يطفو على سطح المشهد الجيوسياسي سؤالٌ ملحٌّ، يتردّد صداه في أروقة السياسة العالمية كلما تصاعدت حدة التوتر بين إيران وكيان العدوّ الإسرائيلي: لماذا تصرّ إيران على رفض مسار التفاوض؟

هذا التساؤل لم يعد حكرًا على العواصم الكبرى، بل انضم إلى جوقة الأصوات الدولية الداعية للحوار منظمات إسلامية مرموقة في إندونيسيا، على رأسها مجلس العلماء الإندونيسي (MUI) والهيئة العليا لنهضة العلماء (PBNU).

غير أن الغوصَ في الأعماق التحليلية للموقف الإيراني يكشفُ عن بنية منطقية مغايرة تمامًا؛ فمن منظور استراتيجي متجذر في تاريخها وهُويتها، لا يمثل التفاوض تحت ضغط النار مسارًا للخلاص، بل هو فصل أخير يُكتب في مسرحية الهيمنة.. إن كُـلّ دعوة للحوار في خضم العدوان لا تُقرأ كفرصة للسلام، بل كإقرار بالهزيمة يُطلَبُ توقيعَه قبل انتهاء المعركة.

 

الدبلوماسية كأدَاة للهيمنة: العدسة الواقعية

بالاستناد إلى العدسة الواقعية الصارمة التي يقدمها جون ميرشايمر في مرجعه "مأساة سياسات القوى العظمى"، فَــإنَّ القوى العظمى مدفوعة بغريزة الهيمنة في نظام دولي فوضوي. وعليه، فَــإنَّ الدبلوماسية ليست حمامةَ سلام تُحلّق في سماء مثالية، بل هي أدَاة قوة مصقولة، تُستخدَمُ لترجمةِ التفوق العسكري إلى مكاسبَ سياسيةٍ دائمة. بهذا المعنى، فَــإنَّ الدعواتِ الأمريكيةَ للتفاوض، المتزامنة مع أقصى درجات الضغط، لا يمكن قراءتُها إلا كمناورة تهدفُ إلى تحقيق نصر سياسي يكلل الضغط العسكري.

وهنا يكمُنُ جوهرُ الرفض الإيراني: فالمفاوضاتُ في هذا السياق ليست عمليةً تفاعليةً بين نِدِّين، بل طقس سياسي يهدفُ إلى إضفاء الشرعية على واقع فرضه العنف. ورفضها يصبح شكلًا من أشكال المقاومة الصامتة، ليس ضد الحوار كمبدأ، بل ضد توظيفه كآلية لتكريس الهيمنة.

 

الكرامة الوطنية والنموذج الحُسَيني: منطق الهُوية والمعنى

على صعيد آخر، يُقدّم المنظور البنائي، كما بلوره ألكسندر ويندت، فهمًا أعمقَ. فسلوكُ الدولة ليس مُجَـرّد انعكاس لحسابات مادية، بل هو تجسيدٌ لهُويتها وقيمها. بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي قامت على سردية "مناهضة الاستكبار"، فَــإنَّ التفاوُضَ من موقع ضَعف يُعَدُّ مساسًا جوهريًّا بهذه الهُوية. فتتحول المقاومةُ من مُجَـرّدِ خِيارٍ استراتيجيٍّ إلى ضرورة وجودية وأخلاقية.

وهنا، تُستحضَرُ بقوة رمزيةُ كربلاء، لا كحادثةٍ تاريخية، بل كنموذج معياري أبدي في التُّراث الشيعي. فالإمام الحسين يمثل أيقونة الكرامة التي تفضِّلُ الشهادة على حياة في ظل بيعة مذلة. استلهام هذا النموذج يجعل من رفض إيران للدبلوماسية تحت القصف تكرارًا رمزيًّا لمبدأ "هيهاتَ منا الذلةُ"، حَيثُ تسمو كرامة الأُمَّــة على أي سلام يُفرض بشروط المنتصر.

 

الدبلوماسية كاستعمار ناعم: النقد ما بعد الكولونيالي

يُضيف النقد ما بعد الكولونيالي بُعدًا ثالثًا لهذه القراءة. فكما أوضح إدوارد سعيد، فَــإنَّ المنظومة الغربية أنتجت تاريخيًّا خطابًا يضع "الشرق" في موضع التابع الذي يحتاج إلى توجيه. ويذهب حميد دبّاشي إلى أبعد من ذلك، مُشيرًا إلى أن أدوات الحداثة، ومنها الدبلوماسية، قد تتحول إلى آليات "للتأديب الرمزي" واستمرار للاستعمار بوسائلَ ناعمة.

من هذا المنظور، تُعتبر الدعوة إلى التفاوض في ظل ظروف غير متكافئة محاولةً لفرض "إذعان طوعي"، حَيثُ يُدعى الطرف الأضعف للمشاركة في عملية تؤدي إلى تكريس دونيته. فالرفض هنا ليس موجهًا ضد السلام كمفهوم، بل ضد السلام كأدَاة لإدامة علاقات القوة غير المتكافئة.

 

الانتصار الرمزي والهزيمة المزدوجة: ميزان القوة والكرامة

في عالم السياسة، حَيثُ للرمز سطوتُه، تصبح المفاوضاُت في ظل العدوان فرصةً لتحقيق "نصر مزدوج" للطرف المعتدي: انتصار عسكري في الميدان، يليه انتصار سياسي بإجبار الخصم على الجلوس إلى طاولة تعترف بتفوقه. وفي المقابل، فَــإنَّ قبولَ الطرف المعتدى عليه بالتفاوض في هذه الظروف يمثل "هزيمة مزدوجة": هزيمة مادية على الأرض، تتلوها هزيمة رمزية ومعنوية.

إن شرطَ "النُّضج التفاوضي" (ripeness) الذي تحدث عنه ويليام زارتمان، والذي يستلزمُ وصولَ الطرفين إلى "مأزِقٍ مؤلم متبادل"، هو شرطٌ غائبٌ كليًّا. فالعروض المطروحة لا تنبع من مأزِق، بل من موقع قوة. وكما يلمح ريتشارد نِد ليبو، قد تُستخدم الدبلوماسية كستار أخيرٍ يُسدل على سردية المنتصر، لا كباب يُفتَحُ على مصالحةٍ عادلة.

 

خاتمة: نحو توازن الكرامة في العلاقات الدولية

في المحصلة، يتجاوزُ الموقفُ الإيراني كونه مُجَـرّدَ تكتيك سياسي عابر، ليصبح تعبيرًا عن رؤية فلسفية عميقة للعلاقة بين القوة والعدالة والكرامة. إنه تذكيرٌ بأن السلامَ الحقيقي لا يولد من رحم الخوف، ولا يُفرَضُ بوهج النيران، ولا يُكتَبُ بحبر الإذعان.

إن السلامَ الذي لا يقومُ على أَسَاس الندية والاحترام المتبادَل ليس إلا هُدنةً مؤقتةً تسبقُ جولةً جديدةً من الصراع. وهذا ما يضعُ على عاتقِ الضمير العالمي مهمةَ إعادة التفكير في ماهية الحوار الدولي؛ لكي لا يكونَ مُجَـرَّدَ توازُنٍ للقوى، بل توازنًا للكرامة.

* كاتب وصحفي إندونيسي