لم تعد غزة مجرد جغرافيا تقاتل عن كرامة الأمة وحسب، بل تحولت إلى مرآة كاشفة لعالمٍ يدّعي الحضارة، بينما يغضّ الطرف عن جريمة إبادة جماعية ترتكب أمام أعين الجميع.

العدو الإسرائيلي يستهدف ويقتل كل شيء في غزة، حيث يستهدف الحجر والبشر ومخيمات النازحين والمستشفيات والأطباء وفرق الإطفاء وطواقم الصحافة، وينفذ جرائمه في غزة على الهواء مباشرة، وعلى مرأى ومسمع العالم الظالم والمنحاز للعدو الإسرائيلي، وبدعم أمريكي لا محدود، وتواطؤ عربي رسمي مخز وبائس، وكأن أرواح الفلسطينيين بلا قيمة تُذكر.

وزارة الصحة في قطاع غزة، أكدت أن مستشفيات القطاع تعاملت مع 94 شهيدا، بينهم 7 شهداء “انتشال”، و252 إصابة خلال الـ 24 ساعة الماضية، لترتفع حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس الماضي إلى (7.750) شهيداً، و(27,566)إصابة، كما ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 58,573 شهيدًا 139,607 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م. أما إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات فارتفع إلى 851 شهيدا وأكثر من 5,634 إصابة.

مدير مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة، الدكتور محمد أبو سلمية، قال إن مستشفى الخدمة العامة قد توقف عن العمل بشكل كامل، محذرًا من أن مستشفيي "الشفاء" و"الحلو" مهددان بالتوقف خلال ساعات. وأضاف أن مئات الجرحى والمرضى يواجهون خطرًا حقيقيًا في ظل انهيار ما تبقى من النظام الصحي في القطاع، على وقع الإغلاق المتسارع للمستشفيات.

وطالب مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سليمة بإغلاق مراكز توزيع المساعدات، لأنها تحولت إلى مصائد موت في غزة، مؤكدًا أن المنظومة الطبية باتت عاجزة عن تقديم الخدمة للمرضى والجوعى في القطاع، وهو جزء آخر من أشكال الموت، حيث استشهد 21 فلسطينيا منهم 15 بينهم أطفال وكبار السن، اختنقوا نتيجة إطلاق غازات على مجوعين بمركز توزيع المساعدات جنوب خان يونس جنوبي قطاع غزة.

 

حتى الأجنة في بطون أمهاتهم لم يسلموا

في غسق ظلمة يسكنها صوت الرصاص وانفجارات القصف، تتكشف مآسٍ حقيقية لا تُروى إلا بشهاداتٍ من رحم المعاناة. في وسط هذه الكارثة الإنسانية، تتشبث أمهاتٌ وأُسر بآمالٍ يائسة، يحاصرها اليأس، وتختلط فيها دموع الأطفال مع أصوات الاستغاثة التي لا تجد صدى.

 الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في قطاع غزة، يكشف عن جانبٍ آخر من هذه الحرب القذرة، مؤكداً أن الاستهداف لم يعد يقتصر على البيوت فحسب، بل طال الأرحام واغتال الحياة قبل أن تبدأ.

ففي منشورٍ له على منصة "إكس"، أكد البرش أن البيانات الصادرة عن الجهات الصحية الرسمية خلال النصف الأول من عام 2025 تكشف عن حجم الكارثة التي تواجه الأمهات والمواليد الجدد. مؤكدًا أن الحرب تجاوزت كل الخطوط، “حتى باتت الأجنة والرضع أهدافًا غير مرئية في ساحة الإبادة والتطهير العرقي ومحو النسل الفلسطيني”.

خلال الأشهر الماضية، سجلت المستشفيات مآسٍ لا تخطر على بال. هناك، حيث تتوقف الحياة قبل أن تبدأ، شهد القطاع 2,600 حالة إجهاض، أي ما يعادل 15.3% من مجمل حالات الحمل، نتيجة الضغوط النفسية والجسدية الهائلة، التي تفرضها ظروف القصف المستمر والحصار القاسي، مع غياب الرعاية الصحية الأساسية.

وفي مشهدٍ محزن، فقدت 220 امرأة حامل حياة أطفالهن أثناء الحمل أو قبل الولادة، وسط نقصٍ حاد في الغذاء والدواء، وأحلامٍ معلقة على أمل أن تنجو حياتهن ليشاهدن أبناءهن يعانقون الدنيا.

 وتتكرر مأساة الأطفال الذين يولدون باكين ويموتون بعد ساعاتٍ قليلة، إذ سجلت مستشفيات غزة خلال النصف الأول من العام الجاري 21 حالة وفاة في اليوم الأول بعد الولادة، وُلدوا في بيئةٍ لا تصلح للحياة، محرومين من أبسط حقوقهم في الرضاعة والنمو، بينما تتضاعف حالات التشوهات الخلقية، والتي بلغت 67 حالة بنسبة تشوه (0.39%).، نتيجة التلوث وسوء التغذية، وما خلفته الحرب من أضرار صحية آنية ومستقبلية على الأجيال القادمة.

أما عن الأطفال الرضع، فأكد الدكتور منير البرش أن هناك 2,535 طفلاً يعانون من أمراض ومشكلات صحية أدت إلى دخولهم حضاناتٍ تعاني من نقص الكوادر والإمدادات بنسبة تصل إلى (14.91%)، في بلدٍ تُهدم ملامح مستقبله يوميًا. والأمر الذي يزيد الألم مرارة، هو أن 1,600 طفل في غزة وُلدوا بوزنٍ أقل من الطبيعي (9.41%).، بسبب سوء التغذية الذي أصاب الأمهات، وذاق الكثير منهم مرارة عدم اكتمال النمو، حيث سجلت 1,460 حالة ولادة مبكرة قبل موعدهم الطبيعي، بنسبة 8.59% وفي ظل جو من الخوف والدمار، ما يهدد حياتهم ويضاعف من معاناة أُسرهم.

 

سوء التغذية يفتك بأطفال غزة

على صعيد متصل، حذرت "الأونروا" من أن الأطفال الخدج في غزة يولدون بتغيرات جينية غير مسبوقة، في إشارة إلى عمق الكارثة الصحية التي يواجهها القطاع.

وفي شهادةٍ داميةٍ على الوضع المتردي، أكدت "الأونروا" أن طفلاً واحداً من كل عشرة أطفال -يتم فحصهم في عياداتها بقطاع غزة- يعاني من سوء التغذية.

هذا التصريح جاء ليُسلط الضوء على واقعٍ مريرٍ، حيث وصل عدد الأطفال الذين قضوا نحبهم بسبب سوء التغذية إلى 67 طفلاً حتى السبت الماضي، بحسب مصادر طبية في القطاع. وما يزيد الطين بلة أن أكثر من 650 طفلاً دون الخامسة يواجهون خطراً حقيقياً ومباشراً من سوء التغذية الحاد في الأسابيع المقبلة، من بين 1.1 مليون طفل يعيشون في هذا السجن الكبير.

وتشير البيانات إلى أن أكثر من 70 ألف طفل في غزة يعانون من سوء التغذية، وأن الوضع لم يسبق له مثيل، حيث باتت المستشفيات تعاني من نقص حاد في الأدوية، وسط مشاهد مؤلمة لأسر تتضور جوعًا، وأطفال يُسحبون من بطون أمهاتهم، يموتون أو يُتركون لمصير مجهول، في ظل حصار خانق لا يفرق بين الأطفال والبالغين.

وفي مشهدٍ مأساوي، استشهد 15 مواطناً، من بينهم الطبيب الاستشاري أحمد قنديل، أحد أبرز كوادر مستشفى المعمداني، جراء قصف استهدف تجمعاً للمدنيين وسط مدينة غزة. وزارة الصحة الفلسطينية في غزة نعت الشهيد قنديل، مؤكدةً أنه كان من أعمدة الكادر الطبي في القطاع، وتفانى في خدمة الجرحى والمرضى رغم ظروف الحرب والحصار.

ويُعد الدكتور أحمد قنديل من أكفأ استشاريي الجراحة العامة في غزة، وتميز بمهنية عالية وإنسانية لافتة، وكان مصدر إلهام للأجيال الطبية الشابة، بحسب شهادات زملائه.

 

العطش سلاح آخر لجرائم الإبادة الصامتة

يُواصل العدو الإسرائيلي شن حرب تعطيش ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث يستخدم الماء كسلاح حرب جماعي لإبادة السكان. المكتب الإعلامي الحكومي أكد أن العدو استهدف 112 مصدراً لتعبئة المياه العذبة، مرتكباً مجازر بحق مئات المدنيين في طوابير تعبئة المياه، أحصى منهم 700 شهيد، معظمهم من الأطفال. مجزرة المخيم الجديد شمال غرب مخيم النصيرات كانت آخر فصول هذه الجرائم، حيث راح ضحيتها 12 شهيداً بينهم 8 أطفال.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعمد العدو تدمير 720 بئر مياه وإخراجها عن الخدمة، ما حرم أكثر من مليون وربع المليون إنسان من الوصول إلى المياه النظيفة.

وفي سياق متصل، أشار الإعلام الحكومي إلى أنَّ العدو منع إدخال 12 مليون لتر من الوقود شهرياً، وهي الكمية اللازمة لتشغيل الحد الأدنى من آبار المياه، ومحطات الصرف الصحي، وآليات جمع النفايات، وباقي القطاعات الحيوية.

وبلغت الأزمة ذروتها مع إعلان بلديات محافظة الوسطى في قطاع غزة عن التوقف التام لجميع خدماتها الأساسية، نتيجة الانقطاع الكامل لإمدادات الوقود. هذا الشلل يطال تشغيل آبار المياه، ومحطات الصرف الصحي، وآليات جمع وترحيل النفايات، والمعدات الثقيلة لإزالة الركام وفتح الطرق.

وفي بيانها، أعربت البلديات عن قلقها العميق من استمرار انقطاع مياه محطة "ميكروت"، أحد المصادر الرئيسة لتغذية المحافظة، منذ 23 يناير الماضي، ما فاقم من الأزمة المائية، وزاد من التهديدات الصحية والبيئية، خاصة مع تزايد أعداد النازحين، وعدم قدرة الطواقم على التدخل أو التخفيف من المعاناة.

أما الخط الأحمر الآخر، فقد كان انقطاع خط الكهرباء الذي يغذي محطة تحلية مياه البحر جنوب دير البلح منذ 9 مارس 2025، ما أدى إلى توقف كبير في إنتاج مياه الشرب.

تعنت العدو الإسرائيلي في منع إدخال الوقود، رغم المناشدات المحلية والدولية، أدى إلى تفاقم الأزمة بشكل غير مسبوق، خاصة مع استمرار انقطاع مياه "ميكروت" منذ 23 يناير 2025، وانقطاع خط الكهرباء المغذي لمحطة تحلية مياه البحر المركزية جنوب دير البلح منذ 9 مارس 2025. هذه الإجراءات زادت من تفاقم أزمة المياه، ورفعت مستوى التهديدات البيئية، وزاد من معاناة السكان مع تدهور الوضع الصحي، خاصة مع دخول فصل الصيف.

هذه مشاهد من مقاطع حيّة، تحكي وجع أهل القطاع، قبل أن تتآكل أحلامهم، وتختصر حياة أطفالهم في لحظات من الألم، بينما العالم يقف مكتوف الأيدي أمام الكارثة التي تتزايد كل يوم، وتكون نتائجها مأساوية، ليس فقط للأفراد، بل لأجيال بأكملها، لا تعرف شيئًا عن مستقبلهم، إلا أن الموت يلاحقهم في كل زاوية، في الوقت الذي يهدد فيه الحصار والمنع بتدمير آخر رمق في نسيج حياة غزة.