الاحتفال بمولد الرسول الأكرم.. موروث شعبي ديني متجذّر في اليمن
|| صحافة ||
ليست ذكرى المولد النبوي حدثاً عابراً، يمكنُ أن يَمُــــرَّ هكذا بسلام، فاليمنيون وعلى مدى عقود من الزمن كانوا يحتفلون بيوم مولد الرسول الأكرم، ويستجلبون البركات بمدحِه -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ-، إمَّا بالصلاة عليه، أَو إنشاد شعر مديحه.
وبقراءة لسيرة الرسول الأكرم، فَـإنَّ اليمنيين كانوا أول من احتفل بقدومه، حين استقبله الأنصار اليمنيون بالأفراح والأهازيج في المدينة المنورة، مردّدين تلك الأبيات المحفورة في ذاكرة كُـلّ مسلم ومسلمة:
طلع البدر علينا.. من ثنيات الوداع
وجب الشكرُ علينا.. ما دعا لله داع
أيها المبعوثُ فينا.. جئتَ بالأمرِ المطاعِ
جئت شرّفتَ المدينة.. مرحبًا يا خيرَ داع
ومنذ ذلك التاريخ، حفر اليمنيون مكانةَ الرسول في جدار قلوبهم؛ حباً ووداً، واتِّباعاً، وأسوة حسنة في جميع مجالات الحياة، ولذلك فَـإنَّهم يحيون هذه المناسبة المقدسة بكل حفاوة ليس من منطلق المذهبية، وإنما من منطلق الوعي والتمسك بالنبي محمد ورسالته -صلوات الله عليه وآله، وهم منذ القدم، شافعيتهم وزيديتهم، يحيون هذه المولد بطقوس متعددة، بالموالد وقراءة سيرته وإنشاد المدائح النبوية والمهرجانات والأُمسيات الشعرية والندوات الفكرية.
ولا يقتصر الاحتفال بالمولد عند اليمنيين على الطقوس، بل جعلوا من مظاهر الاحتفال بمولد الرسول الأكرم -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- فُرصةً للتراحم والتكافل والعطف على الفقراء والمساكين ومساعدة المحتاجين وتجسيد المبادئ القرآنية والأخلاق النبوية التي كان يتحَرّك على أَسَاسها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله.
وتتنوع طقوس الفرح بالمولد النبوي من منطقة إلى أُخرى في اليمن، فخلال الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف الذي يوافق يوم 12 ربيع الأول من كُـلّ عام هجري، تجد اليمنيين قد أعدوا لها منذ وقت مبكر، ففي بعض المناطق كان الناس يخرجون في الصباح ليؤدوا الرقصات الشعبيّة، على إيقاعات “البرع”، وَبين صلاتَي المغرب والعشاء يستمعون إلى الخطب والمحاضرات الدينية، التي يتخللها ترديدُ الصلاة والسلامُ على الحبيب المصطفى محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ-، كما أن بعضَ المناطق كانت تحرص على إيقاد الشُّعلة على الجبال ليلة المولد، كما تكثُرُ في هذا اليوم زيارةُ الأرحام والأقارب، ويستغلها الكثيرون فرصة للتسامح فيما بينهم.
احتفالاتٌ في كُـلّ منطقة
ويعتبر الملايين من اليمنيين المولد النبوي مناسبة لتحضير موائد الطعام الشهية وحلوى المولد، والتي تعد من أبرز معالم بهجتهم بهذا الاحتفال، ففي مسجد المحضار بمدينة تريم بمحافظة حضرموت جنوب شرقي اليمن تقامُ سنوياً احتفاليةٌ بهذه المناسبة، ويتم فيها قراءةُ مقاطعَ من سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله- والمشاركة في إنشاد القصائد التي تتضمن ذكر سجايا وفضائل النبي المصطفى والمديح له.
ويكتظُّ مسجدُ المحضار بالوافدين إليه الذين يرتدون الثياب البيضاء، وغالبيتهم ينتمون إلى المذهب الصوفي، ويتقدمهم علماءُ وفقهاءُ المدينة، حَيثُ تتعالى الأصواتُ بالصلاة على النبي محمد -صلى الله عليه وآله- وذكر فضائله وسجاياه؛ فرحاً وابتهاجاً وتذكراً للحظة مولده، ويتخلل الاحتفالية توزيع القهوة والتعطر بالبخور، وسط أجواء صباحية تضفي الروحانية على الحاضرين، قبل أن تختتمَ بالدعاء والابتهال إلى الله تعالى بأن يعيد هذه المناسبة وقد أُجلي الهم والغم على الأُمَّــة الإسلامية.
ولسنوات عديدة مثلت مدينة تريم، التي اختيرت عاصمةً للثقافة الإسلامية عام 2011، مركَزاً ومرتكزاً لعدد من الفعاليات الاحتفالية والمهرجانات الإنشادية التي تقام في شهر ربيع الأول من التقويم الهجري، وتستحوذُ على اهتمام واسع على المستويين الداخلي والخارجي.
وفي البلدات التهامية فَـإنَّ “ليلة النور” تعد فرصةً للقاء كبار السن الذين يحتشدون في مجالس ليلة جماعية لتلاوة القرآن، ومناقشة سيرة النبي محمد، فيما يحرص الأطفالُ والأُمهات على زيارة الملاهي في صباح اليوم التالي.
إن المولدَ باختصار يومٌ مليءٌ بالأذكار والأناشيد والمدائح المحمدية والمقامات الدينية المتنوعة التي تسرد حياة النبي محمد وَمعجزاته في عدة مناطق تهامية.
ومنذ عشرات السنين، كان المولد النبوي يقام في جامع “بيحان” بمحافظة شبوة، وكانت تقدم الوجبات والولائم، ويشارك بالمولد حتى كبارُ وصغار السن.
وعرفت معظمُ القرى في مختلف المحافظات اليمنية طقوساً وعاداتٍ احتفائية بالمولد النبوي من قبل المتصوفين، حَيثُ كانوا يعملون على إحيَاء المولد من خلال جلسات القات التي يقومون فيها بالإنشاد وترديد أبيات شعرية بألحان مختلفة، بحسب عادات المنطقة أَو المدينة.
وكان مشايخ الصوفية في محافظة تعز يقيمون كُـلّ عام احتفالاً كَبيراً بالمولد النبوي في منطقة “يفرُس” في مديرية جبل حبشي، وكانوا يتوافدون من مختلف القرى إلى المنطقة ويقيمون فيها وليمةً كبيرةً يوزعونها على الفقراء والمساكين، ويتم خلال الفعالية التي تستمر أسبوعاً كاملاً قبل وبعد مولد الرسول قراءةُ قصائد عبدالهادي السودي وأحمد بن علوان اللذين يُعدان من أبرز أعلام الصوفية في المحافظة.
أما في مدينة صنعاء القديمة فَـإنَّ الاحتفالَ بالمولد النبوي زاهٍ مع الورد ورائحة العطر والبخور، حَيثُ يتجمعُ سكانُ المدينة وعلى مدى سنوات كثيرةٍ في يوم المولد من بعد صلاة المغرب في الجامع الكبير، ويقوم الخطيبُ بالصلاة على الرسول وعلى آله، ويتم سردُ سيرة الرسول، ومولده ونشأته وحياته وأخلاقه وصفاته، فيما المجتمعون في الجامع يصلون على النبي، كما أن النساءَ يجتمعن في جامع النساء ويقمن بعمل مولد نبوي.
وبعد الانتهاء من قراءة سيرة الرسول، يقوم أحد المنشدين بالإنشاد، فيما يقوم أحد الأطفال برش ماء الورد على الحاضرين وهم يردّدون الصلوات ويتم تبخيرُ الجامع بالعُودة ويستمر الاحتفال من ساعتين إلى ثلاث ساعات.
وتعتبر صعدة من أبرز المحافظات اليمنية إحياءً لذكرى مولد الرسول عبر القرون السابقة، حَيثُ كانت تقام مراسيم الاحتفال بالمولد النبوي في صعدة طيلةَ أَيَّـام شهر ربيع الأول، وَيقوم مشايخ وأعلام المحافظة بتجهيز ولائم عشاء كبيرة في مركز المدينة.
ويعد جامع الإمام الهادي أحد أبرز الأماكن التي يقام فيها الاحتفال، حَيثُ يتم قراءةُ سيرة الرسول كُـلّ ليلة من ليالي شهر ربيع الأول، ويلقي الكثيرُ من الشعراء قصائدَ في مدح الرسول.
وبجانب هذه التنوع الرائع في إقامة الاحتفال فَـإنَّ إحيَاء المولد النبوي في اليمن أصبح جزءاً من الموروث الشعبي عبر الأجيال؛ لما له من تأثيرٍ كبيرٍ في وجدانهم الديني والشعري والفني، إذ أنتجت هذه المناسبة إرثاً ثقافيًّا وفنياً كَبيراً تمثل في العديد من القصائد والموالد والأناشيد والألحان الصوفية.
الوهَّـابية دخيلٌ شاذ
لقد ظل اليمنيون وعلى مدى سنوات كثيرة يحتفلون بمولد الرسول الأكرم محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- حتى انتشرت ثقافة الوهَّـابية خلال السنوات الماضية، ما تسبب في انحسار كبير لفعاليات الاحتفال بالمولد النبوي، خُصُوصاً على المستوى الرسمي.
إن الوهَّـابية هي من أشد الرافضين لإحيَاء هذه المناسبة، فهي تصفها بـ “البدعة”، ولذلك دأبت السلفية طيلة الفترات الماضية على الإساءة والتكفير لكل من يحيي ذكرى المولد، واستطاعت الوهَّـابيةُ تغييبَ الإسلام المحمدي القرآني، وأن تضلل الأُمَّــة وتبعدها عن كتاب الله الذي سار عليه الرسول محمد -صلوات الله عليه وآله- حتى أصبحت زيارة قبر رسول الله “بدعة” والاحتفال بمولده جريمة.
واقعٌ جديد
لقد غُيِّبت هذه المناسبة لعشرات السنين في معظم المناطق اليمنية خلال نظام الخائن علي عبد الله صالح، وبتحريض من النظام السعوديّ الوهَّـابي على عدم إقامتِها وإحيائها في اليمن، وظلت صعدة في عهد “أنصار الله” هي البريقَ والضوءَ الساطع الذي يلمع في سماء اليمن، لإحيَاء هذه المناسبة، وشهد اليمن واقعاً جديدًا بعد انتصار ثورة 21 سبتمبر، حَيثُ أصبح المولد النبوي ولا يزال إلى اليوم أهمَّ الاحتفالات التي تحظى باهتمام القيادة السياسية والثورية في اليمن، وتشهد فيه أكبر المسيرات ليس على مستوى اليمن وإنما على مستوى العالم.
وقبل أَيَّـام من الاحتفال بهذه اليوم تتزين صنعاء، وبقية المحافظات باللون الأخضر ابتهاجاً بقدوم ذكرى مولد المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، فالجبال والمرتفعات الكبيرة تكتب عليها عبارات كبيرة وواضحة ومضيئة عن الرسول محمد، صوامع المساجد هي الأُخرى تتزين باللون الأخضر، الأسواق، المتاجر، مؤسّسات الدولة، اللوحات الإعلانية في المدن الكبيرة.. اللوحات الجدارية تنتشر هنا وهناك، روضات الشهداء هي الأُخرى تبتهج بخير البرية، وتزداد خضرةً إلى خضرتها وجمالاً إلى جمالها وروحانيتها وقداستها.
اسم محمد -صلى الله عليه وآله- من أعلى رأس جبل نقم وجبال عصر والنهدين وكل الجبال المحيطة بصنعاء تراه في الليل مصدر إشعاع ونور وضياء يأنس به المارة، ويتحَرّك كُـلّ لسان يخرج في شوارع العاصمة ليلاً بالصلاة على محمد وعلى آله، وكل من ينظر إلى ذلك النور البهي.
“باب اليمن” من دخل منه فقد دخل صوبَ الإيمَان والحكمة، فاليمنيون باختصار وَفي عهد الثورة قد أعادوا المجدَ لهذا اليوم العظيم، وفيه يستشعرون مدى قُربِهم من الرسول الكريم، وفيه يحيي اليمنيون تراثَهم القديم، وعاداتِهم المتوارثة في حب رسول الله، وحب ميلاده الشريف.
وكان اليمنيون على موعدٍ قبل أَيَّـام مع أكبر حدث في التاريخ؛ نظراً لحجم الاستعدادات الكبيرة التي رافقت المناسبةَ والحشود التي خرجت في صنعاء وسائر المحافظات الأُخرى والتي لم تحدُثْ في أي زمن مضى.
صحيفة المسيرة