضون أَيَّـام فقد كان المجتمع يحمل محبة قديمة لرسول الله، فلما رفعت عنه اليد الوهَّـابية بسواطيرها الإجرامية خرج للاحتفال بالمولد النبوي، في المناطق المحرّرة من تعز والضالع والبيضاء والجوف ومأرب.
إن خروجَ اليمنيين في مختلف المحافظات وفي الفعالية المركَزية في العاصمة صنعاء، يعد بمثابة استفتاء شعبي وتصويت للإسلام المحمدي الأصيل والهُــوِيَّة الإيمانية اليمانية التي تجمعُ ولا تفرِّق، ورفضاً للوهَّـابية السعوديّة والأفكار الدخيلة على المجتمع اليمني.
صحيفة المسيرة