موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
قراءة تحليلية في تقرير لهيئة تحرير صحيفة "نيويورك تايمز"
في اعترافٍ نادرٍ وصريح صادرٍ من قلب المؤسسة الإعلامية الأميركية، خرجت هيئة تحرير صحيفة "نيويورك تايمز" عن صمتها لتكشف عن أزمة وجودية تضرب المؤسسة العسكرية الأميركية، مؤكدةً بالبنط العريض: "أميركا لا تستطيع صناعة ما يحتاجه جيشها". هذا الإقرار لا يأتي من فراغ، بل يتزامن مع تحولات ميدانية كبرى، كان للبحر الأحمر واليد اليمنية الطولى فيها الكلمة الفصل، حيث اصطدمت الترسانة الأميركية الضخمة بواقع ميداني كشف عن مثالب جمة ناجمة عن عجز صناعي ولوجستي متراكم، وتآكل في "هيبة الردع" التي طالما تغنت بها واشنطن على وقع انتشار قوتها البحرية في بحار العالم ومحيطاته.
يصف التقرير المطول -الذي نشرته "نيويورك تايمز"- الحالةَ الأمريكية بأنها انحدار متسارع نحو الهاوية، ففي ظل صعود الصين وتحديث ترسانتها، تقف الولايات المتحدة أمام انهيار لقدراتها التصنيعية. ولم يتردد وزير الحرب الأميركي، بيت هيغسيث، في توصيف الوضع بعبارات مأساوية، مخاطباً شركات السلاح: "إما أن تنجحوا أو نفشل، إنها مسألة حياة أو موت حرفياً".
ويعد هذا الذعر الأميركي –وفقاً للمراقبين– انعكاساً لصدمة واشنطن من الواقع الجديد؛ فالسفن التي كانت ترهب بها العالم باتت اليوم مشاريع متعثرة. وتضرب الصحيفة مثلاً بمشروع فرقاطات "كونستليشن" الذي ألغته البحرية الأميركية بعد خمس سنوات من التخبط، وبعد إنفاق 3,5 مليار دولار، دون أن يُنتج سفينة واحدة تبحر في الماء.
في سياق تحليل الصحيفة لـ"تآكل رصيد الردع"، لا يمكن للقارئ اليمني إلا أن يستحضر مشاهد المواجهة في البحر الأحمر، فبينما تتحدث "نيويورك تايمز" عن فشل برامج السفن وتأخر الإنتاج، كان الواقع العملي يثبت ذلك في مياهنا الإقليمية، و نتذكر في هذا السياق الكتابات والتحليلات التي واكبت الاشتباك الأخير بين اليمنيين والأمريكيين في البحر الأحمر والعربي وما شابها من انتقادات صدرت حتى من سلطات وجهات عليا داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، تنتقد بطء الاستجابة الأمريكية إثر الفشل في الذي ظهرت به القوة البحرية الأمريكية أثناء المواجهة مع اليمنيين.
لقد كشفت العمليات اليمنية المسانِدةُ لغزة عن العوز الأمريكي المدقع؛ إذ وجدت المدمرات الأمريكية نفسها تستنزف مخزونها من الصواريخ الباهظة (التي يستغرق إنتاجها سنوات) في مواجهة طائرات مسيّرة وصواريخ يمنية منخفضة التكلفة وعالية الفاعلية.
الصحيفة أشارت -ضمناً- إلى هذا النوع من المواجهات، مؤكدة أن "الأنظمة القتالية الرخيصة مثل المسيّرات والزوارق الانتحارية أثبتت تفوقها على الترسانة التقليدية الباهظة"، وهو ما يمثل إقراراً غير مباشر بانتصار التكتيك اليمني الذي جعل من أحدث السفن الأميركية "أهدافاً سهلة"، أو في أحسن الأحوال "قطعاً حديدية مستنزفة" تحتاج لسنوات لتعويض ذخائرها وصيانة هياكلها، وهو ما تعجز عنه الصناعة الأمريكية الحالية.
تعزو "نيويورك تايمز" هذا الشلل إلى الهيكلية الفاسدة للصناعة الدفاعية الأمريكية، فبعد أن كانت هناك 51 شركة دفاعية كبرى، تقلص العدد إلى 5 شركات فقط، منها (لوكهيد مارتن، بوينغ، رايثون)، تُعرف بـ"رؤوس الصناعة"
هذه الشركات -بحسب الصحيفة- تحولت إلى كيانات بيروقراطية مترهلة، بارعة في امتصاص أموال دافعي الضرائب الأمريكيين دون تقديم منتجات سريعة. وتشير البيانات إلى أن إنتاج طائرة أو سفينة بات يستغرق 12 عاماً في المتوسط! وهو زمن "انتحاري" في عصر الحروب الخاطفة.
وفي الوقت الذي يحتاج الميدان إلى مرونة وسرعة -كما يحدث في الجبهات الحديثة- يجد الجيش الأمريكي نفسه مكبلاً بسلاسل توريد منقطعة، ومصانع تفتقر لقطع الغيار، ما يجعل تعويض أي قطعة بحرية يتم استهدافها أو إعطابها في البحر الأحمر أمراً شبه مستحيل في المدى المنظور.
الخسارة أمام الصين وأزمة العمالة
تضع الصحيفة يدها على الجرح الغائر، مشيرة إلى أن هذا العجز يضع واشنطن أمام "تخلف استراتيجي" أمام الصين، التي تمتلك اليوم أكبر قوة بحرية في العالم، وتنتج السفن بوتيرة لا تحلم بها أمريكا.
وتعود الصحيفة بالتاريخ إلى حقبة "رونالد ريغان" لتؤكد أن انهيار قطاع السفن الأمريكي هو نتاج عقود من السياسات الفاشلة، واليوم تحتاج الصناعة الأمريكية إلى 140 ألف عامل جديد خلال العقد القادم فقط لتلبية الطلب على الغواصات، وهو رقم خيالي في ظل عزوف الأمريكيين عن العمل الصناعي وتدني الأجور.
تختتم "نيويورك تايمز" تقريرها بدعوات يائسة لتفعيل "قانون الإنتاج الدفاعي"، وضخ المليارات، لكن ما أغفلته الصحيفة، أو ألمحت إليه بخجل، هو أن المال لا يشتري "الهيبة" التي سقطت.
إن ما كشفته الصحيفة الأمريكية اليوم على الورق هو توثيقٌ متأخر لما كشفته القوات المسلحة اليمنية بالنار والحديد في البحر، فالعجز الأمريكي ليس مجرد نقص في العمال أو المواد، بل هو عجز في العقيدة القتالية، وفي القدرة على مجاراة قوى صاعدة امتلكت الإرادة وطوعت التكنولوجيا لكسر شوكة الاستكبار.
أمريكا اليوم -باعتراف صحيفتها الأولى- عملاقٌ عسكري يترنح، يمتلك خزائن الأموال لكنه يفتقد للمخالب الحقيقية التي تمكِّنه من البقاء في عالم لم يعد يخضع لسطوته المطلقة.