موسمُ زراعة الذرة.. الزُّرّاعُ في الحقول وسط غياب معاملات ما قبل التِلام ووسيلة الحراثة التقليدية
||صحافة||
مطلعَ مايو من كُـلّ عامٍ، ينفر الريف اليمني المحافظ على زراعة حبوب الذرة بنوعَيها وأصنافها المُختلفة للحقول في المدرجات والوديان وَالقيعان الزراعية، يذرؤونها في موسم جديد، مستخدمين في حراثتها الثيران، وهم يُردّدون عدة أمثال ومغاردَ زراعيةً منها:
يا ثور يا أبيض يا جليل الساعد
مُد القدم واسمع حنين الراعد.
لكن هذا العام يأتي وَقد تلاشت خطواتٌ كثيرةٌ من الموروث الشعبي اليمني الزراعي، وَمن ذلك تراجع أرباب الأرض عن تجهيز الجِرب أَو القِطع أَو قل الحقول حسب اختلاف التسمية؛ لزراعتها عن طريق ثلاث عمليات ظلت ثابتة تكشف العلاقة مع الأرض وَترسي تقليداً درج عليه أجيال من المزارعين في اليمن وهذه العمليات هي:
١- قلع الجِزة وهي جذع ثمرة المحصول الباقية بعد موسم الصراب السابق، وهذه تتم بشكل طولي وضمن خطوط مستقيمة على امتداد الحقل الزراعي.
٢- تهيئة وَحراثة الأرض بشكلٍ مُتقن، عبر ما يعرف بخِبرة الأرض أَو الشِّغيب، وهذه حراثة خطوط بالعرض وتكون متلاصقة دون أية مسافة بينها بعكس السابقة.
يتبع هذه العملية تسميد الأرض بالذِبل، وهو المخلفات العضوية للماشية [الأبقار والأغنام والدواب].
٣- تصييف الأرض لتستوعب سيول المطر، وَتالياً وفي الموعد المضروب تتم تلامتها وقد غدت جاهزةً لتلقي البذور أَو “الصِيب” أَو “الذري” في خطوط طويلة.
هذه العمليات الثلاث كانت تتم وَبشكل متوال طوال فترة ما بعد الحصاد للموسم الأول وَحتى موعد بداية تباشير الموسم التالي أَو هطول الأمطار منتصف شهر أبريل/ نيسان من كُـلّ عام بالنسبة لليمن في الغالب.
تلاشي هذا المورث أَو تراجعه يُعزَى لسببين جوهريين وَأُخرى ثانوية، الأول: ارتفاع كُلَفِ الوسائل الحديثة للحراثة بالنسبة لأرباب الأرض ذي الحيازات الكبيرة، وَهذه يمكن معالجتها عبر توسيع وَنقل تجربة الحراثة المجتمعية المنفذة في بعض المحافظات برعاية من اللجنة الزراعية والسمكية العليا، إلى محافظات أُخرى.
الثاني: تراجع مستوى الاعتماد على الثيران كوسيلة رئيسية وَتقليدية للحراثة في اليمن وَبشكل خاص في المناطق ذات الحيازات الزراعية الصغيرة وَالأصغر.
ظاهرةُ غياب الثور كأدَاةٍ رئيسةٍ لجَرّ المحراث أَو تنفيذ الحراثة داهمت مناطق زراعية كثيرة في اليمن، تظل الثيران بالنسبة لها الوسيلة الوحيدة الأنسب لتنفيذ كُـلّ ما سبق من معاملات ما قبل بذر الأرض بالحبوب، وهذه الحالة أياً كانت أسبابُها تُخالف الموروث الشعبي من جوانب، وتترك آثاراً سلبيةً على المزارع وَالزراعة أَيْـضاً وَالتالي من السطور توضحها في آن:
من المعروف لأهل الريف -وَصاحب السطور منهم- أنه لم يكن أحد الرعية وأصحاب المال “الأرض” يعيشُ بدون ثور للحراثة؛ حتى لتجد في قرية واحدة ما يزيد عن 30 ثورًا قد يكون لبعضها ضَوِي من قرية أُخرى -جرت العادة على حرث الأرض بثورين يجمعهما مَضْمد وهو خشبة توضع على سنامي الثورين ومُعدة لجر المحراث أَو “الحَلي” أَو ثور واحد بـ “هِج” وهو مثلث خشبي أَو خشبة مقوسة تركب عند سنام الثور وَيربط به المحراث لتنفيذ الحراثة- وقد تناقل الزُراع جيلاً عن جيل مهاجل ومغارد حكماء الزراعة في اليمن المُجسدة لأهميّة الثور بالنسبة للمزارع والزراعة في الأرياف ومنها ما يتردّد في ذمار وإب:
إن الزراعة دليِّه
تريد ثورين جِيْدَين
وبيت وافي وحِيَّه.
وفي مناطقَ أُخرى يتردّد على ألسنة الناس والفلاحين بدرجة أولى مغرد مطلعُه هكذا:
ثـور المُزارع حصـانه
قم يا علي غدِّ الثور
ولا تمـيل من قُبالِه.
فترك الرِعِية والفلاحين، تربية الأثوار ورعايتها لا يتسق وَإرث الأجداد من جهة وَمن أُخرى يفضي لتدهور الأرض الزراعية وانخفاض منسوب خصوبتها في ظل غياب عمليات فلاحة الأرض المختلفة قبل زراعتها، بدءاً من قلع الجذوع وخِبْرِة التربة وُصُـولاً إلى تصييفها وَتلامها، وختامًا بعملية الرَقيش أَو القشيب لتلافي أضرار هبوب الرياح أثناء هطول الأمطار وَبعدها وَالحفاظ على الثَمرة وَهي في الشهر الثالث من النمو، الاستغناء عن الأثوار يُضعف حجم المحصول على مستوى الحَبْ والأعلاف [القصب وَالشَرْف] وَهذا الأثر يزداد شراسة لناحية أن هذه الظاهرة تتسبب بفوات موعد بذر الأرض بالحب المنتخب كبذور نتيجة لغياب وَقلة الأثوار خَاصَّة في مناطق زراعية لا تُجدي فيها وسائل الحراثة الأُخرى حتى الحديثة، هذا بدوره يعني تداعيات لاحقة على الثمرة والمحصول؛ ما يؤكّـد قيمة الثور بالنسبة للزُّراع وأنت تجدهم حين يشاهد الواحد منهم ثوره على حين غرة أَو وهو يحرث عليه يغرد وهو وسط الحقل بصوت شجي:
يا ثـورنا طال عمــرك
عمـر الهـلال اليـمـاني.
وفي طرف الحقل مع نهاية التِلم يستوقف الثور بقوله: اسلم هاه… اسلم هاه… يا مالي.. ومن الشائع أَيْـضاً وفي عموم أرياف اليمن، أن يخاطب المزارعون الثور هكذا: “أَباه”.. “أَباه” بِلطف شديد، ولم يكن أحد الرعية يفرط بثوره أَو يبيعه حتى تحت ضغط الافتقار للأعلاف وَالمراعي، وقد حفظ الموروث الشعبي مغالبة الرعية هذه الهموم بالاستبشار بمطر الصيف وهبوب الرياح من جهات الغرب والشمال والجنوب، كما سجل ذلك علي ولد زايد بقوله:
والله ما أبيع ثوري
ما دامت الريح تقلب
غربي وقِبْلي عوالي.
وحتى حين لا تتوفر إمْكَانية امتلاك كُـلّ مزارعٍ (ثور) فَــإنَّ السائد هو اشتراك مزارعَين اثنين في ثور واحد، وفق عُرف الشراكة وتداول رعايته أَو الُطعم شهر بشهر، وقد يضطر أحدهم أن يشارك الآخر ثوره في مقابل أن يتولى رعايته وطعمه طوال فترة الشراكة وباستثناء أَيَّـام الحراثة على الثور فيتولى ذلك مالك الحقل، أما من لا يملك ثوراً وهذا قد يكون لقلة ماله “أراضيه الزراعية” فدائماً ما يلجأ إلى الاستعانة بثورِ جاره أَو ثورِ مزارعٍ آخر، وفقًا لضمنيةٍ عُرفية تكافلية بين أفراد المجتمع الريفي، ومن مغارد هذه الشريحة المُعتمدة على ثور الغير وضويه ما يتردّد في منار آنس:
من أين لي ثور عاره
أبتل وغيري يَعصِّب.
يظل الثور وسيلةً مُثلى للعملية الزراعية في عموم أَو قل أغلب الريف اليمني؛ ولا غنى عنه ولا بديل في حراثةِ الأرض؛ لانعدام جدوائية الوسائل الحديثة في المدرجات الزراعية أَو تلك الأراضي التي يعلو تربتها الأحجار الصغيرة أَو ما تُعرف بالحَجِر على ألسنة الفلاحين والمزارعين.
صحيفة المسيرة – عبد الحميد الغرباني