كان صوته صدىً لأفعاله، وصرخاته ترجمةً لضرباته، وخطاباته استكمالًا لمشروعه الجهادي وتفصيلًا لصوابية خياراته الجهادية ومواقفه الإيمانية والإنسانية المشرفة؛ كانت براهينه ساطعةً، وحُجَجُه دامغةً، ورسائله واضحةً في جميع أبعادها ومستوياتها.

تجاوز منطق البدايات المتعثرة بالمحاولات بانطلاقته الإيمانية الزاخرة بفيوض الانتصارات وطوفان النجاحات، واستعصى على منطق النهايات المطوَّق بالغياب الأبدي بارتقائه في معراج الشهادة والخلود، حيًّا يرزق، سعيدًا مجيِّدًا، ناضرًا ومنتظرًا، مبشّرًا ومستبشرًا، وافر العطاء، باذخ التضحية.

ولم يكن وداعه لمحبيه وساكني قلبه إلّا تهيئةً لقلوبهم وتثبيتًا لأفئدتهم وسكينةً لأرواحهم؛ ولم يكن وداعًا مفارقًا بقدر ما كان وعدًا باللقاء وموعدًا للنصر من رجل هو صادق الوعد بلا شك.

هو بقيةٌ مما ترك محمد وآل محمد، خلف جدّه في أمّته، وجاهد أعداءه، وكسر فراعنة الزمان، وأذلّ طواغيت خيبر العصر، وأسقط منافقي الأعراب، وواجه أعتى طواغيت البشرية، مؤكّـدًا صوابية خيار الجهاد والمقاومة ومجسّدًا معاني الاستشهاد في سبيل الله والتضحية انتصارا لدين الله، انطلاقًا من يقينه الراسخ وإيمانه المطلق بحتمية الوعود الإلهية واقتراب النصر الموعود.

ثمانون طنًا من المتفجرات ذات القوة التدميرية الهائلة عكست كمّ الحقد والرعب والانتقام والتوحّش الصهيوني الأمريكي الكامن في قلوبهم وقلوب حلفائهم وعملائهم، لكن ذلك العدوان الوحشي العالمي الاستكباري السافر لم يحقّق للكيان الإسرائيلي ما حلم به من انهيار المقاومة باغتيال سيدها، ولم يحقّق لقوى الاستكبار العالمي ومنافقي الأعراب ما توهموه من النصر بعد إطفاء روح الجهاد والإسناد وانهيار السدّ المنيع أمام مشروع الاستباحة الصهيونية وأمام مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد.

كان شهيدنا الأقدس -شهيد الإسلام والإنسانية- وما زال وسيظل النموذج المتفرّد والقُدوة الأرقى والاستثناء الشاهق في مسيرته الجهادية والقيادية والإنسانية؛ حتى في استشهاده كان حالةً استثنائية أكبر من أن يستوعبها حضور أَو يطويها غياب، ولم يكن نبأ استشهاده إلّا بشارةً بإعلان فوزه العظيم وإنذارًا بخسران أعدائه وانفتاح باب زوالهم الحتمي.

فلم يهزم نصر الله، ولم يستسلم حزب الله، ولم تُمحَ المقاومة، ولم تُمسّ قدراتها، ولم ينضب معينها، ولم تسقط رايتها، ولم يهتز جمهورها وحاضنتها، رغم الاغتيالات المزلزلة الوحشية التي تعرّضت لها قيادةً وقادةً وجمهورًا؛ إلّا أنها ازدادت عنفوانًا وقوةً وهيأت نفسها لهذا الدور المستقبلي الأكبر في قيادة لبنان الكبير الحر المقاوم، خَاصَّة بعد سقوط قوى العمالة والارتهان على المستوى النخبوي وعلى المستوى الرسمي في مستنقع مفاوضات الخضوع والإذلال التي قادها الأمريكي الصهيوني "توم برَّاك" ممثّل المشروع الإسرائيلي الاستعماري، الذي قدّم إملاءاته إلى الرئاسة والحكومة اللبنانية بضرورة الانخراط في التبعية لـ (إسرائيل) وإعلان الحرب على حزب الله ونزع سلاحه الذي يقلق أمن الاحتلال، مُضيفًا أن (إسرائيل) لن تمنح أحدًا سلامًا ولن تخضع لقانون أَو حدود في ممارسة أطماعها وعربدتها.

هكذا أعلنها الصهيوني برَّاك المبعوث الأمريكي للمفاوضات في لبنان بكل جرأة ووقاحة وصلف، دون أدنى اعتبار لمقام الرئاسة والحكومة اللبنانية ودون مراعاة لأي نوع من الأعراف والتقاليد الدبلوماسية؛ وهو ما يضع الشعب اللبناني أولًا وشعوب المنطقة ثانيًا أمام مفترق طرق: إمّا الخضوع والاستسلام للمشروع الاستعماري والعربدة الصهيونية والسير نحو الإبادة والمحو طوعًا، أَو اختيار طريق المقاومة والسير على نهج سيدها المجاهد المقاوم والعمل على الانتصار لمشروع الحرية والكرامة والإيمان بحقيقة مقولته: "نحن لا نهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نستشهد ننتصر".