بكل صلافة فرضت أمريكا ومجندها الصهيوني آلية توزيع مساعدات، أثارت موجة نقد عالمية، بعد أن اتضح مغازيها القاتلة. قدمت أمريكا بهذا الفعل نموذجا إضافيا وليس جديدا لتحركاتها المغلفة بالإنسانية بينما تقوم على الكذب وتضييق المسافات للوصول إلى أهداف غير أخلاقية.

بعد زوبعة "ريفيرا الشرق الأوسط"، والرفض العالمي لها، ذهبت أمريكا مع الميان إلى فرض تهجير الفلسطينيين من غزة من خلال التصعيد العسكري وتضييق الحصار، حتى بات الناس يموتون جوعا، من أجل دفع الفلسطينيين لاتخاذ قرار هجرة القطاع ومغادرة أرضهم وتاريخهم وكل تفاصيل ماضيهم. وفي محاولة لتبييض صفحة القتل بالتجويع، ظهرت ما تسمى بـ"مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية" وهي مؤسسة أمريكية بكل تفاصيلها.

منذ اللحظة الأولى لظهور المؤسسة، وآلية توزيع المساعدات لأهل القطاع، أدرك العالم الباب الآخر الذي أرادت أمريكا والكيان من خلاله الاقتراب من هدف التضييق أكثر على المدنيين ودفعهم للهجرة، لذلك امتنعت الهيئات الإنسانية عن الدخول في أي نوع من الشراكة معها.

ورفضت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة العمل معها ، مؤكدة إن المؤسسة لا تمثل عملية محايدة. وأن الخطة الإسرائيلية لعملية التوزيع التي تعمل بها تنتهك المبادئ الإنسانية والقانون الدولي، وقد تُفاقم من معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر. وقال توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ إن المؤسسة "تجعل المساعدات مشروطة بأهداف سياسية وعسكرية" وتستخدم التجويع "ورقة مساومة".

وأعلنت وزارة الصحة في غزة أن حصيلة الضحايا الذين وصلوا إلى المستشفيات، منذ فجر اليوم الأربعاء، نتيجة إطلاق النار قرب نقاط المساعدات، بلغت 57 شهيداً وأكثر من 363 مصاباً، ليرتفع عدد شهداء "لقمة العيش" الذين سقطوا في أماكن توزيع المساعدات إلى 224 شهيداً، وأكثر من 1,858 مصاباً منذ بدء عمل تلك المراكز.

وأضافت الوزارة أن عدد شهداء العدوان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023 بلغ 55,104 فيما تجاوز عدد الجرحى 127,394.

وفي غضون 24 ساعة فقط، وصل إلى مستشفيات القطاع 123 شهيداً، من بينهم 3 جرى انتشالهم من تحت الركام، إضافةً إلى 474 إصابة، وسط صعوبة في الوصول إلى الضحايا العالقين في الطرقات وتحت الأنقاض بسبب استمرار القصف الإسرائيلي.

من جهته، أكّد المتحدّث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أن طواقم الدفاع المدني والإسعاف نقلت عدداً من الشهداء والمصابين الذين سقطوا إثر إطلاق النار من الآليات العسكرية الإسرائيلية والطائرات المسيّرة من نوع "كواد كابتر" على آلاف المدنيين الذين تجمّعوا قرب مفترق الشهداء (نتساريم) وجسر وادي غزة للحصول على مساعدات غذائية من مركز تديره "مؤسسة غزة الإنسانية".

وأوضح بصل أن الفلسطينيين بدأوا يتجمّعون منذ ساعات الفجر الأولى، حيث بدأت عمليات إطلاق النار عليهم من الدبابات الإسرائيلية، وتكرّرت عدة مرات، ثم اشتدت كثافتها قرابة الساعة 5:30 صباحاً، بالتزامن مع قصف مكثف من طائرات "كواد كابتر" باتجاه المدنيين الجوعى، ما أسفر عن هذا العدد الكبير من الضحايا.

وأشار إلى أنه لا يزال مئات المواطنين في المناطق القريبة من نتساريم وجسر وادي غزة يحاولون الوصول إلى مركز المساعدات على الرغم من أن العدو يطلق النار بين الحين والآخر، ما يزيد المخاوف من تكرار المجازر.

سلاح حرب لتهجير الناس

زاد تأكيد النوايا الخبيثة وراء ما أسمى بمؤسسة غزة الإنسانية، تعيين المستشار في الشؤون الدينية لترامب خلال ولايته الأولى القس جوني مور، رئيسا للمؤسسة، وهو ما أثار حفيظة الكثير من دول الغرب نظرا لموقف هذا الرجل، المعروف والمؤيد لفكرة إخلاء غزة وتحويلها إلى منطقة سياحية للصهاينة.

وقد وصفت صحيفة "الغارديان" البريطانية تعيين مور بأنها "مبادرة مثيرة للجدل مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل". فيما أكدت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان ماري لولور أن ما يسمى بـ "مؤسسة غزة الإنسانية" تستخدم المساعدات سلاح حرب لتهجير الناس وإذلالهم. وأضافت "ما نراه الآن هو أن مؤسسة غزة الإنسانية تستخدم المساعدات سلاح حرب لتهجير الناس وإذلالهم وإجبارهم على التجمع في ما يبدو لي مثل حظائر الماشية. إنه أمر غير إنساني تماما".

مصايد موت لكسر كرامة شعب

ظهر واضحا أن تعيين هذا الشخص تحديدا للمؤسسة المشبوهة في سياق توفير المناخات المناسبة للسير بعملها باتجاه تحقيق أهداف محددة هي المساومة بالكرامة أو القتل هو ما اتضح قبلا ولاحقا، إذ جاء تعيينه بعد استقالة الجندي البحري الأميركي السابق “جيك وود"، احتجاجاً على ما وصفه بعدم قدرة المؤسّسة على تنفيذ خطة توزيع المساعدات في غزة بما يتماشى مع المبادئ الإنسانية الأساسية، في ظل إشراف إسرائيلي مباشر على العملية".

فيما اعتبرت حركة المقاومة حماس أن ما تعرف بالآلية الإسرائيلية الأمريكية لتوزيع المساعدات "تحولت إلى مصايد موت وإذلال هدفها كسر كرامة شعب". مطالبة الأمم المتحدة "بوقف الآلية القاتلة وفتح ممرات إنسانية آمنة بإشراف دولي بعيدا عن تحكم الاحتلال". نفس الصدى جاء من جهة منظمة أطباء بلا حدود حيث أكدت منسقة شؤون الطوارئ، كلير مانيرا، في بيان نشرته المنظمة، إن قتل عشرات الفلسطينيين وإصابة مئات وهم ينتظرون حصولهم على الطعام من مراكز التوزيع "يظهر أن خطورة النظام الجديد لتوزيع المساعدات وافتقاره للإنسانية والفعالية إلى حد بعيد".

استراتيجية للتطهير العرقي

في 27 مايو/أيار الماضي، بدأت مؤسسة "غزة الإنسانية" الأمريكية توزيع المساعدات، إلا أن الأمر ظهر أشبه بعمليات استدراج للفلسطينيين قبل وقوعهم في مصائد الموت، فضلا عن مشاهد الإذلال المتعمدة، كما تكشفه طريقة التنظيم ومناداة الفلسطينيين عبر مكبرات الصوت بصيغة "أيها الجوعى".. يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة إسماعيل الثوابتة إن ما يحدث هو "ابتزاز جماعي منظم"، حيث تُستخدم المساعدات أداة للحرب، وتُشرف عليها شركة أمريكية إسرائيلية بتنسيق كامل مع "جيش" العدو الذي ينصب كمائن القتل تحت غطاء "المناطق العازلة"، فيما اتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الكيان الإسرائيلي بتحويل آلية توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة إلى "أداة إضافية ضمن منظومة الإبادة الجماعية" بحق المدنيين الفلسطينيين.

توالت على مرأى العالم مشاهد المجازر التي كانت تستهدف جموع الفلسطينيين عند تجمعهم لاستلام أي شيء من الطعام لإسكات بطون الأطفال والنساء الخاوية بفعل الحصار الوحشي، ولم يشك أحد في تعمُّد هذه الطريقة في القتل مع تكرارها، وظهور المقاطع المصورة التي كانت تنسف السردية الإسرائيلية القائلة بأن هناك مشتبه بهم بين طوابير المنتظرين.. أحد الناجين من إحدى مجازر الجوعى، كشف " بأن "أعداد المواطنين الذين حاصرتهم النيران الإسرائيلية كانوا بالآلاف، وأن ما حصل معهم، حسب ما شاهد من أحداث وتطورات، بعد السماح لهم بالدخول ثم خروج جنود من طرفي الطريق واستهدافهم، كان كمينًا مخططًا."

ووصفت وسائل إعلام دولية المقاطع التي وثقتها كاميرات المواطنين بالمرعبة، لعشرات المدنيين الذين سقطوا بين شهيد وجريح، جثث ملقاة على الأرض، ونداءات استغاثة. يقول المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيليب لازاريني، إن توزيع المساعدات في قطاع غزة أصبح فخًا مميتًا. بينما تؤكد منظمة «أطباء بلا حدود» أن «البداية الكارثية لتوزيع الغذاء تثبت أن الخطة الأمريكية الإسرائيلية غير مجدية، وأن إسرائيل تستخدم المساعدات أداة لتهجير السكان قسرًا، ضمن ما يبدو أنه استراتيجية للتطهير العرقي".