علي الدرواني

في عدن، تلك المدينة التي لا تزال تحت وطأة الاحتلال، يفتك الفقر بسكانها كما لم تفعل الطائرات، ولا المدافع والبنادق. في مدينة عدن، التي كانت يومًا ما حاضرة اليمن الاقتصادية وميناءه النابض، تجري اليوم فصول من المعاناة التي تتجاوز حدود الخيال. لم تعد البنادق ولا المدافع وطائرات الحقد السعودية والمدرعات الإماراتية هي الخطر الأكبر الذي يهدد حياة أهلها، بل الفقر والجوع والخذلان. هناك، في الجنوب المحتل، يتهاوى الناس تحت وطأة الأزمات المتلاحقة، بينما يكتفي العالم بالمراقبة، دون أن يمد يد العون، أو حتى يرفع صوته بالاحتجاج.
المفارقة المؤلمة أن العالم بأسره استنفر واهتزت أركانه تحت عنوان اخراج الحوثي من عدن، أما اليوم، وقد صار الفقر هو العدو الحقيقي، فلا أحد يحرك ساكنًا.
إن ما يحدث في عدن ليس مجرد إهمال، بل سياسة تجويع ممنهجة، تجعل من الاحتلال أداة للسيطرة، بالمعاناة لا بالحلول، وبالإفقار لا بالإنقاذ.


منذ عشر سنوات، قامت الدنيا ولم تقعد. تحركت الجيوش، وانطلقت ما أسموها "عاصفة الحزم"، واجتمعت القوى الإقليمية والدولية تحت شعار "استعادة الشرعية" و"تحرير اليمن". يومها، لم يكن العالم ليتسامح مع وجود أبناء البلد في بلدهم، لأنهم يهددون مصالحهم غير المشروعة، ويقلبون موازين القوى في المنطقة لصالح الشعوب. لقد "حررتم" عدن من أهل البلد، ولكن، اليوم، وبعد مرور سنوات من ما يسمى بـ"التحرير"، بات السؤال أكثر إلحاحًا: من يحرر عدن من الفقر؟ من يجنب أطفالها الجوع؟ من ينقذها من التدهور المستمر في كل جوانب الحياة؟
في الأيام القليلة الماضية، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بشهادات تقطر ألمًا، تنقل واقعًا مريرًا تعيشه المدينة، انعدام الكهرباء في ظل موجات حر خانقة. غياب الأدوية في المستشفيات وارتفاع أسعار العلاج، انهيار كارثي للعملة المحلية، إذ تجاوز سعر الدولار في عدن 2875 ريالًا، بينما في صنعاء لا يتجاوز 530 ريالًا للدولار الواحد!
هذا الفارق ليس مجرد رقم، بل يعكس انهيارًا اقتصاديًا كاملاً في مناطق يُفترض أنها -كما ادعوا- "محررة"، ومدعومة من المجتمع الدولي، ويُفترض أن التحالف المشؤوم جاء لدعمها وإنقاذها. فما الذي حدث؟ لماذا تسير عدن في طريق الانهيار? بينما تغرق صنعاء تحت العقوبات والحصار، لكنها أكثر استقرارًا من الناحية المعيشية؟
لقد وُعد أبناء عدن بعد "التحرير" بأن مدينتهم ستتحول إلى دبي أخرى. أطلقوا الوعود البراقة، وزرعوا الأحلام الكبيرة. لكن، وبعد سنوات، اتضح أن كل تلك الوعود لم تكن إلا سرابًا. تحولت المدينة من حلم إلى كابوس، من وعود بالإعمار إلى واقع من التجويع والإذلال، تتآكل الخدمات، تنهار العملة، تنعدم فرص العمل، ويفترش الناس الأرض بعد أن ضاقت بهم الحياة. 
والمفارقة أن من يفرض هذا الواقع، من قوى الاحتلال، هم أنفسهم مِن أغنى دول المنطقة، يمتلكون الثروات التي لا تُعد ولا تُحصى، ويملكون السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي، لكنهم لم يقدّموا لأبناء عدن حتى كسرة خبز أو شربة ماء.


وهنا تنكشف الحقيقة: لم يكن الهدف من الحرب "تحرير اليمن" أو "حماية الجنوبيين"، بل السيطرة على الموانئ والمضايق البحرية، واستغلال الثروات، وخلق واقع هش تبقى فيه عدن رهينة للانهيار الدائم. الاحتلال لا يكون دائمًا بالدبابات، بل قد يكون بالتجويع، بقطع الرواتب، وترك الناس في ظلمة الليل دون كهرباء ولا دواء.
عدن اليوم كشفت زيف الشعارات، وفضحت كذب الوعود. إنها تنتظر العدالة، وتبحث عن كرامة، وتسعى إلى حقها في الحياة كبقية شعوب الأرض. لقد سقط القناع، وبات واضحًا أن الاحتلال لا يعني فقط وجودًا عسكريًا، بل قد يكون أيضًا حالة من التجويع المُمنهج، والإفقار المدروس، والسيطرة غير المباشرة التي تُمارس بغطاء مخادع: "دعم الشرعية".
وهنا لا يمكن تجاهل دور من شاركوا في صنع هذه المأساة من الداخل، من مرتزقة العدوان الذين تخلوا عن ضميرهم، وباعوا أوطانهم، مقابل مناصب زائفة أو أموال مدنّسة. هؤلاء الذين ارتضوا أن يكونوا أدوات رخيصة بيد المحتل، يمارسون الفساد، ينهبون الإيرادات، ويُعمّقون الانهيار. هم المسؤولون عن هذا الخراب بالتساوي مع المحتل، مع تحمل إثم الخيانة. دماء الجوعى، ومعاناة المرضى، وصراخ الأطفال في الظلام، كل ذلك في رقابهم، وسيحاسبهم الشعب والتاريخ.
إن التاريخ لن يرحم، والشعوب لا تنسى. وعدن، رغم الألم، لا تزال تقاوم، وتُراهن على وعي أبنائها وإرادتهم الحرة. فلا الفقر سيكسرها، ولا الاحتلال سيدوم، ولها موعد مع البركان، الذي سيلفظ الغزاة والمحتلين، وأذيالهم.