597 يوما من العدوان الصهيوني على قطاع غزة، يرتكب خلالها العدو الإسرائيلي أبشع الجرائم، في غزة لا الليل ولا النهار يمكن أن يحتويا على لحظة من أمن أو راحة، وسط حرب الإبادة الصهيونية المستمرة. ورغم أن شبح القتل يحوم فوق غزة ليل نهار، إلا أن انهيار ضوء النهار معلناً عن بدء ظلمة الليل، تعد بداية كابوس أصعب وأشد على الغزيين الرازحين تحت حمم الموت، فوساوس القتل وخيالات الرعب تلاحق الآباء والأمهات وحتى الأطفال، ما يجعل ساعات الليل أشد وطأة وأبطأ مسيراً.

فجأة تصدر (ألمانيا، بريطانيا، إسبانيا، النرويج، آيسلندا، أيرلندا، لوكسمبورغ، مالطا، سلوفينيا، فرنسا كندا، إيطاليا، سويسرا، واليونان) بيانات تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وتدعو لرفع الحصار، مع قليل من خطاب التهديد الناعم للكيان الإسرائيلي .

الدول الأوروبية صرّحت بأنها ستعيد تقييم اتفاق التجارة الحرة الذي يشكّل أساس العلاقات الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، لكن المضحك في الأمر أن تلك الدول هددت بإجراء كهذا، وهي تعلم مسبقا أنه لا يمكن تحقيقه على الإطلاق، لأنه يشترط إجماع كل الدول الأوروبية، وهذا مستحيل، الأمر الذي يكشف أن القرار سياسي ليس إلا.

وذلك يظهر جليا في رد "حكومة" العدو بالقول إن “الضغوط الخارجيّة” لن تمنعها من “الدفاع عن وجود إسرائيل وأمنها ضد الأعداء الذين يسعون إلى تدميرها” حسب الناطق باسم "وزارة الخارجية" الإسرائيلية، أورين مارمورستين. وقال الناطق، رداً على قرار لندن تعليق محادثات التجارة الحرّة: “إذا كانت حكومة لندن مستعدّة لإلحاق الضرر بالاقتصاد البريطاني، فهذا من صلاحياتها”.

هكذا تعامل العدو الصهيوني مع التهديدات الأوروبية، كونه يعرف جيدا أن تلك الدول لا تملك الإرادة لرفع الظلم عن كاهل الشعب الفلسطيني، وإلا فبإمكان تلك الدول اتخاذ مواقف حازمة، خاصة وأن حوالي 40% من تجارة الكيان الإسرائيلي تتم مع أوروبا، وهو ما يمكن القول معه إن المواقف الغربية تجاه العدو الإسرائيلي لم تأتِ كنتيجة لقرار سياسي منفرد أو يقظة أخلاقية مفاجئة، بل موجة غضب ظرفية سرعان ما تنكفئ بعد أن تمتص جزءا كبيرا من السخط العالمي.

بريطانيا صاحبة الخطيئة الكبرى

 بريطانيا، هي الدولة صاحبة الخطيئة الأولى بـ"منح ما لا يملك لمن لا يستحق"، وهي من وضعت اللبنة الأولى لمأساة الشعب الفلسطيني، وتستمر إلى اليوم بتزويد الكيان بأفتك الأسلحة، تعلن مؤخرا، تجميد مفاوضات الاتفاق التجاري مع الكيان الصهيوني!

كان بإمكان بريطانيا التأثير على الكيان الصهيوني عبر فرض الإجراءات والعقوبات الاقتصادية، فحجم التبادل التجاري كبير جدا.

وتكشف البيانات عن حجم الشراكة الاقتصادية الكبيرة لبريطانيا مع الكيان الصهيوني، فبريطانيا تحتل المرتبة 11 بين أكبر شركاء الاستيراد للكيان الصهيوني في عام 2024، بلغت قيمة الصادرات الصهيونية إلى السوق البريطانية 1.28 مليار دولار عام 2024، بانخفاض حاد يتجاوز 30% مقارنة بعام 2023 الذي شهد صادرات بقيمة 1.8 مليار دولار. وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، ظل مستوى التصدير على حاله دون تغيير يُذكر.

كما بلغت صادرات الألماس من "إسرائيل" إلى بريطانيا العام الماضي نحو 245 مليون دولار، وتمثّل المواد الكيماوية والأدوية نحو ثلث إجمالي الصادرات. أما في قطاع الخدمات، الذي يشمل البرمجيات والحوسبة، فتُقدَّر نسبة الصادرات بنحو 60% من إجمالي الخدمات المصدّرة لبريطانيا.

من جهة أخرى، تستورد "إسرائيل" من بريطانيا ما قيمته 2.5 مليار دولار سنويًا، أي ما يقارب ضعف ما تصدّره لها.

في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي فيعتبر ثاني أكبر شريك تجاري للعدو الإسرائيلي بعد الولايات المتحدة. ففي عام 2024، شكّل التبادل التجاري مع دول الاتحاد نحو 32% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، خاصة في مجالي المعدات والكيماويات. وبلغت واردات الاتحاد من "إسرائيل" حوالي 15.9 مليار يورو، مقابل صادرات أوروبية لـ"إسرائيل" بقيمة 26.7 مليار يورو.

في ذات السياق استوردت إيرلندا بما يعادل 3.2 مليارات دولار، وكانت أكبر مشترٍ للدوائر المتكاملة الصهيونية في عام 2024، حيث استوردت ما قيمته نحو 3 مليارات دولار من الدوائر المتكاملة الإلكترونية والوحدات الدقيقة، وهي مكونات تُستخدم على نطاق واسع في قطاعات الصناعات الدوائية والأجهزة الطبية والتقنية في إيرلندا.

أما ألمانيا فقد شهدت العلاقات الاقتصادية بينها والكيان الاسرائيلي نموا مستمرا خلال العقود الماضية، وقد وصلت قيمة التبادل التجاري بين الجانبين الى 4 مليارات وأربعمائة مليون دولار في عام 2004، بعد ان كانت مئة مليون دولار في عام 1960، وتبلغ قيمة هذا التبادل التجاري بين الطرفين السبعة مليارات يورو وأربعمائة مليون دولار في الوقت الحاضر.

وتعتبر ألمانيا ثالث شريك تجاري للكيان الإسرائيلي بعد أمريكا والصين، كما يعتبر الكيان الاسرائيلي ثاني أكبر شركاء ألمانيا التجاريين في "الشرق الأوسط" وشمال افريقيا، وهناك علاقات بين مئات الشبكات والشركات التجارية الكبيرة في ألمانيا والكيان الإسرائيلي اللذين وقعا على اتفاقية التجارة الحرة بينهما في عام 1995، كما وقعا على إزالة العقبات الجمركية والضريبية بينهما.

تفنيد المزاعم الغربية

وبشأن مزاعم بريطانيا والاتحاد الأوروبي نشير إلى ما نشره موقع "ميدل إيست آي" الذي نشر  مقالاً مطوّلاً يتناول التحوّل المفاجئ في لهجة الحكومات الغربية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، ويقدّم تحليلاً ناقداً يرى أنّ هذا التحوّل ليس تعبيراً صادقاً عن قلق إنساني، بل هو جزء من حملة علاقات عامّة مدروسة تهدف إلى تبرئة هذه الحكومات من تواطؤها السابق، وتخفيف الضغط الشعبي والإعلامي المتزايد.

هذا القلق المفرط ليس سوى حيلة أخرى لا تختلف كثيراً عن التركيبة السابقة من الصمت والحديث عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، ولديها الغرض نفسه: منح "إسرائيل" الوقت لإتمام مهمتها المتمثّلة في استكمال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة.

تقول الصحيفة إن بإمكان المملكة المتحدة وأوروبا التوقّف عن تزويد "إسرائيل" بالأسلحة اللازمة لذبح الأطفال الفلسطينيين في غزة. ففي أيلول/سبتمبر الماضي، وعد رئيس الوزراء البريطاني بخفض مبيعات الأسلحة لـ"إسرائيل" بنحو 8%، لكنّ حكومته أرسلت في الأشهر الثلاثة التالية المزيد من الأسلحة لتسليح الإبادة الجماعية التي ارتكبتها "إسرائيل"، مقارنة بما أرسله المحافظون في الفترة بأكملها بين عامي 2020 و2023.

علاوة على ذلك، تستطيع بريطانيا التوقّف عن نقل أسلحة دول أخرى، والتوقف عن تنفيذ رحلات استطلاعية فوق غزة نيابةً عن "إسرائيل". فقد أظهرت معلومات تتبّع الرحلات الجوية أنه في إحدى ليالي هذا الأسبوع، أرسلت المملكة المتحدة طائرة نقل عسكرية، يمكنها حمل الأسلحة والجنود، من قاعدة تابعة لسلاح الجو الملكي في قبرص إلى "تل أبيب"، ثم أرسلت طائرة تجسّس فوق غزة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمساعدة "إسرائيل" في مذبحتها. كما يمكن لبريطانيا اتخاذ "إجراء ملموس" بالاعتراف بدولة فلسطين، كما سبق وفعلت إيرلندا وإسبانيا، ويمكنها أن تفعل ذلك في أيّ لحظة.

ويمكن أن تفرض المملكة المتحدة عقوبات على "وزراء" في "الحكومة" الإسرائيلية وتُعلن استعدادها لتنفيذ اعتقال نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وفقاً لمذكّرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، في حال قام بزيارة بريطانيا. وتستطيع منع "إسرائيل" من حضور الفعّاليات الرياضية، كما حدث مع روسيا. وبالطبع، يمكن للمملكة المتحدة أن تفرض عقوبات اقتصادية شاملة على "إسرائيل"، كما فعلت مع روسيا؛ وأن تُعلن أنّ أيّ بريطاني عائد من الخدمة العسكرية في غزة مُعرَّض لخطر الاعتقال والملاحقة القضائية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

كلّ هذه "الإجراءات الملموسة" وغيرها يمكن تنفيذها بسهولة، لكن لا توجد إرادة للقيام بذلك. فدعم الكيان الإسرائيلي هي استراتيجية غربية دأبت عليها منذ نشأة الكيان في جسد الأمة.