الصيام يربينا على التقوى ويعلِّمنا تحدّي الأهواء والأنانيات
شهر رمضان المبارك محطة تربوية سنوية تساعد على تزكية النفس وتكامل الإيمان وبناء حالة التقوى في الإنسان، شهر عظيم عظمه الله سبحانه وتعالى ومنَّ به على عباده المؤمنين عوناً لهم على إصلاح أنفسهم، على تزكية أنفسهم، على بناء وتكامل إيمانهم..
شهر رمضان فرصة مهمة جداً، يهيأ للإنسان فيه أن يعود إلى الله بعون كبير من الله سبحانه وتعالى، يهيأ للإنسان فيه تزكية النفس والتخلص من أشياء كثيرة مما قد علق بنفسية الإنسان من مساوئ الأخلاق، من آثار الذنوب ونتائجها، يهيأ للإنسان فيه بناء علاقته مع الله سبحانه وتعالى، وتنمية إيمانه بالله العظيم إيماناً صحيحاً قوياً.
لعلكم تتقون
لقد فرض الله الصيام على الغني والفقير على حد سواء لأن له غايةٌ كبرى، ذات أهمية كبيرة جداً هي التقوى، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183) يوجه الله سبحانه وتعالى نداءه وتوجيهه وأمره في هذه الآية المباركة إلى عباده المؤمنين {الَّذِينَ آَمَنُوا} بحكم انتمائهم للإيمان الذي يترتب عليه الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، وتنفيذ أوامره، والالتزام بتوجيهاته{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(البقرة:183) فريضة مكتوبة، محتومة، وواجبة، وهي كانت فريضةً سابقةً على الأمم السابقة من قبلنا {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183)
والتقوى تعني الحفظ والوقاية. وعندما تستعمل هذه الكلمة بخصوص الإنسان في المجال الأخلاقي والتربوي، فهي تعني: حفظه، والتحكّم بنفسه، وإدارة شؤونه، وجعل سلوكه وممارساته في المسار العقلي.
إنّ الهدف الأساس للتقوى، هو تأهيل الإنسان ليكون مديراً لنفسه، ومسيطراً على نزواته وأهوائه النفسانيّة، ومبعداً عن نفسه كلّ ما هو غير منطقي وغيرعقلي، ومنجزاً ما يليق بإنسانيته…
كما أنها تعني السيطرة على النفس وتولّي شؤونها ذاتياً، والإنسان المتّقي يراقب سلوكه، لا خوفاً من الآخرين، ولا خوفاً من القانون، بل لأنّه يعرف أنّ عليه أن يعمل بصورة منطقيّة معقولة.
وقد شرع الله الصوم فريضة تختزن تحويل الانسان إلى عبد متق مبتعد عن شهواته واهوائه فشهر رمضان محطَّة هيّأها الله في كلِّ سنة لبلوغ الإنسان التّقوى، الَّتي من ثمارها عفوه وغفرانه والحصول على عطائه وفضله، هذا العطاء الَّذي لا يفوقه عطاء، ويكفي أنَّ الأنفاس فيه تتحوَّل إلى عبادة وتسبيح، وأنَّ الدّعاء فيه مستجاب، والعمل مقبول. كما أنَّ أجر المسلم يتضاعف أضعافاً كثيرة، فضلاً عن أنَّ أبواب الجنان تكون مفتَّحة في هذا الشَّهر، وأبواب النّيران مغلقة، فهي إذاً فرصة للإنسان حتّى يتزوَّد من نعيم هذا الشّهر بما يحتاج إليه في حياته، ليصبح أقرب إلى الله، وأكثر قدرةً على الحصول على موقع مميَّز عنده تعالى.
فرصة لتزكية النفس والسمو بها
شهر رمضان فرصة لتزكية النفس، ولربما الكثير من الناس من يواجه عوائق في الفترة الأخرى ما قبل شهر رمضان وما بعد شهر رمضان، قد يتهيأ له فرصة لتزكية النفس في شهر رمضان، لا تتهيأ له في أي موسم أخر أو زمن أخر خلال مدة العام بكله.
في صيام شهر رمضان نتعلم أن نسيطر على أنفسنا، أن نمنعها مما تهوى وترغب، نمنعها عن الطعام في النهار وهي ترغب فيه حتى وإن جعنا، نمنعها عن الشراب عن الماء وعن أي مشروبات من العصير وما شابه، كل المشروبات الحلال نمنعها منها حتى وإن كانت ظامئة، وإن كانت راغبة، نمنعها من كل شهواتها من كل ما هو ممنوع على الصائم حتى وإن رغبت.
هنا نتعلم قوة العزم والإرادة والسيطرة على النفس والتطويع لها فيما يرضي الله، حسب توجيهات الله، حسب أوامر الله، نعود أنفسنا أن نركعها لله، أن نخضعها لله، أن نجعلها حتى فيما يخالف هواها، فيما يخالف رغبتها، تطيع الله وتستجيب له وتلتزم أمره، وهذا يهيئ الإنسان في المسائل الأخرى في غير الصيام، في الأعمال والواجبات والمسئوليات الأخرى، أن يستجيب لله، أن يطوع نفسه على الاستجابة لله حتى وإن كان هناك ما يخالف هوى نفسه، أو يخالف رغبات نفسه.
فصيام شهر رمضان بمثابة دورة تربوية نتعلم منها قوة الإرادة وقوة العزم وقوة التصميم من أجل الله, وتحمل المشاق والسيطرة على الرغبات والشهوات والنوازع النفسية والرغبات القلبية, فهي مدرسة مهمة نتخرج منها ونحن أكثر عزماً أكثر تحملاً، نتعلم منها الصبر من أجل الله, الصبر على أي حالة نفسية تواجه رغباتك وشهواتك تصبر على الجوع, تصبر على العطش, تصبر على متاعب الصيام وأجوائه إلى ما هناك
النفس الإنسانية عرضة للتأثر, كل منا هو عرضة للتأثر في واقع الحياة, التأثر السيئ. الدنيا ميدان مفتوح فيها الكثير من المؤثرات, وفيها الشياطين, وفيها هوى النفس الأمارة بالسوء, فيها عوامل التأثير من خلال الرغبات, ومن خلال المخاوف, ومن خلال الغضب, وكل العوامل النفسية. وما يواجه الإنسان في ميدان الحياة يترك أثراً على نفسه, ومع الوقت, ومع كثرة الأمور والمؤثرات والمتغيرات تتأثر نفس الإنسان شيئاً فشيئاً؛ فتخبو جذوة الإيمان من مشاعره, من قلبه, ويتقلص اندفاعه ويقل تحركه, وإذا به يشعر بالفتور, يشعر بقلة الاندفاع, يشعر أحياناً بالإحباط, يشعر أحياناً بالملل, فتؤثر حالة الغفلة وحالة النسيان؛ ليكون المؤثر على الإنسان في واقع حياته والمتحكم بها.
لذا فإن التربية الإيمانية على تقوى الله سبحانه وتعالى التي هي من أهم غايات الصيام تجعل الإنسان يحمل دائماً الشعور بالحذر واليقظة والاهتمام, يتعامل مع الله بجد, ويتعامل مع الله بمسؤولية, يتعامل مع الله سبحانه وتعالى بعيداً عن التهاون, بعيداً عن الإهمال, بعيداً عن اللامبالاة, يستشعر عظمة الله, يدرك أن الله يعاقب, أنه حينما يتجاهل أو يتهاون أو يهمل أو يقصر فإن الله رقيب عليه ولن يفلت من عقاب الله سبحانه وتعالى, وأن الله يحصي عليه كل عمله, وكل أقواله, وكل تصرفاته, هو في حالة من الرقابة الدائمة, لا يفلت أبداً عن رقابة الله, ولا عن حسابه
شهر توبة وإنابة ويقظة روحية
رمضان المبارك هو شهر الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، شهر التوبة والغفران, من أهم ما يطلبه الإنسان ويسعى إليه وينشده من الله سبحانه وتعالى، أن يطلب من الله المغفرة, فيتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالإنابة الصادقة، والتوبة النصوح، سائلاً الله أن يغفر له ذنوبه، وأن يُقيل عثرته، وأن يتجاوز عن سيئاته. محاضرة التوبة
شهر رمضان، هو من تلك الفرص العظيمة التي يتهيأ لك فيها العودة الصادقة الجادة إلى الله سبحانه وتعالى، ومراجعة الواقع، والتوبة والإنابة، والاعتذار إلى الله عن كل تقصير، عن كل ذنب، عن كل إثم، اعتذر إلى الله، عد إليه بشعور بالندم، بوعي بخطورة الذنب والتقصير وما يمثله من إساءة إلى الله سبحانه وتعالى، وجحود لنعمته، وكفر لنعمته، وإساءة إليه إلى فضله. أنت لم تقدر الله، لم تقدر نعمة الله عليك، لم تقدر الله حق قدره، ولم تقدر نعمته عليك ورعايته بك، ولم تقدر واقعك كعبد يحرص على أن يكون عبداً صالحاً مستقيماً، يحرص على أن تكون حياته وواقعه متطابقاً مع مسئوليته في الحياة وما يحقق له رضا الله سبحانه وتعالى.
كما أن شهر رمضان المبارك يساعد الإنسان على اليقظة الروحية والنزوع من حالة الغفلة من خلال رجوعه إلى الله وشعوره بالقرب منه وما يتخلله من التفاف إلى القرآن الكريم إلى جانب الإحسان والعطاء
موسم للبذل والعطاء والتكافل الاجتماعي
في شهر رمضان تتنوع أعمال الخير والبر والتي هي مهمة جداً ومن أعظمها وأهمها الإحسان إلى الناس (أتقوا النار ولو بشق تمرة)، يحرص الإنسان على البذل والعطاء والإنفاق والتعاون مع الفقراء والمحتاجين بقدر ما يستطيع، حتى من ليس عنده إمكانيات كبيرة، من ظروفه صعبة لو أستطاع أن يقدم تمرة يقدم تمرة، لو أستطاع أن يحسن بشيء مهما كان قليلاً لا يتحرج، بقدر حالته، بقدر ظروفه؛ لأنه هكذا المتقين{الَّذِين َيُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء}(آل عمران:134)،{وَالضَّرَّاء} حتى ولو كانت ظروفه صعبة ينفق يعطي يحسن يبذل يقدم؛ لأن هذا من أعظم الأعمال التي لها وزنها ولها فضلها ولها عظيم الأجر وحسن العاقبة. فمسألة مهمة جداً يحرص الإنسان عليها في شهر رمضان.أما لو افترضنا أن إنساناً يبخل، يبخل عن الإنفاق، قصير اليد ليس عنده عطاء ولا بذل، فقد لا يقبل الله منه كل أعماله، لا صيام ولا قيام ولا أي عمل.
من الفوائد الأخرى لهذا الشهر الكريم، أنه شهر المواساة، شهرٌ ينخلع فيه الإنسان من ضغط الأنانية، الأنانية فيما كان الإنسان لا يفكر إلا في نفسه، ولا تهمه إلا نفسه، ولا يحرص إلا على ما يوفره لنفسه، نتعلم المواساة والإيثار، والبذل والعطاء والإحسان، لنربي أنفسنا على الإحسان، لنربي أنفسنا على العطاء، لنربي أنفسنا على المعروف حتى نخرج من حالة الحرص، وحتى نخرج من حالة الشح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر:9)،
ولربما تساعد الإنسان حالة الجوع التي شعر بها في صيامه، وحالة الظمأ، وحالة الحاجة التي شعر بها أثناء الصيام إلى أن يحس بأوجاع الآخرين، بظروفهم، بمعاناتهم، بجوعهم، بحاجتهم، وبالتالي ومع الأجواء الإيمانية وأجواء الخير والعبادة، وبركة هذا الشهر الملموسة، قد يوفق الإنسان لأن يواسي الآخرين، يبذل لهم من المعروف ما يبتغي به رضى الله، ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى، ما يريد به أن يتقرب إلى الله، ليقيه من عذابه، ليدفع عن نفسه العذاب والشقاء.
شهر رحمة ومحبة
في واقع الحياة في شهر رمضان البعض يكون عنده نظرة مغلوطة وفهم سيء لشهر رمضان وللصيام، يتصور أن شهر رمضان يلزم منه أن يكون متجهماً انفعالياً شديد الغضب وشديد الانفعال، فعندما يذهب إلى السوق أو هو في سيارته يبدو دائماً في حالة من الاستياء والسخط والانفعال الشديد، يتكلم على هذا، يسخط على هذا، يصادم هذا، يدخل في مشكلة مع ذاك، لا. الصيام ليس هكذا، ولم يرد له أن يكون هكذا.
صيام موسم رحمة، موسم ألفة، موسم محبة، موسم خير، يصحح الإنسان علاقته مع الله ومع عباد الله، ويحاول أن يكون متواضعاً منيباً ملتزماً، لا يعمل ما يحبط صيامه ويحبط قيامه ويخسر به الأجر والفضل عند الله سبحانه وتعالى.
فشهر رمضان ثورة على (النفس)… إذ إن الإنسان من دون (تقوى الله) يعظُمُ عنده (حب الأنا) وتدور حياته واهتماماته وأحاديثه حولها: إعجاباً وزُهوّاً وافتخاراً واستئثاراً، فتَصيرُ ذاتُه محور حياته… ونفسُه مُرتَكز تفكيره… ويرفض من ينصحه… ولا يقبل انتقاد من ينتقده… شديد الإعجاب بنفسه… يقرِّب المعجبين به وممتدحيه… ويباعد منتقديه وناصحيه ولو لخيره! وإذا فهمنا مقاصد الصيام وأهدافَ العديد من العبادات في رمضان فسنجد أنها من أجل أن تربي فينا الإحسان والشعور بالآخرين والتألم لآلام المحرومين والجائعين, ومن أجل أن نثور على (الأنا) ونجاهد (حظوظ النفس) وما أروع تعبير (هضم النفس) في تراثنا التربوي، ونربي أنفسنا على التواضع وعلى الاهتمامات الكبرى وعلى الفرح للآخرين وقد روي أن أحب الأعمال إلى الله: «سرورٌ تدخله على قلب مسلم: تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دَيْناً، أو تطرد عنه جوعاً…» وكلها من ميادين الإحسان إلى إخواننا المؤمنين في شهر رمضان… شهر الخير والبِرّ والإحسان.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاستثمار هذا الشهر المبارك، واغتنام هذا الشهر وأن يوفقنا للأعمال الصالحة وأن يتقبل منا الصيام والقيام ويكتب لشهدائنا الرحمة ولجرحانا الشفاء ولمجاهدينا النصر..