في مشهد يعجز الوصف عن احتوائه، تخرج الجموع اليمنية في ساحات متعددة أسبوعيا ، رغم الجراح العميقة والحصار الخانق، لترسم معادلة جديدة في الوعي الشعبي والسياسي، وتؤكد أن بوصلتها ما تزال تسير بثبات نحو فلسطين.
هذه المسيرات المليونية لم تكن مجرد تظاهرات عابرة، بل تحمل في طياتها دلالات ورسائل عميقة على المستويين المحلي والدولي، تستدعي الوقوف أمامها وتأمل أبعادها.
السياق السياسي للمسيرات
1. السياق الداخلي: صمود يتجاوز الألم
رغم العدوان المستمر، والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الخانقة، فإن الشعب اليمني خرج بالملايين، متحديًا الجوع والوجع، ليؤكد أن انشغاله بالقضية الفلسطينية ليس ترفًا، بل التزام أخلاقي ومبدئي.
الرسالة هنا مزدوجة:
أ- : أن المعاناة لا تُضعف الإرادة الشعبية، ولا تصرفها عن واجبها الجهادي والإنساني.
ب ـ : أن التماسك المجتمعي خلف القيادة الثورية – وعلى رأسها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله – يعكس حجم الثقة الشعبية في خيارات المقاومة ورفض التطبيع.
2. السياق الإقليمي والدولي: صرخة في وجه التواطؤ
تأتي المسيرات اليمنية في ظل تواطؤ دولي فاضح مع الكيان الصهيوني، وصمت مطبق من المؤسسات الدولية إزاء الإبادة الجماعية في غزة، بالتوازي مع موجة تطبيع عربي رسمية.
وفي هذا المناخ، تُعيد الجماهير اليمنية التأكيد على:
- مركزية فلسطين في وعي الأمة.
- انحياز اليمن الأصيل إلى شعوب المنطقة لا إلى أنظمتها المطبّعة.
أبعاد الحراك الشعبي اليمني
1. البعد الرمزي: اليمن في قلب المعركة: لم تكن المسيرات فعلًا احتجاجيًا فحسب، بل رسالة رمزية تقول إن اليمن حاضر بقوة في "معركة الوعي"، وأن فلسطين لم تغب عن الضمير الشعبي رغم كل الجراح.
2. البعد التعبوي: استعداد شعبي للتصعيد: هذه الحشود لا تعبر فقط عن موقف، بل تعبّر عن أرضية تعبئة شاملة تدعم أي خطوات قادمة ضمن معادلة "توازن الردع" و"معركة الوعي"، في ظل تصريحات القيادة الثورية والسياسية التي تضع خيارات التصعيد على الطاولة.
3. البعد الشعبي التعبيري: التقاء القاعدة بالقمة: الجماهير خرجت طوعًا، دون تحفيز مادي أو ضغط سياسي، في مشهد قلّ نظيره. هذه الروح تعكس تطابقًا نادرًا بين الموقف الشعبي والرسمي في اليمن، وهو تطابق لم يتحقق في أي قطر عربي منذ بدء الصراع مع العدو الصهيوني عام 1948م.
رسائل المسيرات ودلالاتها العميقة
1. دلالة استمرارية الزخم: خيار لا لحظة: تواصل المسيرات أسبوعًا بعد آخر منذ بدء العدوان على غزة، يوضح أن دعم فلسطين في اليمن ليس موسميًا، بل خيار استراتيجي متجذّر في وجدان الشارع اليمني.
2. رسائل موجهة للداخل والخارج:
للداخل اليمني: الشعب ملتف حول خيار المقاومة، وعلى القوى السياسية أن تعي هذا التوجه وتتسق معه.
للعدو الصهيوني: غزة ليست وحدها، واليمن جاهز لتوسيع رقعة النار إذا استدعى الموقف.
للأنظمة المطبعة: المسيرات تمثل تعرية أخلاقية وسياسية لهذه الأنظمة، وتكشف التناقض الصارخ بين ضمير الشعوب وخطاب الحكام.
3. وحدة الجبهة اليمنية: فلسطين توحّدنا: رغم كل ما يعتري الداخل اليمني من تحديات، شكّلت فلسطين عامل توحيد نادرًا، وهو مكسب سياسي واجتماعي بالغ الدلالة لا ينبغي التفريط فيه.
خاتمة: اليمن... صوت الجرح والموقف
المسيرات المليونية في اليمن هي أكثر من تعبير عن التضامن مع غزة.
إنها تعبير عن نضج سياسي ووعي شعبي، وعن تموضع متقدم في خريطة الصراع مع الكيان الصهيوني. لقد أكد اليمن، قيادةً وشعبًا، أنه لا يكتفي بالشعارات، بل يتقدم الصفوف حين تتراجع الأنظمة، ويصنع التوازن حين يختلّ ميزان المواقف.
في زمن التهافت والتطبيع، يرتفع صوت اليمن ليقول: "لسنا على الهامش... نحن في القلب من المعركة".