حين تكون واشنطن في النقطة الحرجة!
تتوالى الهزائم التي لحقت بالقوات البحرية الأمريكية والبريطانية على يد القوات المسلحة اليمنية، مما يشير إلى تغيير ملحوظ في ميزان القوى في المنطقة. تعكس هذه الأحداث تحديات تواجه الاستراتيجيات العسكرية التقليدية للولايات المتحدة وحلفائها، حيث تعتمد القوات اليمنية على تكتيكات غير تقليدية واقتصادية.
الهزائم تعكس الإخفاقات التي تنتظرها الإدارة الأمريكية تحت قيادة ترامب، التي تتصف كغيرها من الإدارات بالتوحش والعنجهية.
الدعم الأمريكي للعدو الصهيوني لم يحمي الملاحة الإسرائيلية أو إيقاف الصواريخ والمسيّرات اليمنية التي تستهدف عمق الكيان الصهيوني بشكل متصاعد الأمر الذي أصاب صناع القرار في الدول الغربية، بالإحباط والتخبط معاً. فكل شيء فعلوه، والنتيجة واحدة “لن يوقف اليمن إسناد غزة” بل وعلى العكس، يسعى بكل جهد لتطوير الأداء على مستوى نوعية والأهداف وفاعلية الأسلحة من حيث القدرة التدميرية ودقة الإصابة والقدرة على تخطي الدفاعات الجوية.
النظام الأمريكي في طور الموت السريري
إن الواقع الجديد الذي تُظهره ساحات القتال يُنبئ بمزيد من التحديات التي توجهها واشنطن على المدى القريب. في الواقع، تقف أمريكا اليوم عند نقطة حرجة. بعد فقدها السيطرة على الملاحة البحرية في أهم الممرات الدولية(باب المندب) بعد عقود من الهيمنة المطلقة، بالتزامن مع العجز التام في الإحداث التغيير في موازين القوى في البحر الأحمر في ظل الإخفاق الواضح للغارات الجوية الأمريكية البريطانية في تقويض قدرات الجيش اليمني الذي يفاجئ الأعداء بين فترة وأخرى بأسلحة جديدة.
ونظراً لانعدام الخيارات الناجعة أمام واشنطن، استعانت بالرياض وأبو ظبي – كتحصيل حاصل – مع يقينها المسبق بعدم جدوائية تلك الأوراق التي أحرقت خلال تسع سنوات من العدوان على اليمن.
اليمن.. التحدي الأكبر لترامب
المسؤولون الغربيون، وغيرهم من المحللين والخبراء، ووكالات الأنباء كلها تؤكد عدم جدوائية الخيار العسكري أمام اليمن. فهل تسمع لهم واشنطن ومن في صفها؟! أم أن الغرور ومنطلق الاستعلاء حال دون قراءتهم الجيدة للواقع العسكري.
مجلة “ناشيونال إنترست”، أشارت في تقرير إلى أن صواريخ اليمن، تفوقت على وسائل الدفاع الأمريكية، مع نقص في الاستراتيجيات الدفاعية والسياسية لأمريكا. فالقوة البحرية التي كانت تضمن السيطرة على طرق التجارة العالمية تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، مما يشير إلى تحول حقيقي وكبير في موازين القوى.
ويعبر العقيد البريطاني السابق، ريتشارد كيمب، عن رصد دقيق للتهديدات المتزايدة، حيث يشير إلى أن الجيش اليمني يمثل أخطر أعداء أمريكا الافتراضيين كالصين وروسيا وإيران. مؤكدا أن مقاومتهم المستمرة رغم الضغوط تجعلهم خصمًا يجب على الغرب التعامل معه بجدية أكبر، محذرًا من أنه ليس من السهل القضاء على هذه المجموعة التي أثبتت فعالية في حروبها.
ويضيف إن انتصارات “الحوثيين”، بما في ذلك الإطلاق المذهل للصواريخ الباليستية فرط صوتية صوب العمق الإسرائيلي، تؤكد على واقع مؤلم: “أمريكا ليست كما كانت، والنصر العسكري لم يعد مضمونًا”. كما أشار الجنرال فرانك ماكنزي، فإن “الحوثيين” هزموا إدارة بايدن بوضوح. وتتكامل هذه المشاهد لتشكل صورة قاتمة لمستقبل أمريكا مع الإدارة المنتخبة ترامب، والتي تنذر بأن أمريكا لا محالة تتجه نحو حالة من الموت السريري، فهي لن تكون قادرة على الاستجابة بفعالية لمواجهة التحديات المتزايدة.
أحداث قد ترسم مستقبل المنطقة بطريقة مغايرة
تتزايد التحديات التي تواجه الجيش الأمريكي في البحر الأحمر، حيث يأتي التصريح من قائد الأسطول الأمريكي الخامس، جورج ويكوف، ليعكس حالة التأزم التي يعيشها هذا الجانب من العمليات الحربية. فعند الإشارة إلى أن “وقف الهجمات في البحر الأحمر يعود لقوات صنعاء”، يتضح أن الجيش اليمني تمكن من تحقيق توازن استراتيجي يجعل من الصعب على الولايات المتحدة تطبيق سياسات الردع التقليدية.
إن وصف “ويكوف” للتحديات في العثور على “مركز ثقل مركزي” للجيش اليمني كفيل بتسليط الضوء على المستوى العالي من التعقيد الذي تتسم به العمليات العسكرية في هذه المنطقة. ومن المؤكد أن تطور القدرات العسكرية اليمنية على مدار العقد الماضي قد زاد من صعوبة المهمة الأمريكية، مما يتطلب تحليلاً دقيقًا واستراتيجيات جديدة للتعامل مع هذا الوضع.
إن قدرات الجيش اليمني، التي أصبحت أكثر تطورًا وتعقيدًا، تشير إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى مراجعة شاملة لاستراتيجياتها الأمنية في المنطقة. تصريحات ويكوف تدل على أن الصراع لم يعد يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يتطلب أيضًا الدبلوماسية والذكاء الاستراتيجي لتفادي أي تصعيد قد يؤدي إلى خسائر فادحة في صفوف القوات الأمريكية.
كلفة اقتصادية
مركز أبحاث معهد واتسون للشؤون العامة والدولية في جامعة براون، من جانبه استعرض الأبعاد المالية التي يتكبدها الجيش الأمريكي في البحر الأحمر، حيث تُقدّر تكاليف العمليات الأمريكية في المنطقة بما يقارب 4.86 مليار دولار. حيث يُظهر هذا الرقم الارتفاع المستمر في الإنفاق العسكري. كما أبرز التقرير أن الهجمات اليمنية على “تل أبيب” يزيد من فرص التدخل الأمريكي لحماية العدو الإسرائيلي، وبالتالي المزيد من تكاليف العمليات.
يشير التقرير إلى أن الحرب مع “الحوثيين” لا يشهد أي بوادر لتخفيف التوتر، مما يعني أن التكاليف ستستمر في الارتفاع.
الحبكة الدرامية لصرخة “الموت لأمريكا”
في سياق متصل، وبإلقاء نظرة عميقة إلى المشهد التراجيدي للداخل الأمريكي، ينكشف النقاب عن عمق المعاناة الأمريكية. تلك القوة التي أصبحت تعيش واقعًا مؤلمًا من الداخل وتحديات كبيرة من الخارج. بلاد الأمل والحلم. أمريكا (كما يحلو للبعض تسميتها). قد تقهقرت إلى نقطة وسط دوامة من الاضطراب والاختلال. فكيف يمكن أن تكون الصورة قاتمة إلى هذا الحد، حين يُخْتار للقيادة رجلًا يبدو أنه عانى من أشد حالات الاضطراب العقلي؟ من هنا تبدأ الحبكة الدرامية لواقع يصرخ بوضوحٍ عن “الموت لأمريكا”.
صدى هذا الشعار يأتي من قلب ملايين من البشر الذين تحملوا ويلات الظلم الأمريكي. مآس طالما رافقت الخطوات الأمريكية، أغرقت العالم في فوضى لا تنتهي. وجعلت الولايات المتحدة رمزًا للخطر والفوضى، يختلط فيه ما هو سياسي بما هو إنساني في شكل لا يمكن التمييز بينهما.
في خضم هكذا، يبدو السؤال الذي يلوح في الأفق، هل تُعاني أمريكا من حالة موت حقيقي؟ هل لا تزال لديها نبضات للحياة، أم أنها جثة هامدة مغمورة بأوهام الاستمرارية؟ هذا ما سيتم قراءته من واقع نتائج الانتخابات الأخيرة، وهو تماما ما بات يفعله الكاتب الأمريكية (كالفن وودوارد) في مقالة له نشرها موقع أسوشيتد برس، والتي يصف فيها الانتخابات الأمريكية بتلك اللحظة التي ترفع فيها الأمة مرآة لتدرك واقعها، لتتحقق من صورتها الخلفية.
في تلك المرآة، تتدفق الأسئلة والأجوبة، وتتجلى الصورة الكئيبة لجمهورية نصبت ذاتها لحقبة من الزمن “رمزًا للحرية”. فعلى الرغم مما يبدو من إشارات القوة والسلطة، يكشف وودوارد بمثالية عن حالة موت سريري تخيم على القيم التي كانت أمريكا تروج لها. وبأنها منبر لـ “صوت الحق والعدالة”.
فاز ترامب في الانتخابات، لكن بمعنى عميق، كان ذلك بمثابة صرخة ألم من أناس يشعرون بتهميشهم. كيف يمكن للناخبين أن يختاروا شخصًا يشكل تهديدًا للديمقراطية، بينما يفكر الكثيرون بقلق بشأن ميل البلاد نحو الاستبداد؟ إنها صورة تضاد مثيرة للسخرية؛ يُظهر العالم كيف أن القلب الأمريكي قد تعرض للإصابة، ربما بشكل لا رجعة فيه.
الديمقراطيات الغربية باتت مهدَّدة
يبدو أن التأمل في موقف أمريكا اليوم، وفي كيف اختار الناخبون إعادة انتخاب من يعتبرونهم زعيمًا استبداديًا، ليس مجرد واقع سياسي، بل هو أيضاً ظاهرة إنسانية تتعلق بالطموحات والأخطاء الجماعية. إن التعامل مع السؤال حول كيفية اتخاذ قرارات مستقبلية بحكمة وصواب يعود في النهاية إلى الوعي الجماعي للشعب الأمريكي.
وعندما ينعكس ذلك على تاريخ الديمقراطية، يمكن القول بأن بنية الديمقراطيات الغربية قد باتت مهدَّدة، فتاريخ هذا الاختيار سيسجل كأحد المآسي الكبرى، فهل يعود الوعي الجماعي ليصيغ مستقبلًا أفضل ضمن أسس الصواب والمعقولية، ام أن أمريكا قد انساقت في طريق مظلم من الاستبداد الظاهر تحت شعارات وهمية؟ ولا نضنها إلا كذلك.
العد التنازلي
يبدو جلياً أن الولايات المتحدة تواجه صعوبات وتحديات تفوق قدراتها، العسكرية والاقتصادية والسياسية، وكل المؤشرات تؤكد أن واشنطن لا تريد العودة إلى الوراء والإقرار بالهزيمة، بل تتصرف حسب أيدلوجيتها المعتادة، القائمة على القتل والتدمير وغزو الشعوب. ولكن هذه المرة بات المشهد مغياراً تماماً فمحور الجهاد والمقاومة عازم على إخراجها من المنطقة واستعادة الأراضي المحتلة وطرد عصابات الإجرام اليهودية.