بين الماضي والحاضر.. اليمن ينتصر
موقع أنصار الله ||مقالات ||بقلم / علي السراجي
لم تكن ثورة 26 من سبتمبر عام 1962م تحرُّكٌ وليد اللحظة، بل جاءت كنتيجة للعمل الاستخباراتي المصري المركز والكبير كونها لم تكن غير محاوله من المحاولات التي سبقتها من انقلاب 48م والذي تم فيه اغتيالُ إمام اليمن يحيى حميد الدين ومُؤسّس الدولَة اليمنيّة الحديثة وَالمحاولات المتعددة لاغتيال الامام أحمد حميد الدين طوال فترة حكمه ومنها محاولة 1955م، وَيذكر المؤرخون أن جمال عبدالناصر أقر إرسال قوة مصريّة صغيرة إلى اليمن لمساندة الضباط الأحرار بقيادة عبدالله السلال عقب إعْلَانه عن الانقلاب وانطلاق الثورة، وفعلا تم ذلك وَوصلت تلك القوة التي لم تكن سوى الدفعة الأوْلى وهو ما لم يتم توقعه من قبل القيادة المصريّة آنذاك، ويذكر البعض أن القيادة المصرية اجتمعت بمجموعة من الخبراء المصريين في جميع المجالات وتم عرض الفكرة عليهم، وبعد النقاش معهم قابل البعض منهم الفكرة بالرفض والبعض الآخر بالدعم والتأييد، لكن القيادة المصرية بقيادة عبدالناصر كانت مقتنعةً وقد اتخذت القرار مسبقاً، كما يبدو، ولم تكن مثل هذه الاجْتمَاعات واللقاءات إلّا مجرد إجراءات شكليه، وهو ما يؤكد حقيقة أن قرار التدخل والهيمنة على اليمن كان مشروعا قديما جدّاً وَرغبة عميقة تم العمل عليها والاعداد لها كَثيراً حتى أَصْبَحت كُلّ الظروف مواتية.
إن عملية التدخل المباشر في الصراعات والأحداث الخاصة بالدول المستقلة ليست عملية بسيطة أَوْ سهلة كما يبدو دَائماً خلال العمليات الاستخبارية أَوْ مراحل الإعداد الأولي، وهي الحقيقة التي اقتنع بها النظام المصري بعد تورطه في اليمن، وهو ما دفع النظام إلى القيام بعملية مراجعة شاملة لمرحلة ما قبل التدخل بالعودة إلى معظم التقارير الاستخباراتية المؤيدة وَالرافضة والتي كان يتم رفعها من اليمن، ومنها التقارير التي قُدمت من السفير المصري أحمد ابو زيد في اليمن قبل الثورة والتي حذّرت من التدخل العسكري في اليمن وسردت الأَسْبَـاب، ولهذا لم تنال استحسان القيادة وتم اهمالها وارشفتها في وزارة الخارجية، كما تم العودة إلى النصائح والاقتراحات التي قدمها الكتاب والمؤرخون ومنهم الراحل محمد حسنين هيكل والذي أَيْضاً رفض فكرة التدخل العسكري بصورة نهاية وخاض نقاشا طويلا مع عبدالناصر.
وبالعودة إلى مرحلة ما قبل التدخل العسكري المصري يمكن القول إن القيادة المصريّة اضاعت فرصة ذهبية كانت من ضمن المقترحات التي قُدمت لها وتتمثل في دعم حركة الإصْـلَاحات والتغيير الذي يقودها ولي العهد الامام محمد البدر ومساعدته للدفع باليمن نحو مرحلة جديدة من الإصْـلَاحات تسهم في تحقيق نهضة شاملة في جميع المجالات، ويبدو أن الامام البدر كان يدرك ما يقوم به النظام المصري آنذاك من دعم للحركات المناهضَة للنظام الحاكم في اليمن ولهذا سار البدر في طريق خلق علاقات جدية على أساس من الندية مع قيادة مصر واتفق معها على الذهاب إلى عملية التغيير والإصْـلَاح وكان البدر بالفعل قد بدأ ببعض هذه الإصْـلَاحات كما تؤكد المصادر وكذلك ما ذكره هيكل، ويمكن الاستنتاج من السابق مقدار ومستوى العلاقات السياسيّة بين مصر واليمن في تلك الفترة، وكيف كان بالإمْـكَان اختصار الكثير من الوقت والجهد الذي تم اضاعته بالتدخل العسكري نتيجة للصراعات التي نشبت واستمرت لأَكْثَر من ثمان سنوات، وكيف كان يمكن استثمار هذه العلاقات بالاتجاه الإيجابي وبما يخدم اليمن والمنطقة العربيّة.
من يعود إلى ادبيات تلك المرحلة يلمس الاندفاع والثقة المطلقة بالنصر السريع والحاسم من قبل القيادة المصريّة في البداية وما التحرّكات والتصريحات والخطابات في بداية الثورة إلا نموذج، كما أن ما ورد في بعضها من كلام كان يظهر الاهداف الحقيقية والمخفية من التدخل العسكري في اليمن وَان دعم الثورة وحماية اليمن ومحاربه الكهنوت والتخلف والمرض وغيرها لم تكون إلّا بهدف ذَر الرماد على العيون وَإن وراء الأكْمَه ما وراءها، لهذا نجد أن هذه الخطابات كانت ذات سقف مرتفع وَذات لغة فيها نوع من التحدي والتقريع والابتزاز للدول التي في محيط اليمن وبالذات المملكة السعوديّة، ويمكن للبعض العودة إلى احد خطابات الزعيم جمال عبدالناصر في ثاني يوم من قيام الثورة حين قال ساخراً “إن الملك سعود منذ أن سمع خبر الثورة في اليمن عنده حالة هستيريا”، وغيره من الاوصاف والمصطلحات التي تم نشرها وتعميمها مثل دول الرجعية العربيّة والتخلف والاستبداد، وهي حالة طبيعية كون الوضع والتوجه ثوري، إلّا أن مثل هذه التصريحات والخطابات والتحرّكات كانت لا تخدم الثورة ولا التوجهات الثوريّة بل كانت تستعدي الدول الجارة لليمن، كما أن مثل هذه الخطابات والتحرّكات كانت تؤكد استغلال الثورة اليمنيّة لتحقيق حالة الابتزاز والاسْتهدَاف المصري للسعوديّة.
ولهذا فقد ادركت المملكة السعوديّة أن التدخل المصري يستهدفها ويمس أمنها بصورة مباشرة، فسارعت إلى خلق حالة من المناهضَة وقدمت الدعم للجماعات المناهضَة للثورة واستمرت في ذلك حتى حققت هدفها والذي تمثل بإنهاك الجيش المصري، وقد تراجعت تلك الخطابات والتصريحات والتحرّكات مع مرور الوقت ومع اتساع معركة الاستنزاف للجيش المصري والدولَة المصريّة في اليمن حتى أن التدخل العسكري أَصْبَح ذا مردود عكسي على القيادة المصرية تمثل بما تعرضت له من انتكاسات في صراعها مع الكيان الإسرَائيلي والذي مثل انتكاسة عربية، حيث يذكر المؤرخون أن الجيش المصري ضحّى بخيرة القيادات والخبرات في جبال وَوديان وشعاب اليمن وهو ما اثر على أدائه في مواجهة العدو الإسرَائيلي.
لست هنا في صدد الانتقاد أَوْ التقييم وإنما أهداف إلى المقارنة بين الحالة المصريّة وما يجري اليوم من تدخل وعُـدْوَان يقوده النظام السعودي ضمن تحالف عربي ودعم وتأييد أَمريكي وأوروبي منذ تسعة عشر شهراً على اليمن، وبالاعتماد على هذه المقارنة يمكن الجزم أن التشابه بين الحالتين كبير حد التشابه المطلق، من حيث التدخل السياسي والاستخباراتي والعسكري المباشر والخارق للسيادة والاستقلال للدولَة اليمنيّة، إلى عملية الاستقطاب للنخب السياسيّة والعسكرية والاجْتمَاعية والقبلية، إلى عملية الاستزراع والأدلجة الدينية الوهابية وخلق حالة من الصراع الديني والطائفي وهي النقطة الوحيدة التي يمكن القول إن التدخل المصري في 62م لم يستخدمها وَإن كان قد اسْتخدَام مصطلحات طائفية وعنصريه حققت له هذه النقطة وقد اتثبت هذا التصفيات والاسْتهدَافات للزيدية وَللهاشميين وغيرهم التي تلت ثورة 62م، إلى نظرية الهيمنَة الكاملة والمطلقة عبر إسْقَاط النظام بالكامل وخلق نظام بديل أَوْ إسْقَاط احد الأطراف بالقوة المباشرة وتغليب مصلحة طرف على طرف آخر وهذا ما يحصل اليوم بالفعل من قبل السعوديّة وتحالفها ودعمهم ومساندتهم لما يسمى بالشرعيّة الساقطة شعبيا في مخالفه وتحدي صريح وواضح للإرَادَة الشعبيّة الراغبة في أحداث ثورة وتغيير كلي داخل اليمن، إلى الاسْتهدَاف المباشر لدوله عربيه وإقْليْميَّة في المنطقة وهي المملكة السعوديّة في حين يدعي النظام السعودي اليوم اسْتهدَافه النفوذ الإقْليْمي لإيْـرَان في اليمن، وَإن كانت الحالَة السعودية تختلف في نقطة واحدة عن الحالَة المصريّة في كونها أَكْثَر تضررا وَتعرضا للمواجهة والرد بحكم الرابط الجغرافي والديمغرافي كجيران وحدود مشتركة.
لقد وقع النظام السعودي في نفس المستنقع وَالورطة التي وقع بها النظام المصري آنذاك حين رفض دعم الامام البدر وحركة الإصْـلَاحات وفضل الدخول في عمليه عسكريه لإسْقَاط نظام الحكم في اليمن، وكذلك ذهب النظام السعودي نحو العرقلة والتعطيل لأية تفاهمات يتم الذهاب اليها من قبل الفرقاء اليمنيين خلال فترة الحوار السابقة، وهو ما دفع اليمن إلى حاله من التدهور السياسي والاقْتصَادي، بل أَكْثَر من ذلك قامت السعوديّة بتغذية الحروب والصراعات الطائفية والمناطقية والاستزراع الوهابي، لتنتهي كُلّ هذه التحرّكات بالسيطرة والهيمنَة على كُلّ شيء داخل البلد عبر المبادرة الخليجيّة التي تم التوقيع عليها عقب ثورة الربيع العربي في فبراير 2011م، وَالتي افضت إلى رئيس توافقي وحكومة توافقية وعطلت الدستور ومجلس النواب وتم إقصاء كُلّ القوى الصاعدة التي لم تخضع للهيمنَة السعوديّة، الأمر الذي أنتج وضع سياسي غير مستقر افقد اليمن سيادتها واستقلاليتها وكاد أن يذهب به نحو مشروع التقسيم والتفتيت والاقلمة، وبدلا من التعاون مع جميع القوى الوطنية لإصْـلَاح الوضع اليمني تم افشال حالة التوافق برعاية مبعوث الأُمَـم المتحدة عبر شن النظام السعودية عُـدْوَانه على اليمن بهدف افشال الحراك الشعبي الثوري، فقصفت ودمرت المدن والبنية التحتية وارتكبت أفظع المجازر بحق المدنيين وحاصرت البلد برا وبحرا وجوًا.
لقد اثبتت التجربة المصريّة في اليمن، بغض النظر عن نجاحها من عدمه، أن الدفع نحو التغيير والإصْـلَاحات واستثمار الأَنْظمَة الموجودة أَوْ القائمة خاصة في حال وجود إمْـكَانيات لذلك أفضل الف مرة من الدفع نحو صراعات تخرج عن بوصلتها وتتحول إلى مستنقع وتتدخل فيها أطراف مختلفَة ومتعددة كلا منها يريد أن يوجد له موضع قدم، وَإن نظرية احتواء التغيرات والحركات والتقلبات السياسيّة والاجْتمَاعية للبلدان المحيطة ذات اثر إيجابي وذات نتائج مضمونه لصالح مطبق النظرية أَكْثَر من التدخل العسكري المباشر.
لقد دفع النظام المصري آنذاك ثمن تدخله وَاستغلاله لليمن ومعاناتها وظروفها غاليا، كونه زجها في صراعاته الإقْليْميَّة والدولية وبالذات مع المملكة العربيّة السعوديّة وباقي الدول الخليجيّة، لتكون النتيجة، عكسية فمن يراجع التأريخ والأحداث في تلك الفترة يجد أن مصر بتدخلها العسكري قد خسرت نفوذها السياسي في اليمن نهائياً، بل إنها وبعد خسارتها العسكرية كانت قد سلمت وأخضعت اليمن للهيمنَة والوصاية السعوديّة وهي النكبة التي أوقعت فيها اليمن وَأوصلتها إلى هذا الوضع المأساوي والكارثي.
وبالاعتماد على التجربة المصريّة والمجريات والأحداث التي تحصل اليوم نجد أن النظام السعودي قد ارتكب نفس الحماقة بتدخله العسكري في اليمن ويدفع ثمن زجه باليمن في صراعاته الإقْليْميَّة وبالذات مع إيْـرَان غاليا، فبعد ثمانية عشر شهراً تجد السعوديّة نفسها قد وقعت في المستنقع اليمني الذي تغرق فيه اعتى الدول والأَنْظمَة وأَصْبَحت تعيش حاله من الاستنزاف العسكري والاقْتصَادي والسياسي بل ومهدده من قبل الشعب اليمني في حدودها وداخل أراضيها وعمقها كوسيلة ردع وخيار وحيد يمتلكه اليمنيين لإسْقَاط العُـدْوَان عليهم من قبل نظامٍ يخسر كُلّ شيء في محيطة العربي والإقْليْمي وحتى جيرانه التأريخيين.
وعليه يمكن التأكيد على أن النظام السعودي لم يعد يتحكم بمجريات الأحداث وَلم يعد قادرًا على اتخاذ قرار إيقاف الحرب على اليمن والخروج بماء الوجه وأقل الخسائر أَوْ حتى الحفاظ على وجوده في اليمن، وبذلك وبعد هيمنَة لأَكْثَر من خمسين عاماً يكون النظام السعودي قد سلّم اليمن على طبق من ذهب للصراع الإقْليْمي وَالدولي وبالذات لأَمريكا وَالتي كانت ترغب بذلك ودفعت السعوديّة نحوه، كما فعلت الدول العربيّة وبالذات السعوديّة مع العراق آنذاك وكما فعلت دول الخليج وبالذات السعوديّة مع سوريا وليبيا بتسليمها وإسْقَاطها للدول الأوروبية وأَمريكا وروسيا وبعض الدول الإقْليْميّة تركيا وإيْـرَان، وبالتالي يمكن القول أن دول المال العربي الخليجيّة ومعها بعض الدول العربيّة أَصْبَحت عاجزه وغير قادرة على اتخاذ أَية قرارات لإيقاف الحروب التي اشعلتها وحماية وجودها أَوْ حتى حماية مصالحها ونفوذها كونها لم تعد غير مجرد صناديق مالية تقوم بالدفع والتمويل لاستمرار الصراع والتدمير للدول العربيّة والمنطقة وتسليمها للنفوذ الدولي والإقْليْمي.