الرسول والخوارق والمعجزات ومهمته العسكرية الصعبة

 

د. حمود الأهنومي

من أبرز ما يعبر عن الاحتفال برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاحتفال اللائق هو معرفته صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفة أنه نعمة عظيمة من الله أنعم بها علينا، وقد ذكر ذلك الشهيد القائد رضوان الله عليه في الدرس السادس عشر من دروس رمضان، وذكر فيه أيضا أنه “في نفس الوقت يستوحي الناس من سيرته، ويستلهمون من حركته كيف يتحركون، وكيف يعملون”، ونبّه فيه على قضية مهمة جدا، لن نستفيد من حركة وسيرة رسول الله إذا لم ننتبه لها؛ حيث قال رضوان الله عليه بأن حركة رسول الله ليست مجرد معجزات خارقة في كلها، على الرغم من أن الله على كل شيء قدير، لكنه حكيم، ورسوله كان حكيما، لم تكن أعماله عشوائية، بل كانت تسير وفق ترتيبات دقيقة، وخطط محكمة، ورؤى صحيحة، ومعرفة حقيقية، ونبّه عليه السلام إلى خطورة من يتبنى طرح أن كل حركة رسول الله كانت عبارة عن معجزات خارقة؛ حيذ ذكر أن هذا الطرح يؤدي إلى خلل تربوي في مسيرة الأمة، فيقول قائلهم: بما أن حركة رسول الله كانت قائمة على أساس الخوارق والمعجزات فإن رسول الله قد رحل عنا، وليس بيننا نبي تكون له مثل تلك الخوارق، فيعزف حينئذ عن العمل والتحرك.

فوائد معرفة الرسول

 

وذكر عليه السلام في ذات الدرس أن من فوائد معرفة أن رسول الله كان يتحرك وفق ترتيبات دقيقة وخطط محكمة وأنها مما هدى الله رسوله إليها، أنها قابلة للاستمرار والتكرر في واقعنا العملي، قابلة لأن يسير جيل آخر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفق هدى الله، وما يؤتيهم الله من حكمة، وما يوفقهم إليه، ولو لم يكن رسول الله موجودا بينهم بشكل مادي؛ لأنه في الحقيقة موجود بيننا بآثاره، وأعظم شاهد على ما قاله الشهيد القائد عليه السلام هو واقعنا اليوم في هذه المسيرة المباركة وما حققته وتحققه من إنجازات وانتصارات حين مضت على ما مضى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إن من أعظم ما يدل على أن رسول الله في جميع حركته في الحرب والسلم كان يتحرك على أساس التعامل مع الأسباب المادية والموضوعية، أنه كان يخطط جيدا، وكان يبوئ المؤمنين مقاعد القتال، ويحشد الجيش، ويحث على القتال، ويرسل الاستطلاع، ويحلل المعلومات التي يحصل عليها، ويبني على ذلك خططه للمعركة، ثم يحرص على التنفيذ الدقيق لتلك الخطة، ثم يتوكل على الله، ويطلب من الله أن ينصره، أي أنه كان يعمل بكل مبادئ الحرب المعروفة، بالإضافة الى تفعيله لمزاياه الشخصية في القيادة، لهذا انتصر على أعدائه، ولو أغفل شيئا من الحذر والحيطة والاستعداد، لتبدّل الحال غير الحال.

فمثلا كان يعتمد مبدأ التمويه، فإذا أراد غزوة ورّى بغيرها، وكان يأخذ بمبدأ: «الحرب خدعة» من دون كذب ولا خيانة.

ولم يتردّد قبل معركة (بدر) عندما رأى المشركين متفوّقين على أصحابه بالعدد والعدة، بل واصل مسيره الجهادي حتى حقق النصر.

ولم يستسلم لليأس في معركة (أحد) بعد أن طوّقته قوات المشركين المتفوّقة من كل جانب، بل امتص صدمة الهزيمة، واستطاع انتزاع هيبة محدودة جعلت المشركين لا يجرؤون على مهاجمة المدينة وقد باتت مكشوفة أمامهم، والمسلمون ما بين قتيل وجريح وشريد.

ولم تضعف مقاومته للأحزاب في غزوة الخندق، وبخاصة بعد خيانة يهود بني قريظة، وأصبح مهددا من خارج المدينة المنوّرة ومن داخلها.

وثبت مع عشرة فقط من أهل بيته وبعض المهاجرين بعد فرار المسلمين في غزوة (حنين).

وأصيب بجروح خطرة في معركة (أحد)، فقد كسرت رباعيّته الشريفة، وشجّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه الكريم، عندما خالف الرماة أمره، وتركوا مواضعهم لجمع الغنائم، فخسر سبعين من أبطال المسلمين في هذه المعركة.

وبلغ مبلغا عظيما من الإحكام والدقة في التفاصيل في استعداداته لتجهيز جيش العسرة في تبوك.

وكلف الله المسلمين أن يصلوا صلاة الخوف في حال الحرب والسفر، وأن يقتسموا إلى طائفتين، طائفة تواجه العدو وتأخذ أسلحتها حذرا من مباغتة العدو، وأخرى تصلي.

وهذا كله يبين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينتصر ويتحرك بالخوارق غير العادية، ولكن كان ينتصر بالأعمال العسكرية والمواهب الحربية.

إن النصر من عند الله، ليس في ذلك شك، ولكنّ الله لا يهب نصره لمن لا يعدّ كل متطلبات القتال، قال تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم)، ونصر الله يأتي بتطبيق توجيهاته التي من أهمها (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).

التحرك العملي للرسول

 

إن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم العسكرية، تثبت بشكل جازم لا يتطرّق إليه الشك، أن انتصاره كان نتيجة لشجاعته الشخصية، وسيطرته على أعصابه في أحلك المواقف، ولقراراته السريعة الجازمة في أخطر الظروف، ولعزمه الأكيد في التشبث بأسباب النصر، ولتطبيقه كل مبادئ الحرب المعروفة في كل معاركه، ثم بتوكله على الله قبل ذلك وبعده، ودعائه له وضراعته إليه بعد بذل جميع الأسباب المقدور عليها.

ولا شك أن مهمة القائد في العصور الغابرة كانت أصعب من مهمته في العصر الحديث، لأن سيطرة القائد ومزاياه الشخصية وقوته ولياقته الجسمانية، كانت العامل الحاسم في الحروب القديمة؛ بينما يسيطر القائد في الحرب الحديثة على قواته الكبيرة بمعاونة عدد ضخم من ضباط الركن الذين يعاونونه في مهمته، ويراقبون تنفيذ أوامره في الوقت والمكان المطلوبين، كما يسيطر القائد على قواته بوسائط المواصلات الداخلية الدقيقة من أجهزة لا سلكية وسلكية ورادار وطيارات وأقمار اصطناعية ووسائط آلية … الخ.

بل إن هيئات الركن مسؤولة حتى عن تهيئة خطط القتال قبل الوقت المناسب، ولا يقوم القائد إلا بمهمة الإشراف على التنفيذ.

إن القائد في الحرب الحديثة يحتاج الى العقل وحده، بينما القائد في الحرب القديمة يحتاج الى العقل والشجاعة والقوة الجسمانية.

كل هذا يبين أن الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم كان في مهمته الصعبة يتحرك بجد واجتهاد ونشاط وتفان متوكلا على الله، آخذا بجميع الأسباب المقدور عليها، وأن مهمته العسكرية كانت أصعب من مهمات القادة العسكريين اليوم.

 

قد يعجبك ايضا