مؤتمر وارسو: بين التهديد التكتيكي والفرصة الاستراتيجية
موقع أنصار الله || صحافة عربية ودولية || الوقت التحليلي
لم يكن مؤتمر وارسو وليد الصدفة، بل جاء بعد أشهر من رفع بعض العرب لمستوى التطبيع تحت شعارات ثقافية ورياضية وغيرها.
الخطوة الجريئة في مؤتمر وارسو تتمثّل في إخراج هذا التطبيع من السرّ إلى العلن، ومحاولة خلق أعداء جدد للعرب على شاكلة “المحافظين الجدد”، العثمانيون الجدد” تحت شعار “الأعداء الجدد”.
لا يعدّ مؤتمر وارسو هدفاً بحدّ ذاته، بل يعدّ وسيلة لتحقيق الهدف الأبرز المرتبط أي صفقة القرن التي يدير تفاصيلها صهر الرئيس ترامب “كوشنير”.
يبدو أنّ هناك من يراهن على نجاح هذا المؤتمر، إلا أن الوقائع تشي بالعكس تماماً فما حصل في مؤتمرات أصدقاء سوريا التي كانت تديرها واشنطن أعظم مما نشاهده اليوم بأضعاف مضاعفة، بل حتّى الدولة التي استضافت المؤتمر دخلت في أزمة مع هذا الكيان بسبب اتهامها بمعاداة الساميّة الأمر الذي أدّى إلى أزمة دبلوماسيّة بين البلدين.
لا ينفصل مؤتمر وارسو عن واقع الشرق الأوسط غير المستقرّ، والذي يبدو أنّه يخضع لعمليات إعادة هيكلة وتشكيل عقب الأزمات الكبرى.
هناك من يسعى لإيجاد تغييرات جذرية في شكل التحالفات وتوزان القوة بين الدول الرئيسية في المنطقة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط التي ترتبط بالقضيّة الفلسطينية، نذكر منها:
أوّلاً: الهدف الرئيسي من المؤتمر هو التطبيع مع “إسرائيل” علناً وذلك من خلال محاولات الحشد على المقاومة بعد فشلهم في حروب لبنان وغزّة.
إن التقارير الاستخبارية ووثائق ويكليكس تؤكد علاقة العديد من الدول مع الكيان الإسرائيلي ووجود تنسيق سياسي وعسكري منذ سنوات، وبالتالي ما يحصل اليوم هو خروج هذا التنسيق من الظل إلى العلن.
إن هذا المؤتمر الهزيل يهدف لشطب القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمتين العربية والإسلامية، وخلق تقسيمات جديدة في الشرق الأوسط تفضي إلى ما تحدّث عنه أفيغدور ليبرمان: “إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشكل ضوءاً في نهاية النفق هو سلام إقليمي يشمل علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة فوق الطاولة وليس تحتها مع دول الخليج وغيرها”.
ثانياً: بعيداً عن حجم الاختراق الذي تعرّض له العرب في هذا المؤتمر، وبصرف النظر عن أهداف نتنياهو الانتخابيّة، ترتبط النتيجة الأساسيّة لهذا المؤتمر، ومن خلفه صفقة القرن، بالشعب الفلسطيني قبل أي طرف آخر، لست أعني هنا غياب دور الشعوب العربية، ولكن الشعب الفلسطيني هو رأس الحربة في هذه المواجهة، هذا الأمر قد تجلّى بسرعة في مواجهات الأقصى وتصدّي المرابطين والمصلين لقوات الاحتلال، الأمر الذي يؤكد إصرار الشعب الفلسطيني على مواجهة كل محاولات تقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً.
إن العبث بالمسجد الأقصى هو عبث بالهوية الإسلاميّة، وصحيح أن ما يفعله الشعب الفلسطيني اليوم هو دفاع عن أرضه، إلا أنه في الوقت عينه دفاع عن الهوية الإسلاميّة.
ثالثاً: بعد الفلسطينيين، تلعب الشعوب العربية دوراً رئيساً في إفشال صفقة القرن، وبالتالي لا بدّ لهم من التأكيد على مواقفهم الداعمة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي أمام الحملة الدعائية التي تقودها الأذرع الإعلاميّة لبعض الأنظمة الخليجية.
إن مواقف الشعوب تبدو ثابتة في مناهضة كل أشكال التطبيع وتحت أيّ ذريعة، سواء أكان هذا التطبيع من قبل دولة واحدة أم عدة دول عربية.
إذًن، يتوجّب على الشعوب العربية الإعداد لمعركة مواجهة التطبيع من أجل الحفاظ على فلسطين.
رابعاً: إن تجربة الأنظمة المطبّعة تؤكد بقاء أفعالهم في إطار الخيانة رغم الفترة الطويلة التي مرّت على هذا الأمر.
هناك مواقف شعبية ثابتة برفض أي تطبيع مع الكيان الصهيوني مهما كان موقف الأنظمة ومهما بلغ، وقد عكس هاشتاغ “خليجيون ضد التطبيع” هذا الموقف، هنا لا بدّ من الإشارة إلى وجود جيوش إلكترونية في السعودية والبحرين تعمل لتعزيز وقف التطبيع. بطبيعة الحال، هذه الأفعال لا تمثّل الشارع العربي، بل تمثلّ الأنظمة لا أكثر.
بدت لافتةً ردود الأفعال اليمنية من كل الأطياف على جلوس وزير خارجية حكومة هادي قرب نتنياهو في وارسو، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على وعي هذا الشعب.
خامساً: على جميع الجمعيات الأهلية والنخب، العمل على توعية الشارع العربي حول هذه المسألة، وكل أنواع وأشكال التطبيع. تكفي الإشارة إلى أن أعمال التطبيع المخزية قبل أيام قد شجّعت الكيان الإسرائيلي على مزيد من البطش بحق المسجد الأقصى المبارك، قبلة العرب والمسلمين الأولى.
وبالتالي ما نحتاجه اليوم من الشعوب العربية والإسلامية هو إظهار العاطفة تجاه القضية الفلسطينية والقدس الشريف، والعمل الجاد على مواجهة كل محاولات الاختراق الإسرائيلي لأمتنا.
هناك من يرى في هذا المؤتمر تهديداً، نعم هو كذلك، إلا أنّه في الوقت عينه فرصة كبيرة أسقطت جميع الأقنعة وأوراق التوت التي كانت تواري سوءات الأنظمة العربية.
يخطئ من يراهن على قرار الأنظمة دون قرار الشعوب، ولعلّ الأنظمة التي لم تجرفها سيول “الربيع العربي” في العقد الماضي ستكون على موعد مع سيول “ربيع الأقصى” الذي سيزيلها ويعيد فلسطيني إلى أهلها.
صحيح أن مؤتمر وارسو هو لحظة فاصلة بين مرحلتين في حياة المنطقة، وهو تهديد بحقّ، لكنّه فرصة استراتيجيّة، لأنه سمّى الأمور بمسمياتها راميً الكرة في ملعب الشعوب بعد أن كانت في أيدي الأنظمة.