موقع أنصار الله . تقرير | صادق البهكلي

نعيش هذه الأيام ذكرى عاشوراء الأليمة، العاشر من محرم الحرام، التي لا تزال تُشكل جرحًا غائرًا في وجدان الأمة الإسلامية، وصرخة مدوية في ضمير الإنسانية. إنها ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام، سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في واقعة كربلاء الخالدة، التي لم تكن مجرد حادثة تاريخية عابرة، بل كانت ولا تزال منارة تهدي الأجيال إلى قيم الحق والعدل والتضحية في مواجهة الباطل والطغيان.

لقد جسّد الإمام الحسين عليه السلام بثورته الخالدة أسمى معاني الصمود والإباء، فكان خروجه من أجل إصلاح أمة جده، آمرًا بالمعروف وناهياً عن المنكر، رافضًا المساومة على كرامة الأمة وحقها في العيش بكرامة وعدل. لم يكن الحسين طالبَ سلطة أو جاه، بل كان حاملًا لرسالة، وموقفه في كربلاء كان امتدادًا لنهج النبوة في مقاومة الظلم والانحراف.

لم يتردد الإمام في تقديم أعز ما يملك؛ أهله، وأصحابه، وحتى نفسه، ليبقى الإسلام حيًّا نابضًا بالمبادئ، لا بالشعارات. واليوم، بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، لا تزال تلك الدماء الزكية تُلهم الأحرار في كل زمان ومكان، وتُوقظ ضمير الإنسانية من سباتها، لترى في عاشوراء مدرسة متجددة للوعي، والثبات، والتضحية.

إن كربلاء ليست ذكرى ماضية، بل هي حاضر مستمر، نعيش تمثلاته في صمود الشعب الفلسطيني، ومقاومة شعوبنا لكل أشكال الطغيان والاستعمار. وكما قال الإمام الحسين عليه السلام: "هيهات منا الذلة"، فإن هذا الشعار لا يزال يتردد في وجدان المقاومين اليوم، من غزة إلى لبنان، ومن اليمن إلى العراق وسوريا، حيث تتجسد كربلاء في الميدان، وتُعاد الواقعة بصور جديدة، لكن بروح الحسين نفسها، وروح الحق التي لا تموت.

في هذا التقرير، نستعرض سيرة الإمام الحسين، ودلالات إحياء هذه الذكرى العظيمة، مستلهمين منها الدروس والعبر لمواجهة تحديات عصرنا الراهن، الذي تتكرر فيه صور الظلم والفساد، وتبقى فيه كربلاء صرخة متجددة في فلسطين، التي تمثل اليوم أيقونة المظلومية والمعركة الفاصلة بين الحق والباطل.

من مهد النبوة إلى ساحة الشهادة

وُلد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في المدينة المنورة، في الثالث من شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة، في بيتٍ هو مهبط الوحي ومصدر الرسالة. استقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفرح عظيم، وحنّكه، وأذّن في أذنه اليمنى، وسمّاه "حُسينًا"، وشبّ على يديه، وتربى في حجره، وتشرب من قلب النبوة الرحمة والهداية والنور.

كان الإمام الحسين عليه السلام سبط رسول الله وريحانته، ومن قال فيه النبي: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً». وكان يتلقى من جده الكريم الدروس العملية في الإيمان، والصدق، والكرامة، والاستقامة، ما جعله منذ طفولته يحمل روحية القيادة والتضحية.

نشأ في كنف أبيه أمير المؤمنين، وأمه الزهراء البتول سيدة نساء العالمين، وبصحبة أخيه الحسن وأهل البيت، فتشكلت في وجدانه كل معاني الطهر، وارتسمت في شخصيته صفات القادة المصلحين. لم يكن الحسين عليه السلام مجرد شخصية دينية أو تاريخية، بل كان حاملًا لواء الحق، ومجسدًا لروح الإسلام الأصيلة في وجه الانحراف، وقائدًا نهضويًا لا يعرف المساومة على الدين والمبدأ.

 عاشوراء: الجرح المفتوح في جسد الأمة

إن ذكرى عاشوراء ليست مجرد مناسبة نُحييها في كل عام بالبكاء والرثاء، بل هي عنوان لفاجعة كبرى هزّت وجدان الأمة، وأعادت تعريف مفاهيم التضحية والكرامة والثبات على الحق. استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء لم يكن حادثة عابرة، بل كان نداءً مدويًا في التاريخ الإنساني، يدعو كل الأحرار للوقوف في وجه الطغيان.

إن نهضة الحسين كانت صدمة كبرى، لأنها كشفت مستوى الانحدار والانحراف الذي وصلت إليه الأمة بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين آل الحكم إلى الطغاة الذين داسوا على قيم الإسلام، واستباحوا المقدسات، واستعبدوا الناس، وأعادوا الجاهلية في صورة جديدة. وهنا جاءت كربلاء كفيصلٍ بين نهجين: نهج الإيمان الأصيل ونهج الانحراف.

 لماذا نحيي عاشوراء؟

إن إحياء ذكرى عاشوراء ليس طقسًا شعائريًا فقط، بل هو موقف ومبدأ وانتماء. نحن نُحييها لأن فيها امتدادًا لرسالة محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، ووفاءً لسبطه وفلذة كبده، وتجديدًا للعهد مع خط الهداية المحمدية، وتمسكًا بالإسلام العظيم، وثباتًا على النهج القويم.

* صلة وصل بين الأمة وماضيها ومستقبلها: كانت واقعة كربلاء حدثًا عظيمًا ومأساويًا، له أهمية كبرى في تصحيح مسار حاضر الأمة ورسم ملامح مستقبلها. كلمات الإمام الحسين: "ما خرجت أشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لإصلاح أمة جدي" تلخص جوهر هذه النهضة.

* نبوءة إلهية يحققها التاريخ: تحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الفاجعة قبل وقوعها بوقت طويل، لما لها من أثر على الرسالة والإسلام، ولكونها تمس رمزًا عظيمًا من رموز الإسلام. بكاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الإمام الحسين في محطات متعددة بعد نزول الوحي باستشهاده، يدل على عظم هذه الحادثة وما تمثله من امتداد للإسلام الأصيل ومظلوميته.

* تعبير عن الولاء والإيمان والقضية العادلة: إحياؤنا لهذه الذكرى تعبير عن ولائنا لسيد الشهداء، وإيمان بموقفه الحق وقضيته العادلة المقدسة. هو أيضًا إدراك لأهمية الحسين عليه السلام في الهداية والقيادة والقدوة، وتأكيد على عظم النكبة التي حلت بالأمة بفقدان عظماء كالحسين.

* دعوة لدراسة الأسباب لا مجرد النتائج: يجب أن ننظر إلى أسباب هذه المأساة بالنظر إلى بدايات الانحراف، فالشهيد القائد يؤكد: "لا ننظر إلى فاجعة كربلاء أنها وليدة يومها.. إذا لم ننظر دائماً إلى البدايات، ننظر إلى بدايات الانحراف، ننظر إلى الأسباب الأولى."

الجذور العميقة للمأساة: كيف وصلنا إلى كربلاء؟

إن واقعة كربلاء لم تكن وليدة يومها، بل هي نتاج لانحراف سياسي وديني بدأ عقب وفاة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) مباشرة، حين أُقصي أهل البيت عن موقع القيادة، وبدأ تسلل المفاهيم القَبَلية والمصلحية إلى كيان الأمة.

  • عشق السلطة: كما أشار الشهيد القائد، فإن عشق المناصب والمال هو من أخطر الأمراض التي تنخر في جسد الأمة، والتي كانت من الأسباب المركزية في الانحراف الكبير الذي أدى إلى مأساة كربلاء "عشق المناصب هو ما يمكن أن يضحي بالدين، ويضحي بالأمة، ويضحي بكل شيء".
  • الترهيب والترغيب: تم استخدام سلاح المال والوعيد للسيطرة على الناس، وتحويلهم إلى أدوات في يد السلطة، بينما ظل القليل من الأحرار رافضين للبيع.

تخاذل الأمة: أحد أخطر أسباب فاجعة كربلاء هو سكوت العامة، وتخاذلهم عن نصرة الحق. فالمجرمون لم يكونوا وحدهم من تسببوا بالمأساة، بل أيضاً من فرّطوا في مسؤوليتهم كما قال الشهيد القائد: "الجرائم ليست في العادة هي نتيجة عمل طرف واحد فقط، المجرمون من جهة، المضلون من جهة يجنون، والمفرِّطون والمقصرون والمتوانون واللامبالون هم أيضاً يجنون من طرف آخر." يضاف إلى ذلك نقص الوعي وضعف الإيمان.

الحل والمخرج: التحرك الواعي بالثقة بالله

للخروج من هذه الأوضاع المتردية، يتطلب الأمر تحركًا جادًا وفعالًا، قائمًا على الوعي والبصيرة، مع استشعار كامل للمسؤولية. والأهم من ذلك، الثقة المطلقة بالله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه. فبالثبات والصبر، والوعي والعمل، والاستجابة لله تعالى، يتحقق النصر الذي وعدنا به الله في كتابه الكريم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.

وإن الثقة بالله ليست حالة شعورية عابرة، بل هي منهج متكامل يرتكز على الإيمان بوعد الله، والعمل في سبيله، واليقين بأنه سبحانه لن يخذل عباده إذا نهضوا بحقهم، وأخذوا بأسباب القوة والعزة. إن التحرك الواعي يبدأ من الداخل، من إصلاح النفوس وتزكية القلوب، ثم يمتد إلى الخارج عبر التفاعل مع قضايا الأمة، ونصرة المظلوم، ومواجهة قوى الاستكبار بكل الوسائل المتاحة.

فالتحرك الواعي يعني أن ندرك طبيعة المعركة، وأن نميّز بين العدو والصديق، وأن لا ننخدع ببريق الشعارات الزائفة، ولا نغتر بالدعايات التي تخدر الشعوب وتثبط العزائم. كما يعني أن ننطلق من الثوابت الدينية والأخلاقية، وأن لا نُساوم على الحق، ولا نُفرّط في المبادئ مهما بلغت التحديات.

إن النصر لا يأتي بالركون ولا بالتمنيات، وإنما بالعمل، كما قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وإن الثقة بالله تدفعنا إلى أن نثق بأننا – رغم قلّة الإمكانات، وشدة الحصار، وقوة العدو – قادرون بعون الله على تحقيق النصر، متى ما التزمنا بطريق الهداية، وتحركنا بوعي، وأخلصنا في الموقف، وتوكلنا على الله حق التوكل.

وهكذا يكون الحل والمخرج في زمن الفتن والانحراف، هو: تحركٌ مؤمنٌ بالله، ثابتٌ في المبدأ، واعٍ بالواقع، واثقٌ بوعد الله، لا ينهزم أمام التهويل، ولا يستسلم للضغوط، ولا يساوم على الدين.

أبعاد كربلاء: الصراع الأبدي بين الحق والباطل

لم تكن كربلاء مجرد واقعة تاريخية تجمدت في زمانها، بل كانت وما تزال لحظة مفصلية تختزل جوهر الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر، بين نهج الرسالة ونهج الانحراف، بين الإسلام المحمدي الأصيل ومشاريع الطغيان والتحريف.

  • كربلاء حقد جاهلي بثوب أموي: لم تكن المعركة ضد الإمام الحسين عليه السلام إلا امتدادًا للحقد المتراكم في نفوس الجاهليين الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم عادوا هذه المرة برداء السلطة والخلافة، فكان استهداف الحسين استهدافًا لرسول الله نفسه، ولمشروعه الإلهي النقي.
  • كربلاء إعادة إنتاج لجذور الصراع: أعادت الواقعة فتح الجرح القديم بين التوحيد والشرك، بين قيم السماء التي جاء بها محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، وبين جاهلية أموية متجددة تسعى للهيمنة تحت شعارات دينية زائفة. هي تذكير دائم بأن الانحراف يبدأ حين يُلبَس الباطل لبوس الحق.
  • كربلاء بوصلة الأمة نحو النور: لم تكن كربلاء مجرد مواجهة بالسيف، بل كانت صرخة هداية مدوّية في وجه التزييف والانحراف. الإمام الحسين عليه السلام مثّل الامتداد النقي للنبوة، وكانت علاقته بالأمة علاقة قيادة روحية وأخلاقية، كما قال عنه جده المصطفى: "حسين مني، وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا".
  • كربلاء ذروة الإجرام الأموي: بلغت قوى الباطل الأموية قمتها في عهد يزيد بن معاوية، الذي لم يكتفِ بطمس معالم الدين، بل سعى لإحياء قيم الجاهلية بقوة الحديد والنار. وقد تصدّى له الإمام الحسين عليه السلام بنهضة واعية أرست قواعد الرفض والثبات.
  • كربلاء مدرسة الإسلام المحمدي الأصيل: كانت ملحمة كربلاء أعظم نموذج للتجسيد العملي لقيم الإسلام، حيث قدّم الحسين ورفاقه أنموذجًا راقيًا في الإيثار والصبر والتضحية، والثبات على المبادئ رغم قسوة الظروف ووحشية العدو.
  • كربلاء مرآة للحق والباطل: كما وصفها الشهيد القائد، فإن كربلاء كانت تجسيدًا حياً لصراع متكامل الأبعاد: "هي حديث عن الحق والباطل، عن النور والظلام، عن الخير والشر، عن السمو في أرفع صورِهِ والانحطاط في أبشع تجلياته."

إنها ليست مجرد واقعة في الماضي، بل هي مرآة تنعكس فيها معارك اليوم، وتمنحنا البصيرة لفهم الحاضر، واستشراف المستقبل بثباتٍ وهدى.

 موقف الحق وموقف الباطل: رؤية واضحة لمستقبل الأمة

موقف الحق:

هو الحصن الحصين لمنعة الأمة وحمايتها من الباطل بكل أشكاله من ظلم ومنكر وفساد. الحق هو الركيزة التي يمكن للأمة، بل وللبشرية جمعاء، أن تستند إليها. إنه الذي له فاعليته المؤكدة في إزهاق الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. الحق نجده في مصدره الحقيقي ومنهجه الأصيل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. وهو يمتد مع حملته الصادقين: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

الحق يدعو إلى وحدة المسلمين وأخوتهم وتعاونهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. وهو يتجلى في المبادئ والقيم، في المنهج والمسيرة، وفي المواقف والولاءات، وعلى مستوى القول والفعل، والخيار والقرار. يتجسد الحق اليوم في نصرة الشعب الفلسطيني، ودعم مقاومته، وطرد الاحتلال الصهيوني، واستعادة المقدسات، والتصدي للخطر الإسرائيلي. كما يتجلى في الوقوف مع شعوب أمتنا المظلومة في لبنان، وسوريا، والعراق، والبحرين، وفي كافة أنحاء المعمورة. وهو مع شعبنا اليمني العزيز في التصدي للعدوان الأمريكي الصهيوني الغاشم: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}. الحق يدعونا لتعزيز كل عوامل القوة والثبات: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}. إن التمسك بالحق والثبات عليه يؤدي إلى تحقق الوعد الإلهي: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

موقف الباطل:

يتمثل في جر الأمة إلى الولاء لأمريكا و"إسرائيل"، والخضوع لسيطرتهما والتبعية العمياء لهما. الباطل كل الباطل في القبول بالعدو الصهيوني وسيطرته على فلسطين والمقدسات، والتطبيع معه وتبرير جرائمه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. يتجلى الباطل أيضًا في التآمر على الشعوب بكل أشكال المؤامرات، ونشر البغضاء والعداوة والكراهية بين المسلمين والسعي لتفرقتهم: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الباطل هو في الوقوف مع العدوان، أو تبريره، أو السكوت عن إدانة جرائمه بحق شعبنا. وهو يكمن في الإخلال بالمسؤولية، وخلخلة الصف الداخلي، والتثبيط، والتفتيت من عضد الأحرار والأوفياء. إن موقف المتخاذلين والمترددين واليائسين والجبناء المحبطين لم يكن منشؤه الالتباس في تحديد الحق من الباطل، بل ضعف الإيمان والبصيرة والوعي، والخضوع للمخاوف والأطماع، والتقديرات الخاطئة.

 التفريط والتخاذل: نتائج مأساوية تتجاوز الزمان والمكان

لم تكن مأساة كربلاء حادثة عابرة تنتهي بانتهاء المعركة، بل كانت نقطة فاصلة في مسار الأمة، ترتبت عليها نتائج كارثية تجاوزت حدود الزمان والمكان. فقد أسفرت عن:

  • تحريف مفاهيم الإسلام الجوهرية، وتحويل الدين إلى وسيلة تبرير للظلم والطغيان.
  • إذلال الأمة واستعبادها، ونهب ثرواتها، واستئثار الطغاة بمقدّراتها.
  • تفعيل مؤامرات الانتقام من رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) وآله الأطهار، وتجسّد ذلك في:

• جريمة كربلاء التي لا تزال جرحًا نازفًا في جسد الأمة وضميرها الحي.
• اجتياح مدينة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، وقتل أهلها من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، حتى الرضّع، واغتصاب النساء ونهب الممتلكات لثلاثة أيام متتالية.
• تدنيس المسجد النبوي، وسفك الدماء على قبر النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) حتى امتلأ بالدماء.
• إذلال من بقي من الصحابة والتابعين وإجبارهم على بيعة يزيد تحت تهديد السيف والرق.
• الهجوم على مكة المكرمة، وانتهاك حرمة الكعبة المشرفة، واستهدافها بالمنجنيق حرقًا وهدمًا، وتكرار ذلك في حربين، وقتل المسلمين في المسجد الحرام.

لقد كانت كل هذه الجرائم نتيجة مباشرة للتخاذل عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في كربلاء. وإن عواقب التفريط والتخاذل لا تتوقف عند حدث معين، بل تمتد في التاريخ، لتظل الأمة تدفع ثمن السكوت عن الظلم، والتخلي عن الحق، والتقاعس عن الوقوف مع المظلومين.

 دروس وعبر كربلاء: خارطة طريق للثبات والانتصار

واقعة كربلاء ليست مجرد ذكرى تاريخية تُستحضر، بل هي مدرسة متكاملة للدروس والعبر، تهدينا في طريق المواجهة والثبات، وتمنحنا البصيرة في زمن الفتن والانحرافات:

  • قراءة الواقع وتقييم الانحرافات: لم يكن وصول يزيد إلى سدة الحكم فجائيًّا، بل نتيجة تراكمات خطيرة من الانحرافات السياسية والدينية التي بدأت مبكرًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وتكشف كربلاء خطورة التساهل في مواجهة الانحراف، وكيف يؤدي الصمت إلى كارثة شاملة.
  • فهم أسرار الثبات والتوفيق الإلهي: من خلال دراسة تفاصيل ملحمة كربلاء، ندرك كيف يُمنح التوفيق لأهل الصدق والإيمان، ممن يصبرون ويثبتون ويضحون في سبيل الله دون أن يتزعزعوا أو ينحرفوا، وهو درسٌ خالد لكل الأجيال.
  • التحذير من التخاذل والتفريط: أبرز دروس كربلاء أن التخاذل لا يولّد إلا الهزيمة والانهيار. تخاذل أهل الكوفة مثال صارخ على ذلك، وهو تكرار لحالة سابقة عاشها الإمام علي ثم الإمام الحسن، وانتهى بالمأساة في كربلاء، حينما خذل الناس إمام زمانهم، وساهموا بصمتهم في وقوع الجريمة.
  • غرس العزيمة وروح المبادرة: تتطلب مواجهة الباطل تحركًا جادًا، مبنيًا على التوكل على الله، مع الالتجاء إليه والاعتماد على تأييده، والثقة بأن النصر وعدٌ إلهي للصادقين.
  • تحمل المسؤولية الفردية والجماعية: يعلّمنا الحسين عليه السلام أن التغيير لا يبدأ إلا حين يستشعر كل فرد مسؤوليته، ويتحرك ضمن جماعة مؤمنة، بروحية الفريق الواحد، بعيدًا عن التواكل واللامبالاة.
  • إدراك مخاطر التقصير والتهاون: كل تقصير في تحمل المسؤولية، يفتح الباب أمام هيمنة الأعداء. فكربلاء كانت نتيجة لتقصير جمعي واسع، دفعت الأمة ثمنه باهظًا في الدنيا، وسيُسأل عنه المقصرون في الآخرة.
  • إسقاط الذرائع الكاذبة: تُسقط كربلاء كل الأعذار التي يتذرع بها المتخاذلون. فلا خوف، ولا ظروف، ولا مصالح، يمكن أن تبرر الوقوف في صف الباطل أو السكوت عن الجريمة.
من كربلاء إلى مواجهة الطغيان اليزيدي المعاصر

كربلاء لا تزال حية، والصراع لم يتوقف. فالطغيان اليزيدي المعاصر المتمثل في المشروع الأمريكي الصهيوني ومن تحالف معهم من أنظمة النفاق والاستكبار، يسعى إلى إخضاع شعوبنا، ونهب ثرواتنا، وتدمير هويتنا.

ولذلك، فإن المواجهة اليوم تتطلب:

  1. اتباع الخيار الحسيني في التصدي لقوى الطاغوت: كما نهض الحسين في وجه الظلم، يجب أن ننهض نحن أمام قوى الاحتلال والاستكبار.
  2. الاقتداء بتضحيات كربلاء: فالثبات لا يتحقق إلا بالبذل والعطاء، تمامًا كما قدّم الحسين وأهل بيته دماءهم في سبيل الله.
  3. التسلح بالإيمان والصبر، ومواجهة التحديات بنفس مطمئنة وثقة بوعد الله ونصره.
  4. الأخذ بأسباب القوة والنصر، سواء في المجال الروحي أو العملي، مع العمل على بناء القدرات والإمكانات الذاتية.

وعناصر القوة التي نمتلكها اليوم عديدة، وأبرزها:

  • معيّة الله سبحانه وتعالى: فإن كنّا مع الله، كان الله معنا، وبه نستعين، فهو القوي العزيز والنصير للمظلومين.
  • التمسك بالقيم والمبادئ الإسلامية الأصيلة: بعيدًا عن التشويه والتحريف، والرجوع إلى نهج النبي وآل بيته.
  • الروح الجهادية: نستمدها من القرآن الكريم، وتغذّيها تجارب الشهداء والمجاهدين على مر العصور.
  • الاستعداد العملي: عبر بناء القدرات العسكرية والاقتصادية والثقافية لمواجهة كل أشكال التبعية والعدوان.
أمة مستهدفة: مخططات الاستعباد والهيمنة

استهداف الأمة اليوم لا يختلف عن استهدافها في عصر الإمام الحسين، بل إن الوسائل أصبحت أكثر تطورًا، والإمكانات أشد فتكًا. فأعداء الأمة - وعلى رأسهم أمريكا و"إسرائيل" - يسعون للسيطرة على مقدراتنا، وإذلال شعوبنا، ومسخ هويتنا.

ومن أبرز مظاهر الاستهداف:

  • الاستعباد ونهب الموارد: عبر أدوات اقتصادية وعسكرية وإعلامية تابعة.
  • فرض التبعية السياسية والثقافية: من خلال تحالفات إقليمية تسعى إلى تطبيع العبودية للعدو.
  • محاربة القيم الدينية والأخلاقية: بأن تستبدل بثقافتنا الأصيلة ثقافةٌ فاسدة، وترويج الانحلال والفساد.
  • تحريف المفاهيم الإسلامية: عبر مشاريع مثل "الإبراهيمية" و"حوار الأديان"، التي تهدف لتمييع الدين وتبرير التبعية والاندماج مع العدو.
الإمام الحسين عليه السلام قدوة في الثورة والكرامة

الإمام الحسين لم يكن ثائرًا على ظلم وقتي، بل كان رمزًا للكرامة، وصوتًا للحق، وقدوة لكل الأحرار:

  • في رفضه للفساد والطغيان: "ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، ومثلي لا يبايع مثله."
  • في وعيه بحقيقة المواجهة: "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟"
  • في استشعاره للواجب الشرعي: "من رأى سلطانًا جائرًا فلم يغيّر عليه بقول أو فعل، كان حقًا على الله أن يدخله مدخله."
  • في شجاعته وإصراره: "لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد."
  • في كلمته الخالدة: "هيهات منّا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون."
فلسطين النموذج الكربلائي المعاصر

تُجسِّد المأساة الفلسطينية اليوم الوجه المعاصر لكربلاء، وتُعيد إلى الذاكرة الإسلامية مشهد الصراع بين الحق والباطل، بين المظلوم والمستكبر، بين الحسين عليه السلام ويزيد الطاغية، ولكن بصورة أشد قسوة ووحشية.

فمنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، ترتكب "إسرائيل" ــ بدعم أمريكي وغربي مباشر ــ جرائم إبادة جماعية بحق أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، في واحدة من أبشع المآسي الإنسانية في العصر الحديث.
لقد تجاوزت جرائم الاحتلال كل الحدود:

  • عدد الشهداء: أكثر من 58,000 شهيد، معظمهم من النساء والأطفال.
  • عدد الجرحى: أكثر من 135,000 جريح، كثير منهم بإعاقات دائمة.
  • عدد المجازر: أكثر من 550 مجزرة جماعية موثقة بحق العوائل.
  • حجم الدمار: تم تدمير أكثر من 70% من البنية التحتية للقطاع، بما في ذلك أكثر من 390,000 وحدة سكنية بين مدمرة كليًا أو جزئيًا، إضافة إلى استهداف المستشفيات، المدارس، الجامعات، المساجد، والكنائس.
  • عدد المستشفيات التي خرجت عن الخدمة: أكثر من 33 مستشفى ومركزًا طبيًا.
  • ضحايا الحصار: أكثر من 10,000 مريض توفوا بسبب نقص الدواء أو تعذر العلاج.

إن الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة لا تقل بشاعة عن جريمة كربلاء، بل هي امتداد لها، بروحها التوحشية اليزيدية. ففي كربلاء، قُطّعت أجساد آل بيت النبي صلوات الله عليه وآله، ومُنع الحسين وأطفاله من شرب الماء، وقُتل الرضيع عبد الله بن الحسين ظمأً وسهامًا... أما في غزة، فالأطفال يُقتلون تحت الأنقاض، ويُدفنون أحياء تحت الركام، وتُمنع عنهم قطرة الماء، وشقفة الخبز، وشريان الحياة.

ومثلما هاجم يزيد بن معاوية مدينة رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) في "واقعة الحرة"، وقتل الآلاف فيها، وهدم الكعبة المشرفة في هجومه على مكة، ها هي "إسرائيل" تدنّس القدس وتقتل في الأقصى، وتقصف بيوت الله فوق رؤوس المصلين.

إن التحالف الغربي بقيادة أمريكا، وبمشاركة أوروبا، وبتواطؤ أنظمة عربية مطبّعة، هو النسخة المعاصرة من التحالف الأموي، الذي قتل الحسين ونهب الأمة.
قال الإمام الحسين عليه السلام:

"ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! فليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا".

هذه الكلمات الخالدة تُجسِّد ما يفعله اليوم المجاهدون في فلسطين، وخصوصًا في غزة، الذين يواجهون آلة القتل الصهيونية بإيمان وثبات لا يُكسر.

وفي خضم هذا التخاذل الإسلامي العام، يبرز اليمن كصوتٍ علويٍّ حسينيّ، لم يرضَ بالحياد، بل وقف إلى جانب الشعب الفلسطيني بموقف مشرّف.
فقد أعلن السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي ـ بكل وضوح ـ الجهوزية الكاملة لدعم فلسطين، وأطلقت القوات المسلحة اليمنية عشرات العمليات النوعية بالصواريخ والطائرات المسيّرة في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة والبحر الأحمر، مساندة للمقاومة، وكسرًا للحصار.

إن التاريخ لا يُعيد نفسه بنفس التفاصيل، لكنه يعيد تقديم دروسه. وكربلاء اليوم ليست في العراق فقط، بل في غزة، في جنين، في الخليل، وفي القدس.
والموقف الحُسيني ليس في البكاء فقط، بل في رفض الظلم، ومواجهة الطاغوت، ورفض التطبيع، ودعم المقاومة.

صرخة الحسين.. نداءٌ خالد للتحرك

من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام، من صرخته الخالدة في وجه الظلم: "هيهات منا الذلة"، نستلهم الموقف، ونُوجّه نداءً إلى أمتنا الإسلامية في كل مكان: أن تحمّلوا مسؤولياتكم، وأن اتخذوا موقفًا حازمًا وشجاعًا يرتقي إلى حجم الجريمة التي تُرتكب في غزة، وإلى مستوى الانتهاكات التي تطال المسجد الأقصى والقرآن الكريم.

إن أقلّ الواجبات الممكنة والمتاحة – وهي دون مستوى التضحيات – أن تُقطع العلاقات مع العدو الصهيوني، وتُقاطع منتجاته ومنتجات داعميه اقتصاديًا، ويُسحب الغطاء السياسي والدبلوماسي عن كل محتل غاصب. فإن العجز عن اتخاذ هذا الموقف البسيط، تفريطٌ عظيم، وتخاذلٌ مهين، وخيانةٌ لرسالة الإسلام ومقدّساته، وتنكّرٌ للدماء الطاهرة التي سُفكت نصرةً للحق عبر التاريخ، من كربلاء إلى فلسطين.

ووفاءً لمدرسة الفداء الحسيني، نُجدّد موقفنا المبدئي والثابت إلى جانب شعبنا الفلسطيني المظلوم، في دعمه بكل ما أوتينا من قوة برًا وبحرًا وجوًا، حتى يتحقّق الهدف العظيم بتحرير الأرض المباركة، وتطهيرها من دنس الاحتلال، وكسر الحصار الجائر، ووقف الحرب الظالمة.

وفي إطار هذه المواجهة الشاملة مع قوى الطاغوت الأمريكي الصهيوني، وتحالف الشر الغربي، نؤكد على أهمية الجهوزية الكاملة، والاستعداد الدائم، والمضيّ بثبات في درب المواجهة، مستنيرين ببصيرة الحسين، وثبات أصحابه، ووفاء زينب، وشجاعة العقيلة، مؤمنين أن النصر وعد الله للمستضعفين.

فهل ستلبي الأمة اليوم نداء الحسين من جديد؟ أم تبقى رهينة الصمت والخذلان؟