اليمن.. تجربة الخلاص من “الهيمنة” ومدرسة “القوة الصلبة” في المنطقة
||صحافة||
بدايةَ القرن الحادي والعشرين، تحدّث الكاتبُ والمفكِّرُ الراحلُ محمد حسنين هيكل عن اليمن، ذي الثقل التاريخي والحضاري الكبير.
اليمن كما أشار إليه هيكل -رحمه الله- ليس ذلك البلد البسيط، الذي يمكن العبث به بسهولة افترضتها واشنطن والرياض ولندن وباريس، فهناك متغيرات ومعطيات وظروف مختلفة يعيشها العالم، على نحوٍ لم يعد التقدم وشروط الندية حكرًا على قوى بذاتها؛ فقد أسهم دخول عناصر ومتغيرات تشكيل العالم الجديد، وتفاعلات الداخل اليمني في بروز اليمن على نحو ما نراه اليوم.
والحقيقة أن مقولةَ “هيكل” إن اليمن “بركان خامد” وإن ثورانه سيجرف كُـلّ ما هو أمامه في المنطقة، قد تجلت في واقع اليوم كما نرى، والأكيدُ أن ما لم يفعلْه عبدُ العزيز آل سعود بإيقاظ صقورِ اليمن أعاليَّ الجبال -كما نصح مستشارُه البريطاني “جون فيلبي”- فعله حفيدُه على جهل وضعف بصيرة.
تشكُّل القوة القادمة:
من عمليات الردع، وكسر الحصار، إلى العملية العسكرية بميناء “الضبة” إلى مواجهة الأمريكيين في البحر الأحمر، كانت اليمن قد كشفت عن جانب من جوانب القوة الخفية لهذا البلد الكبير؛ فــمع منع صنعاء تهريب النفط اليمني لصالح مليشيا السعوديّة والإمارات، كان القرار اليمني ينبئ عن قوة قادمة نضجت في سنوات حرب وحصار مرير.
من استهداف سفينة الشحن النفطية “نيسوس كيا” في الـ 21 من أُكتوبر 2022 بميناء الضبة، شرق مدينة المكلا، بحضرموت، مُرورًا بإجبار الناقلة النفطية (PRATIKA براتيكا) في 21 نوفمبر 2022، من مغادرة الميناء اليمني النفطي، وحتى استهداف أولى سفن العدوّ الإسرائيلي في البحر الأحمر “غالاكسي” في 19 نوفمبر 2023، كانت اليمنُ ترسُمُ ملامحَ دولة وسيادة حقيقية ضمن جغرافيا البحر الأحمر.
أواخرَ العام 2022م، كانت الولاياتُ المتحدة الأمريكية وبريطانيا ترتبان لتصعيدٍ جديد ضد اليمن، من خلال التحَرّك في المحافظات والجزر المحتلّة، في وجود مشاريعَ استيطانية في جزيرة ميون، مع ذلك كان تأكيد صنعاء أن تلك المشاريع لن تدوم طويلاً، وأن صنعاء لديها القوة الكافية لفرض السيادة الكاملة على المياه الإقليمية، وحماية خطوط الملاحة الدولية في المنطقة.
والذي كان ظاهرًا أن مساعيَ العدوّ لإبقاء البلد تحت الوصاية تتوازى مع مساعيه المتسارعة للسيطرة على الممرات المائية التي يطل عليها اليمن، وعلى رأسها مضيق باب المندب الذي يحاول تحالف أمريكا بريطانيا تثبيت وتوسيع نفوذه فيه من خلال احتلال جزيرة ميون.
بعد ثمانية أعوام من الحصار والعدوان سيأتي تأكيد اليمن على مسألة السيادة بصورة توحي بشيء قادم على الأرض.. في 14 سبتمبر 2022م جاء تأكيد القوات المسلحة اليمنية أن لديها معلومات كاملة عن حجم النهب المنظَّم للنفط اليمني، وأن القوات المسلحة اليمنية قادرةٌ على حماية ثروات الشعب اليمني، وهي جاهزة للرد في الوقت المناسب الذي يحدّده السيد القائد.
هذا التحذير سبقته ضرباتٌ مركَّزةٌ حملت رسائلَ لكُلٍّ من الرياض وأبو ظبي.
اليمن ومعركةُ السيادة:
كان استهلال اليمن لمعركة السيادة، ينطلق من لجم العدوّ في عقر داره، على أَسَاس تثبيت قاعدة (الرد بالرد)، وأن من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة.
في 2019، استهدفت اليمن خزانات أرامكو، ووصل الأمر بسحب الولايات المتحدة لمنظومات الباتريوت وثاد الدفاعية، حَيثُ كانت واشنطن تنتهج مساومة الرياض وأبو ظبي على أمنهما بطلب المزيد من الأموال لخزينة البيت الأبيض، ومع الاستهداف المحقّق كان النظامان قد أدركا أنهما في وضع مكشوف، حَيثُ أخفقت الدفاعات الخليجية في صد الهجوم اليمني الفاعل والمدروس.. هذا ما أفصح عن انتكاسة كبيرة حاولت واشنطن تغطيتها وترميمها بوعود توفير الحماية والأمن للنظامين السعوديّ والإماراتي، بما فيه استئناف تصدير السلاح للرياض على وجه الخصوص، في محاولة استعادة الثقة التي تزعزعت فيما سنتناوله في الهزيمة الثالثة التي لحقت بالعدوان ضمن معركة ومواجهات البحر الأحمر ثم توسعها نحو خليج عدن والبحر العربي، وُصُـولاً إلى المحيط الهندي والبحر الأبيض.
في 17 يناير 2022م، وجَّهت صنعاء رسالةً قاسيةً للإمارات، حَيثُ تم استهدافُ خزانات لشركة النفط الإماراتية “أدنوك”، واستهداف مطار أبو ظبي.
بعدها بشهرين تقريبًا، وجهت صنعاء رسالتها للرياض، واستهدفت شركة “أرامكو” السعوديّة للمرة الثانية في 25 آذار/ مارس 2022، بجدة، ومنشآت حيوية في العاصمة السعوديّة الرياض بدفعة من الصواريخ المجنحة والطائرات المسيَّرة، إلى جانب قصف أهداف حيوية وهامة في مناطق جيزان وظهران الجنوب وأبها وخميس مشيط، وكان هذا بمثابة رسالة قوية ورادعة.
معركةُ السيادة تستمر:
وبعد تحذيرات استمرت لأسابيعَ من “تهريب وسرقة” النفط اليمني، شُنت هجمات على ميناء النشيمة النفطي، وميناء رضوم، حَيثُ كانت ترسو ناقلة النفط (هانا) التي ترفع علم تنزانيا باستخدام طائرات مسيَّرة في 18 و19 أُكتوبر/ تشرين الأول 2022م.
لم يمضِ يومان، حتى استهدفت القوات المسلحة ميناء الضبة النفطي في مديرية الشحر في 21 أُكتوبر/ تشرين الأول، بطائرتين مسيّرتين في وقت كانت تستعد فيه ناقلة يونانية لتحميل شحنة من النفط الخام، واضطرت الناقلة اليونانية للمغادرة قبل تحميل الشحنة البالغة مليوني برميل من النفط.
وفي 25 أُكتوبر / تشرين الأول، أغلقت السلطات المحلية ميناء المكلا بعد رصد طائرات مسيَّرة تابعة لصنعاء.
مع هذا الحدث الكبير، وعلى مستوى الداخل اليمني، وقفت واشنطن ولندن وباريس عاجزة عن الرد، إلا من تصريحات كانت توحي بالكثير من اللؤم الغربي، وتفسر مطامع واشنطن وعواصم الغرب في ثروات اليمن بحضور أعراب الجزيرة.
وفي ظل هذا التحَرّك اليمني الذي سيقدم مشهداً حقيقيًّا لكيفية حماية الثروة والسيادة اليمنية في عام قادم، استمرت القيادة في صنعاء بتوظيف إمْكَانات البلد الهائلة، حَيثُ اليمن -الذي يتحكم بجغرافية بحرية تمتد من المهرة شرقاً وحتى جيزان غرباً- قادر على تحويل “لعنة الجغرافية” إلى “نعمة الجغرافية”؛ أي أن اليمن سيعيد المعادلة إلى وضعها الطبيعي، وسيجعل منها خيرًا ينعم به اليمن، وأن من يعتدي على اليمن واليمنيين سيدفع الثمن، وذلك ما سيتجلى بعد دخول اليمن حرب غزة، وإسناده للمقاومة الفلسطينية.
اليمن القوة البحرية:
في العام 2022م، كانت اليمن تسير ضمن مشروع استراتيجي كبير، يشمل بناء وإنشاء قوة بحرية، تتولى حماية المياه الإقليمية اليمنية، وستكون مخولة بأداء دورها الإقليمي والدولي، بما يعزز سيادة اليمن، ويمنح الدول المشاطئة للبحر الأحمر مكانتها بعيدًا عن الهيمنة الغربية الأمريكية التي استمرت لعقود، بل لقرون طويلة بدأت مع البرتغال والأسبان.
في كلمة وزير الدفاع اللواء الركن محمد العاطفي، في سبتمبر 2022م، ونقتبس منها “نقول للجميع وفي المقدمة قيادتنا الحكيمة وشعبنا أننا لن نسمح لأيٍّ كان بالتطاول على سيادتنا الوطنية، وسيادتنا البحرية، وليفهم هذا القاصي والداني”، تناول مسألة السيادة ووقف تهريب النفط اليمني، وهذا ما سيحصل في شهر تالٍ، وفي عام قادم بما لم يكن يخطر على بال العدوّ والصديق على السواء.
وعدُ الآخرة:
وكما كانت خطابات السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي، تؤكّـد العمل الاستراتيجي المُستمرّ لتعزيز الصمود اليمني؛ كانت الرسائل تلو الرسائل تؤكّـد على حقيقة وجدية التحَرّك اليمني الاستراتيجي.
لقد جاء العرض العسكري “وعد الآخرة” في مدينة الحديدة “حارسة البحر الأحمر” كرسالة قوية سيُكشف بعدها الستار عن القدرات اليمنية التي ستسابق الوقت؛ استعداداً لمواجهة العدوّ.
ولأهميّة الحدث؛ فعلى صعيد ردود الأفعال الدولية، تناولت قنوات ووكالات أنباء عالمية العرضَ العسكري بالمدينة الساحلية، وأفردت مساحة له أبرزها قناة “سي سي تي في” وقناة “فرانس24” ووكالات “رويترز” و”يورو نيوز” و”نيوز سيسبول” و”ديبريفر” الأمريكية…، وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الحدث بشكل كبير.
ونقلت أَيْـضاً القنوات الهندية الرسمية العرضَ العسكري اليمني الذي أقيم في الحديدة للمنطقة العسكرية الخامسة، وذكرت بالتفصيل جميع أنواع الأسلحة المشاركة في هذا العرض.
وتوقّفت وسائل إعلام صهيونية بالفعل عند العرض العسكري “وعد الآخرة”، وعدد المُقاتلين الذي وصل إلى 25 ألف مُقاتل، وقدمت قراءة وتحليل رسائله لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وهذا قبل معركة “طوفان الأقصى” وحرب غزة بعام تقريبًا، حيثُ إن فلسطين لم تغب عن خطاب الاستعراض العسكري اليمني، والتأكيد على أن اليمنيين عازمون على المضي إلى الأقصى، كما هم عازمون على فرض السيادة اليمنية في البحار وفي الأجواء وفي الأرجاء.
ومع التأكيد بأن القوات المسلحة اليمنية تمتلك من الأسلحة ما يجعلها قادرة على ضرب أية أهداف في البحر الأحمر، وفي كُـلّ المياه الإقليمية اليمنية، من أي مكان في اليمن وليس من السواحل فحسب، كانت اليمن تتهيأ للمرحلة القادمة التي تلجم فيها تحَرّكات العدوّ.
لقد كشفت القوات المسلحة اليمنية في ذكرى ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، عن مواصفات أسلحة جديدة أكثر تطوراً، أزاحت عنها الستار لأول مرّة في عرض عسكري كبير بميدان السبعين بالعاصمة صنعاء 21 سبتمبر2023م.
وفي هذا العرض جاء التأكيد بأن صنعاء تصنع تاريخًا جديدًا للشعب اليمني والمنطقة، وأن أية معركة بحرية قادمة لن تكون فيها قوى العدوان بعيدة عن الاستهداف، وأن عليها أن تدفع الثمن باهظًا.
استراتيجيةُ “قادمون”:
ضمن استراتيجية “قادمون” نتذكر ما قاله السيد القائد في تدشينه العام الثامن من الصمود: “قادمون بإنتاجنا الحربي وأسلحتنا البحرية التي تغرق الأعداء، والتوكل على الله بجحافل جيشنا المتفاني وصواريخنا الباليستية وطائراتنا المسيَّرة بعيدة المدى المنكلة بالأعداء، وإنتاجنا الحربي المتميز وأنظمة الدفاع الجوي والأسلحة البحرية التي تغرق الأعداء وتوصلهم إلى قعر البحر“.
ومع هذه الاستراتيجية تجرع الأمريكان وتحالفُهم هزائمَ متتالية، بدءًا من وقف سرقة النفط اليمني، وُصُـولاً إلى هزيمة أمريكا وكسر شوكتها في المياه الإقليمية اليمنية وما بعدها.
هزائمُ أمريكا:
وعلى مدى سنوات العدوان التسع على اليمن، كان الافتراض الأمريكي بالسيطرة التامة على المياه الإقليمية اليمنية، هو الظاهر، حَيثُ كانت اليمن ضمن تصور القوى الخارجية أشبهَ بقطعة الحلوى التي تسعى لتقاسمها فيما بينها، فيما كانت تبدو في ظل الصراع والتشظي في أضعف حالاتها مع ما كانت توصف به قبل الـ 2011م، على أنها البلد الهش، الذي ينخرها الفساد والضعف معاً.
استهل العام 2022م بكشف الستار عن قدرات اليمن العسكرية؛ فابتدأ الرد اليمني على أتباع أمريكا بضرب منشآت “أدنوك” ومدينة صفيح الصناعية، ومطار أبو ظبي في الإمارات في يناير2022، ثم استهداف منشآت أرامكو وغيرها في السعوديّة ضمن استراتيجية الردع.
ومع نهاية العام، أوقفت صنعاء -كما أشرنا- عمليات تهريب النفط اليمني عبر استهداف “النشيمة” وميناء “الضبة” وتعطيل حركة سفن شحن النفط في الموانئ اليمنية، حَيثُ كانت شحنات النفط اليمني تنهب لصالح تحالف العدوان.
لقد كان إيقاف تصدير مليشيات الرياض وأبو ظبي للنفط اليمني، لأول مرة منذ شن العدوان حربه على اليمن مارس 2015، مؤشرًا كَبيراً على أن اليمن تتحدث بلغة جديدة، حَيثُ بدأت مرحلة جديدة يقابل فيها الفعل برد فعل حقيقي ومؤثر للحد الذي أزعج الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين كَثيراً، ومعه بدأنا نرى خروجاً أمريكيًّا بريطانيًّا عن النص الدبلوماسي والحذق السياسي؛ فقد كان الرد اليمني بمنع سرقة النفط اليمني قويًّا ومزعجاً جِـدًّا للقوى الاستعمارية.
ذلك الموقف سيتكرّر بعد عام واحد تقريبًا لكنه سيكون بزخم أكبر وتأثير أعمق في سياق إقليمي ودولي تظهر فيه قوة اليمن الصاروخية والمسيَّرة وعملياته البحرية بشكل كبير، وفي نطاق واسع، في سياق حدث إقليمي بتأثير معركة “طوفان الأقصى”، وحرب غزة.
وبرغم بروز القوة اليمنية في معارك البحر الأحمر، ومياه اليمن الإقليمية، إلا أن المفاجأة ليست في ذلك الظهور اليمني الملفت كقوة عسكرية صلبة، بل كانت المفاجأة في قصور الإدراك الأمريكي بكل إمْكَاناته للواقع ومتغيرات العالم، حَيثُ لم يستطع توقع أن يتحول هذا البلد “ذو الثقل الجغرافي، والكتلة البشرية الحية” إلى قوة يمكنها هزيمتُه في البحار مع توعد بهزيمته في البر، كما أشار إلى ذلك السيد القائد في خطابه الأخير الخميس 7/ سبتمبر/ 2024م.
ومع دخول اليمن حرب عزة، وإعلان تأييد المقاومة الفلسطينية ضمن محور المقاومة، تعرض التحالف الأمريكي البريطاني الأُورُوبي لسلسلة هزائمَ في خضم حرب غزة، والحصار اليمني المحكم لكيان العدوّ الإسرائيلي على مدار عشرة أشهر.
وفضلاً عن هزائم البحار التي ظهرت مؤشراتها منذ الشهر الأول للمواجهة مع تحالُفَي أمريكا وأُورُوبا، في نوفمبر 2023م، كانت هناك هزيمة استخباراتية متزامنة مع مواجهات اليمن لتحالف أمريكا “الازدهار” والتحالف الغربي الموازي “أسبيدس”، والتي بها تم إلى حَــدٍّ كبيرٍ تجفيفُ الحضور الاستخباراتي الأمريكي اليهودي على الأرض اليمنية في مناسبتَينِ الأولى ارتبطت بالكشف عن خلية 400 والثانية بالكشف عن أكبر شبكات التجسُّس التي ما زالت كثيرٌ من تفاصيلها المثيرة تتكشَّفُ للرأي العام حتى اليوم، كفضيحةٍ مدويةٍ تتحسسُ وَقْعَها نُظُمٌ عربية تدركُ أن ما فُعل باليمن ربما فُعِلَ ويُفعَلُ بها أكثر.
المسيرة – إبراهيم العنسي