مفهوم السلطة السياسية في الإسلام (2)

|| تقارير || إعداد. أحمد يحيى الديلمي

 يُبيِّن الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي “رضوان الله عليه” أن القرآن الكريم يُعطي فهماً للسلطة في الإسلام بأن ولاية أمر الأُمَّة ليست مُجرَّد سلطةً تنفيذيةً قاسيةً، وأوامر ونواهي جافة، بل هي ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة، ويُشير إلى أنه يحصل تساؤلات كثيرة حول السلطة السياسية في الإسلام، إذّ يُبيِّن أن هذه التساؤلات غير صحيحة من أصلها؛ لأنَّه لا يوجد في واقع النَّاس فصلاً ما بين السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتربية، وأن ذلك جاء عندما برز في الحياة نوعية من الحُكّام الذين تزعَّموا البشر في مختلف مراحل التاريخ، ولا يمتلكون أيَّة رؤية صحيحة فيما يتعلق بالرعاية، والتربية، والتثقيف وغيرها، وأنهم لا يمتلكون إلَّا القهر، والسلطة، والأوامر، والنواهي، حيث يقول في الدرس (الثالث والعشرون من دروس شهر رمضان، سورة المائدة): “هنا يعطينا فهماً بالنسبة للولاية في الإسلام، عندما نقول: السلطة في الإسلام كيف هي؟ عندما تعود إلى القرآن الكريم ترى في سور كثيرة، في آيات كثيرة، وعندما تعود أيضاً إلى واقع الحياة، تتأمل في السماوات والأرض وما بينهما من خلق الله تجد أن ولاية الله سبحانه وتعالى هي ولاية رحمة، ولاية رعاية، ولاية تربية، ليست مجرد سلطة هكذا، سلطة قاسية، أوامر ونواهي فقط، ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة. عندما تأتي إلى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) وتتعرف عليه من خلال القرآن الكريم، ومن خلال ما نعلمه من سيرته (صلوات الله عليه وعلى آله) تجد أيضا أنه كان يجسد هذه الولاية {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128). عندما تأتي إلى ولاية الإمام علي نفس الشيء.

إذاً فهذا هو مفهوم الولاية في الإسلام، وهذه هي مهام الولاية في الإسلام، ليست فقط سلطة تنفيذية، سلطة أوامر ونواهي جافة، وتجبر وتسلط وقهر، وأشياء من هذه… أبداً؛ لأنه فعلاً يحصل تساؤلات كثيرة حول النظام السياسي في الإسلام، أو حول السلطة السياسية في الإسلام، وأشياء من هذه، هو أساساً السؤال من أصله غير صحيح؛ لأنه في واقع الناس ليس هناك فصل ما بين سياسة، واقتصاد، واجتماع، وثقافة، وتربية، ورعاية، وأشياء من هذه، ليس هناك فصل فيما بينها. من أين جاء ترسيخ السلطة وكأنها فقط ما نسميها: سلطة سياسية فقط، سلطة تنفيذية لأوامر ونواهي وتسلط فقط؟!.

إنما جاءت عندما برز في الحياة هذه النوعية فعلاً، وعندما كان من يتزعمون البشر في مختلف مراحل التاريخ من النوعية التي لا تمتلك أي رؤية أخرى، ولا قدرة أخرى فيما يتعلق بالرعاية، والتربية، والتثقيف وغيرها، لا يمتلكون شيئاً، لا يمتلك إلا القهر والسلطة، أمر ونهي وسجن وقتل ونفي ومصادرة، وأشياء من هذه، هذا عمل يستطيع أي واحد يعمله، أليس أي واحد يستطيع أن يعمله؟ لا يحتاج حتى إلى حنكة سياسية – كما يقولون –”.

ويُؤكِّد الشهيد القائد أن السلطة في الإسلام هي أرقى بكثير ممَّا عليه واقع البشر، وأن ولاية من يلي أمر الأُمَّة هي امتداد لولاية الله، بحيث يجب أن يكون عنده رحمة، وأن يمتلك معرفة في كيف يُربي الأُمَّة، ويطوِّر حياتها، ويُنَّمي اقتصادها، إضافة إلى كيف يواجه أعداءها، وأن هذه الصفات هي أبرز الأشياء بالنسبة للرسول “صلوات الله عليه وآله”، والإمام علي “عليه السلام”، وكانت بارزةً بالنسبة لشخصيتهم كأولياء لأمر الأُمَّة، يقول: “إذاً الولاية في الإسلام، السلطة في الإسلام هي أرقى بكثير مما عليه واقع البشر، أرقى بكثير في مهام من يلي أمر الأمة. تجد أنه عندما تتأمل ولاية الله سبحانه وتعالى لشؤون عباده فولاية من يلي أمر الأمة هي امتداد لولاية الله، يجب أن يكون عنده رحمة، يجب أن يكون عارفاً كيف يربي الأمة، يجب أن يكون عارفاً كيف يبني الأمة، كيف يطور حياتها، كيف ينمي اقتصادها، كيف يزكي أنفسها، كيف يواجه أعداءها، أشياء واسعة جداً، جداً.”

تجد هذه ألم تكن هي أبرز الأشياء بالنسبة للرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) والإمام علي؟ ما الذي كان بارزاً بالنسبة لشخصيتهم كأولياء لأمر الأمة؟ هل كان البارز موضوع التسلط والقهر، أو هذا الجانب الآخر، جانب الرعاية والتعليم والتزكية؟ {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}(البقرة من الآية: 129) جانب تربيتهم؛ لينشئوا أمة على مستوى عالي، هذه المهمة هي التي كانت بارزة في شخصية الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في ممارساته وسلوكه مع الناس الذين هو أولى بهم من أنفسهم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(الأحزاب: من الآية: 6) ولهذا قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}(التوبة من الآية: 128) يعز عليه ويؤلمه أي مشقة تلحقكم، هذه صفة هامة جداً {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي مشقة تلحقكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} بكل ما تعنيه الكلمة، حريص عليكم بأن تنشؤوا أمة مستقيمة، بأن تكونوا أمة قوية، بأن تنشؤوا رجالاً حكماء، أصحاب نفوس زاكية، أصحاب نفوس عالية، حريص ألا يلحقكم أي ضر مهما كان {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

إذاً عندما ترجع تتصفح القرآن الكريم بالنسبة لله سبحانه وتعالى أليس هذا ظاهراً، وليس فقط نقول: ملموس، ظاهر من خلال القرآن الكريم مظاهر رحمته، رأفته، رعايته، أنه فعلاً بالنسبة لعباده هم محط عناية كبيرة جداً تساوي {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} ما نمتلك عبارة بالنسبة لله نقول: هكذا، لكن مثلما قرأنا في الآية السابقة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ}(المائدة من الآية: 33) وكثير من الآيات غيرها، هذه الجوانب الهامة جداً هي الجوانب التي يحتاج إليها الناس، وهذه هي الجوانب التي لا يمكن أطرف الناس أن يعملها، أما الجانب الآخر فبإمكان أي شخص يفوز بانتخابات، أو بانقلاب عسكري، أو عن طريق وراثة، أو بأي طريقة كان فيصل إلى الحكم، ويمارس الحكم، ويجلس ولو أربعين سنة، ولكن هل تجد له أثراً في تربية الأمة، رعايتها، تنشئتها، بناءها بناءً صحيحاً، لا تجد إلا العكس.

إذاً فقبل أن نتساءل عن ما هو النظام السياسي في الإسلام كنظام هيكلية الدولة، اسأل عن مهام الدولة في الإسلام، مهام السلطة في الإسلام ما هي؟ هي هذه، وليس فقط: هل هو شخص واحد، أو مؤسسات؟ هل عن طريق انتخابات، أو عن طريق اختيار، أو عن طريق شورى أو.. أو.. إلى آخره، في المقدمة ما هي مهام الدولة في الإسلام؟“.

ويُشير الشهيد القائد إلى أن الإمام علي “عليه السلام” ترك تراثاً هاماً جداً في نهج البلاغة فيمَّا يتعلق بالوعي السياسي للناس، مثل عهده إلى مالك الأشتر، حيث يقول: “…عندما تقرأ في نهج البلاغة تجد كيف ترك حتى فيما يتعلق بالوعي السياسي للناس، ترك تراثاً هاماً جداً، مثل عهده إلى مالك الأشتر، تجد نصوص خطبه وتوجيهاته – مع أنه قد يكون فقط قليل، ما وصل إلينا في نهج البلاغة قليل – كيف هو فعلاً عمل الإنسان الذي يفهم السلطة في الإسلام ما هي، يفهم الدين من حيث هو بالنسبة للإنسان ما هو دوره، أن الله كرم الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء من الآية: 70) فيجب أن يكون الحكم للناس بالشكل الذي يسمو بهم، يكون متناسباً مع تكريم الله لهم، وليس بالشكل الذي يحطهم، ويقهرهم، ويذل نفسياتهم؛ ولهذا أصبح جانب كبير من المسؤولية على نفس الأمة، على نفس الناس؛ لأن القضية هنا إضافة إلى خبرة إدارية، وخبرة تربوية، وتوجيهية بالنسبة لمن يلي أمرها لازم بالنسبة لها هي أن يكون لديها وعي، هو أن تعرف بأن من الأفضل لك أن تعيش في سلطة فيها مثل الإمام علي (صلوات الله عليه) لا تخاف أنه يمكن أن يظلمك، لا تخاف أنه بمجرد وشاية معينة إليه يمكن أن يسجنك، أو يقتلك، لا تخاف أن جواسيسه بعدك أينما ذهبت، لا تلمس أي خوف في نفسك، ولا أي شعور بقهر وإذلال ممن يحكمك، أليس هذا الذي يتناسب مع كرامة الإنسان؟“.

 ويُضيف أن الكثير من حكام العرب قد حكموا الأمَّة بسياسة القهر والتسلط لهذا وأن التسلط على الناس يكون له أثر سيئ جداً جداً؛ ذلك لأنه يؤدي إلى قهر أنفس النَّاس، فيضعفون في مواجهة العدو، وكذلك يضعفون عن حمل الرسالة العظيمة هذه التي أوكلت إليهم، حيث يقول: “لاحظ الآن عندما حكم العرب الكثير من حكامهم، الكثير منهم بسياسة القهر والتسلط، أنت هنا ضربت الأمة، لم تعد هذه الأمة صالحة لأن تدافع عن نفسها، ألفت القهر، ألفت الإذلال، ضعفت نفوسها، انهارت معنوياتها؛ لهذا يكون هناك أثر سيئ جداً، جداً للتسلط على الناس؛ لأنه يؤدي إلى قهر أنفسهم فيضعفون في مواجهة العدو، ويضعفون عن حمل الرسالة العظيمة هذه التي أوكلت إليهم.

هذه القضية من أهم الأشياء، حتى نعرف هل للإسلام رؤية سياسية – كما يقولون – هل الإسلام فيه ولاية أمر، أو ليس فيه شيء؟ كيف نظرة الإسلام إلى هذه القضايا التي يتكالب عليها الناس، ويتسابق عليها الانتهازيون؟ لا يمكن أن تفهم القضية إلا أن تبدأ من عند الله سبحانه وتعالى فتعرف وهو يقول عن نفسه بأنه الملك، ألم يقل بأنه ملك؟ انظر إلى كيف ملكه هو، كيف ملكه، هل هو ملك تسلط وقهر وجبروت، أو ملك رعاية وتربية؟ وفي الأخير – فعلاً – لمن لا ينفع معهم أي شيء يضربهم، أليس هذا الذي نلمسه في القرآن بالنسبة لله سبحانه وتعالى؟“.

وفي خضمِّ ذلك، يُجدِّد الشهيد القائد التأكيد أن ولاية رسول الله، والذين آمنوا، هي امتداد لولاية الله سبحانه وتعالى، إذ يقول: “انظر إلى ولاية الله سبحانه وتعالى لأمر عباده، واعرف أن ولايته هنا عن طريق رسوله، أو الذين آمنوا، إنما هي امتداد لولايته، ويجب إذا لم تكن على هذا النحو، فليست امتداداً لولايته، إذا لم يكن من يلي أمر الأمة يتعامل مع الناس بالشكل الذي يلمسه من خلال مظاهر ملك الله، مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى على عباده، معنى هذا ماذا؟ أنه لا يعتبر امتداداً لولاية الله أبداً، هو مفصول عن الله، وسيترك آثاراً سيئة في نفوس الناس، وفي واقع الحياة. حصل الخطأ الكبير حتى عندنا نحن الزيدية، عند الزيود، ما بالك بالآخرين الذين جعلوها جائزة، من قفز على كتف، وعلى كاهل هذه الأمة تجب طاعته، وإن قصم ظهرها، وإن لعب بأموالها، وإن داسها، تجب طاعته! أيضاً قدموا عندهم الفكرة هذه: ما هي ولاية الأمر؟ قالوا في الأخير هي: [رئاسة عامة] يجيش جيوشاً، ويعين ولاة، ويعزل ولاة، ويقيم حدوداً، ويستلم زكاة، وانتهى الموضوع.

القضية أوسع من هذا بكثير، وإذا لم نفهم المسألة على هذا النحو، معنى هذا أننا جاهلون فعلاً بالله، وجاهلون بمثل هذه الآية نفسها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} وليكم، أليست بعبارة مفردة {الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} أي بالتأكيد أن ولاية رسوله وولاية الذين آمنوا – الذي هو الإمام علي ومن كان كمثل الإمام علي – تعتبر امتداداً لولاية الله، هنا ستعرف أهمية ولاية الأمر في الإسلام بالنسبة للأمة، وأهميتها بالنسبة للدين، وأهميتها بالنسبة لإقامة الدين، ليست القضية هل يجوز أن يكون من هؤلاء، أو هل يجوز أن يكون بشورى، أو يكون بانتخابات، أو أن يقفز بانقلاب عسكري، أو بأي طريقة كانت، ليست القضية حول هذا، هل يكون واحداً، أو عشرة، أو عشرين أو.. إن الإسلام لديه رؤية – إذا صحت العبارة – أن يحكم الأمة بكلها، البشر بكلهم، قدم رؤية أرقى رؤية لحكم العالم بكله فضلاً عن إقليم من الأقاليم“.

وفي ضوء ما سبق، فإنَّ المُتأمل للواقع المزرى والمُهين الذي تعيشه هذه الأُمَّة يجد أنه لم يكن هناك أي رهان على الأنظمة والزعامات العربية في النهوض بالأُمَّة، بل اتجهت تلك الأنظمة والزعامات صوب خيار العمالة والمُشاركة في تنفيذ المشـاريع الاستعمارية على هذه الأُمَّة الذي يستهدفها في كل تفاصيل شؤونها المُختلفة، وأمام هذا الواقع المزرى والمُهين وفي ظلِّ هيمنة قوى الاستكبار العالمي على الأُمَّة؛ فقد أصبحت هذه الأُمَّة مستُضعفة وتائهة في كافة مجالات حياتها.

 وفي خضمِّ ذلك، فقد تجلى في واقع هذه الأُمَّة، قول رسول الله “صلوات الله عليه وآله”: (أهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض)، حيث كان الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي “رضوان الله عليه”، ومن بعده السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يحفظه الله” نعمة عظيمة، أنعم الله بها على هذه الأُمَّة، وأعطاهم المؤهلات اللازمة، للقيام بدورٍ عظيمٍ، وتحمل مسؤولية كبيرة، تجاه هذه الأُمَّة، التي تمر بمرحلةٍ خطيرةٍ جداً، تبحث فيها على عزتها المفقودة، وكرامتها المسلوبة، حيث نجد الحرص الشديد للشهيد القائد “رضوان الله عليه”، ومن بعده قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يحفظه الله”، على بناء هذه الأُمَّة، البناء القوي، بحيث تكون قادرةً على مواجهة أعدائها المُتربصين بها بالشكل المطلوب، وهذا ما يترجم عظمة القيادة التي اختارها الله عزَّ وجلّ، أعلاماً للهُدى لهذه الأُمَّة، وأوكل إليها تحمل المسؤولية الكبيرة في هذه المرحلة الحساسة، والمفصلية التي تمر بها الأُمَّة.

     

      

قد يعجبك ايضا