“الشرق الأوسط الجديد” بين مخططات التجزئة وأطماع الهيمنة الصهيونية
موقع أنصار الله . تقرير | صادق البهكلي
في خضم الأحداث المتسارعة التي يشهدها الوطن العربي ، تبرز رؤية “الشرق الأوسط الجديد” التي باتت تشكل محوراً لسياسات القوى الكبرى في المنطقة. هذه الرؤية -التي طرحت لأول مرة على يد شمعون بيريس- تعود اليوم إلى الواجهة بشكل متجدد مع إعلان “رئيس وزراء” الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو عن استراتيجيات جديدة لتوسيع نطاق الهيمنة السياسية والاقتصادية لكيانه في المنطقة، معتمداً على تحولات جذرية تشهدها المنطقة.
التطورات الأخيرة في سوريا تزيد المشهد تعقيداً، حيث يتزامن تصعيد الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية مع ظهور بوادر إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية. هذه التحركات تأتي في سياق إعادة صياغة معادلات النفوذ في المنطقة، مترافقة مع تراجع نسبي للدور الأمريكي التقليدي وصعود ديناميكيات جديدة بقيادة قوى إقليمية ودولية.
في هذا التقرير، نستعرض جذور مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، مع تسليط الضوء على السياقات الحالية التي تدفع إلى إحيائه، ونناقش أهدافه الخفية في تمزيق وحدة المنطقة وإعادة تشكيل خرائطها وفق مصالح العدو الإسرائيلي والقوى الداعمة له.
تسعى قيادة الكيان الصهيوني إلى تقديم كيانها أنه دولة واقعية قوية ومتقدمة، تعمل على تسريع صياغة ترتيبات إقليمية تضمن بقاءها وتوسع نفوذها. أحد أبرز تلك الصيغ هو مفهوم “الشرق أوسطية” الذي يُسوّق على أنه إطار اقتصادي وسياسي يجمع دول المنطقة تحت قيادة الكيان الصهيوني، ما يتيح له التغلغل في العالم العربي وتفتيت وحدته.
بعد إسقاط النظام السياسي في العراق 2003م، أعيد طرح فكرة “الشرق الأوسط الجديد” تحت مسمى “الشرق الأوسط الكبير” الذي يضم دول العالم العربي بالإضافة إلى تركيا، إيران، باكستان، وأفغانستان. قادت الولايات المتحدة هذا المشروع على أمل جني ثمار ما أنجزته عسكرياً في العراق، لكنها فشلت في ضمان استمرارية تلك “الإنجازات” بسبب تعقيدات الواقع العربي.
في عام 1993 نشر شمعون بيريس كتاباً بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”، حاول فيه تقديم فكرة المشروع بوصفه إطاراً للتعاون الإقليمي الذي يحقق “الأمن والاستقرار” لجميع دول المنطقة. روّج بيريس -بأسلوب دبلوماسي- لما وصفه بـ”السلام” كبديل للحروب، زاعماً أن تلك الحروب كانت فقط لضمان أمن الكيان. أشار في كتابه إلى أهمية نظام اقتصادي مشترك يركز على تنمية المنطقة وتحقيق رفاه شعوبها، معتمداً على قوة أسواق الكيان الصهيوني كونها عنصراً محوريا في هذا المشروع.
لتحقيق هذا المشروع، تبنّى الكيان الصهيوني وحلفاؤه استراتيجية “تجزئة التجزئة”، التي تهدف إلى تقسيم الدول العربية إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية وعرقية. الهدف هو خلق حالة من الصراعات المحدودة التي يمكن التحكم بها، مع إبقاء النشاط الاقتصادي مستمراً بما يخدم مصالح القوى المهيمنة. النموذج العراقي يُعد مثالاً واضحاً على هذه الاستراتيجية، حيث قُسم المجتمع العراقي إلى طوائف متناحرة.
بحلول عام 2006، بدأت ملامح تراجع مشروع “الشرق الأوسط الكبير”. أكدت الباحثة مارينا أوتاوي من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي أن المشروع الأمريكي لترويج الديمقراطية في المنطقة أدى إلى تعزيز نفوذ “التيارات الإسلامية” في الانتخابات، ما دفع واشنطن للتراجع عن مبادراتها واستبدلت بها خطواتٍ مدروسةً أقلَّ طموحاً. اعترفت أوتاوي بأن الفشل الأمريكي في فهم الواقع العربي كان أحد أهم أسباب هذا التراجع.
يركز المشروع على ما أسماه “تحرير الاقتصاد العربي”، ليس بهدف تحسين اقتصادات المنطقة، بل لجعلها بيئة مفتوحة للشركات الصهيونية والعالمية للسيطرة على مقدراتها. كما يسعى المشروع إلى إحداث تغييرات ثقافية واجتماعية، مثل “تحرير المرأة” و”إصلاح التعليم”، لضرب منظومة القيم التي تعزز حالة العداء مع الكيان الصهيوني.
بشّرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بولادة “شرق أوسط جديد” يهدف إلى إعادة تشكيل التحالفات وإقصاء قوى المقاومة. أشارت رايس -في حينه- إلى أن الوقت قد حان لفرض هذا المشروع، مع تهديد واضح لمن يعارضونه. كانت تصريحاتها تعكس طموحاً أمريكياً لإدامة تبعية المنطقة وإعادة ترتيب أوضاعها بما يخدم الهيمنة الصهيونية.
في عام 2006 نشر الضابط الأمريكي السابق رالف بيترز مقالاً بعنوان (حدود الدم) قدّم فيه خارطة جديدة للمنطقة تقوم على تقسيم الدول الحالية إلى كيانات صغيرة. اعتبر بيترز أن الحدود الحالية ظالمة، واقترح إعادة رسمها على أسس إثنية وطائفية، بما يؤدي إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية. في رؤيته تصبح الكيانات الناتجة أكثر قابلية للتحكم من قبل القوى الغربية.
العراق: يُقسم إلى ثلاث دول: شيعية في الجنوب، سنية في الوسط، وكردية في الشمال.
السعودية: تخسر مناطقها الشرقية لصالح “الدولة الشيعية”، بينما تُلحق مناطقها الشمالية بالأردن.
إيران: تفقد أجزاء كبيرة من أراضيها لصالح أذربيجان وكردستان.
سوريا ولبنان: تتحول إلى دويلات طائفية، مع عودة لبنان إلى “دولة فينيقية” طابعها متوسطي.
الأردن: يُوسع حدوده ليضم أجزاءً من السعودية.
اليمن: يُمنح مناطق جنوب السعودية.
إعادة تدمير المقدرات العسكرية السورية واحتلال العدو الإسرائيلي أجزاء جديدة من أراضيها تسليط الضوء على مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي تسعى “إسرائيل” من خلاله إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يضمن هيمنتها المطلقة. يهدف هذا المشروع إلى خلق واقع جديد يفرض على دول المنطقة أن تكون منزوعة السلاح، ضعيفة اقتصادياً وعسكرياً، ومفتتة اجتماعياً وثقافياً، بحيث تصبح “إسرائيل” القوة الوحيدة المسيطرة.
منذ اندلاع الأزمة السورية، لم تدخر “إسرائيل” جهداً في استغلال الفوضى لضرب مفاصل القوة السورية. استهدفت الغارات الجوية المستمرة منشآت عسكرية ومخازن أسلحة استراتيجية، بما في ذلك منظومات الدفاع الجوي التي كانت تعد من أبرز ما يهدد التفوق الإسرائيلي.
شكّل تعزيز احتلال العدو الإسرائيلي للجولان السوري تأكيداً لطموحاته التوسعية، لم يكتفِ الدو بالاحتفاظ بالجولان الذي احتله عام 1967، بل عمل على تعزيز وجوده العسكري والاقتصادي هناك، واستغلال ثرواته الطبيعية، ويسعى من خلال هذه السياسات إلى فرض أمر واقع يجعل من أي استعادة لهذه المناطق حلماً بعيد المنال.
ويسعى العدو الإسرائيلي ضمن هذا المشروع إلى إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة بشكل كامل. “الشرق الأوسط الجديد” الذي يطمح إليه هو شرق أوسط منزوع السلاح، حيث تكون الدول العربية فاقدة لأي قدرة على تهديد أمن الكيان. ومن خلال فرض سياسات التجزئة، تعمل “إسرائيل” على إضعاف أي قوة إقليمية قد تقف أمام طموحاتها.
يأتي الدور الدولي ليعزز هذه المخططات تحت شعارات مثل “الاستقرار الإقليمي” و”مكافحة الإرهاب”. في الواقع، تعمل القوى الكبرى -وعلى رأسها الولايات المتحدة- على خدمة الأجندة الإسرائيلية من خلال فرض عقوبات على الدول التي تسعى لبناء قدراتها الدفاعية، كما يحدث مع إيران وسوريا.
إن سقوط سوريا وتدمير مقدراتها العسكرية يجب أن يكون إنذاراً لباقي الدول العربية والإسلامية. فـ”إسرائيل” لا تسعى فقط إلى تدمير القوة السورية، بل تريد شرقاً أوسطا بلا مقاومة، شرقاً أوسطا تخضع فيه الشعوب لمخططاتها دون أن تمتلك أدنى قدرة على الدفاع.
إن مواجهة المشروع الإسرائيلي يتطلب تعزيز ثقافة المقاومة، وتوحيد الجهود بين القوى التي ترفض الهيمنة. فكما استطاعت بعض حركات المقاومة أن تثبت قدرتها على الصمود، فإن المشروع الإسرائيلي ليس قدراً حتمياً، بل يمكن هزيمته إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية والإيمان بقضية التحرر.
أخيرا: مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ليس إلا إعادة إنتاج للهيمنة الاستعمارية بوسائل مختلفة. يجري تسويقه بوصفه خطوة نحو “التنمية والرفاه”، لكنه في الحقيقة يهدف إلى تفكيك المنطقة وضمان الهيمنة الصهيونية. يبقى السؤال: هل ستسمح شعوب المنطقة بهذا المخطط، أم ستُعيد رسم مصيرها بعيداً عن التدخلات الخارجية؟.