موقع أنصارالله . تقرير |يحيى الشامي


لم تكن معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023 مجرد خرق أمني وعسكري وُصف بالأضخم في تاريخ الكيان الصهيوني، بقدر ما مثّلت زلزالاً نفسياً وبنيوياً ضرب أسس "مجتمع كيان العدو". وبعد مرور أكثر من عامين على المواجهة، بدأت تتكشف الحقائق المروعة حول حجم الدمار "غير المرئي" الذي خلفته المعركة في صفوف المغتصبين وجنود العدو على حد سواء، ووفقاً لتقارير مراكز أبحاث ومؤسسات طبية تابعة للعدو، فإن الصدمة النفسية باتت تشكل "قنبلة موقوتة" تهدد بانهيار رأس المال البشري وشلّ القوى العاملة لسنوات طويلة قادمة.

يكشف تقرير صادم صادر عن مركز "ناتال" التابع للعدو الإسرائيلي (وهو منظمة مختصة بعلاج الصدمات) أن التكلفة الاقتصادية للاضطرابات النفسية الناجمة عن الحرب ستبلغ نحو 500 مليار شيكل (حوالي 160 مليار دولار) خلال السنوات الخمس المقبلة، وهي فاتورة لا تتعلق بالإنفاق العسكري المباشر، بل بتآكل الإنتاجية، وارتفاع معدّلات المرض، والعنف، والإدمان، وتراجع قدرة مئات الآلاف على العودة إلى سوق العمل.

ويؤكد التقرير أن الجزء الأكبر من هذه الخسائر يتجسد في "تآكل رأس المال البشري"، حيث بات الكثير من العاملين في الفئة العمرية (25-38 عاماً) -التي تُعد عصب الاقتصاد التكنولوجي والهندسي لدى العدو- غير قادرين على العمل بكفاءة، أو هجروا تخصصاتهم عالية القيمة نتيجة الإنهاك النفسي التام.

وباء "اضطراب ما بعد الصدمة"

تشير المعطيات التي أوردتها صحفية "مايان هوفمان" نقلاً عن مصادر طبية داخل كيان العدو إلى أن المجتمع يواجه قفزة غير مسبوقة في معدّلات "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD)، حيث يُتوقع أن تعاني نسبة تصل إلى 30% من السكان من آثار نفسية حادة، وهي نسبة تفوق بكثير المتوسط العالمي.

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 600 ألف صهيوني سيعانون من آثار تعيق قدرتهم على التعلم أو العمل، مع تزايد مقلق في أمراض القلب والسكتات الدماغية المرتبطة بالإجهاد، فضلاً عن ارتفاع حاد في العنف الأسري وحوادث الطرق القاتلة، وتعاطي المهدئات والأفيونات للهروب من واقع "الخوف الدائم".

 وعلى صعيد المؤسسة العسكرية، يبرز مصطلح "متلازمة غزة" لوصف الانهيار المعنوي بين جنود جيش العدو، ويؤكد المحلل الإسرائيلي "إفرايم غانور" أن صرخات عشرات الآلاف من الجنود المصابين نفسياً ستكون أشد وطأة من أصوات القصف.

ويعزو خبراء لدى العدو هذا الانهيار إلى طبيعة "حرب العصابات" التي خاضتها المقاومة الفلسطينية؛ حيث يواجه جنود جيش العدو "عدواً غير مرئي" يخرج من الأنفاق ويفاجئهم في قلب المناطق السكنية. هذا النوع من القتال أدى إلى:

اعتراف رسمي: تم الاعتراف بآلاف الجنود كمعاقين نفسياً، بينما لا يزال أكثر من 10 آلاف جندي يتلقون علاجاً دورياً من ردود الفعل العقلية العنيفة.

ظاهرة الانتحار: سُجلت 45 حالة انتحار بين صفوف جنود العدو منذ بدء الحرب، وهو رقم يثير قلقاً بالغاً داخل سلطات العدو العسكرية.

الرفض النفسي للقتال: برزت حالات لجنود من "لواء ناحال" رفضوا العودة للقتال في غزة بسبب التجارب النفسية القاسية، وسط تخبط سلطات العدو في التعامل معهم بين "العقاب" أو "العلاج".

انحدار أخلاقي وشهادات مروعة

ضمن سلسلة وثائقية بعنوان "متلازمة غزة"، أدلى جنود من جيش العدو بشهادات صادمة؛ حيث اعترف أحدهم بأنه "يتبول في ثيابه ليلاً"، بينما أكد آخرون عجزهم عن النوم دون تعاطي الكحول بكميات كبيرة، كما كشفت الأخصائية النفسية "أشيرا درويش" أن ممارسة جنود العدو للإبادة الجماعية وحرق البيوت في غزة -رغم أنه يتم ببرمجة عسكرية- يترك أثراً نفسياً مدمراً على المدى الطويل، مشيرة إلى "انحدار أخلاقي" هائل يترافق مع حالات إدمان واسعة.

كما وضعت تداعيات "طوفان الأقصى" سلطات العدو أمام مأزق وجودي أدى إلى تغيير ما تعرف بنظرية "العقد الاجتماعي"، فبدلاً من "الدولة الليبرالية" التي كان يسوّق لها الكيان، يتجه المجتمع الإسرائيلي نحو نموذج "الدولة الأمنية" المتطرفة.

حيث تتغلغل الصهيونية الدينية استغل اليمين الصهيوني بزعامة "إيتمار بن غفير" وسلطات العدو السياسية حالة الصدمة لفرض الهوية الدينية القومية كمعيار وحيد لـ"المواطَنة"، ما عمّق الفجوة أكثر مع أصحاب الأرض الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48.

بالإضافة إلى انهيار الثقة فقد كشفت استطلاعات معهد دراسات الأمن القومي لدى العدو أن 63% من المغتصبين الصهاينة فقدوا الثقة في حكومتهم، بينما يعيش 51% منهم في خوف دائم من تكرار أحداث 7 أكتوبر على حدود أخرى.

وفي ما يمكن توصيفه  بالولاء المشروط بدأت سلطات العدو بدراسة قوانين تفرض "الولاء للدولة اليهودية" كشرط للحصول على الحقوق المدنية، ما يعزز نظام الفصل العنصري أو ما يعرف بـ"الأبارتهايد"، ويجعل من الأمن القيمة العليا التي تبرر قمع الحريات وتهميش المعارضين.

جرحٌ مفتوح في قلب الكيان

تقرير مركز "ناتال" وشهادات الجنود ودراسات الخبراء، جميعها تشير إلى حقيقة واحدة أن معركة "طوفان الأقصى" كانت أكبر من جولة عسكرية انتهت بوقف إطلاق نار أو انسحاب، إلى حقيقة أنها "إصابة بنيوية" في العقل والجسد الصهيوني، فكلفةُ الصدمة النفسية التي دفعها العدو الإسرائيلي ستظل تثقل كاهل اقتصادِهِ ونسيجه الاجتماعي لعقود، ما يثبت أن "الردع" الذي حاول جيش العدو بناءه لسنوات قد تحطم تحت أقدام مجاهدي المقاومة الفلسطينية، ليحل محله "وباء صامت" من الخوف والارتباك الوجودي على طريق الزوال المنتظر.