عالمية القرآن كدستور حياة فهو كتاب للجميع (3 – 3 )
القرآن أساس النهضة
(إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَاَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (22)
بماذا نهضت الأمة الإسلامية لدى انطلاقتها الأولى؟ وكيف انهارت عروش الطغاة أمام ذلك المد الجارف؟!.
لا ريب أن قيادة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان لها الأثر الكبير جداً في ذلك، بل حتى أن سيرته الشريفة لا يزال يتلمسها المسلمون في الوقت الراهن.. فملاحم الإسلام الأولى التي حققتها القيادة النبوية، لا تزال ذات فائدة كبرى بالنسبة للنهضة الإسلامية على مرّ العصور.
ولكن أساس نهضة المسلمين -بما في ذلك قيادة الرسول وحكمته ودرايته وشجاعته- كان قائماً على حكمة القرآن الكريم.. فهو الذي يهدي للتي هي أقوم؛ بمعنى أنه يفتح أمام اتباعه ومحبيه الطريق القريب والمباشر والآمن نحو ما يريدون تحقيقه من غايات.
فهذه الآية المتقدمة الذكر من سورة الإسراء نزلت بعد استعراض حالة بني إسرائيل، حيث تناوبت فيهم وعليهم حالات التقدم والتراجع والصعود والهبوط ثم قال ربنا مخاطباً إياهم ومجمل أفراد البشرية: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ) (23)، ثم بعد ذلك جاءت الآية القائلة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْومَُ)..
فكيف نحسن لأنفسنا، ونعلوا وننهض بالقرآن الكريم؟.
يجد المؤمن بالكتاب المجيد أن فيه خبر من كان قبله، وفيه الحكم والحكمة والقول الفصل، وفيه الحديث عن المستقبل، فيعرف أنه كتاب فتح ونهضة وانطلاق.
من قرأ القرآن ليعمل به ويحمل رايته، ويقتحم الصعاب ويتحدى المشاكل ويبلغ الذروة ويحقق الأهداف السامية؛ من قرأه على هذا الأساس وجد فيه بغيته وهدفه، حيث يتبين له الطريق الصحيح في وضوح مطلق، لأنه حينما يقرأه يجد في نفسه واقعين مثيرين، وهما:
الأول: أنه سيصبح مؤثراً على نفسه، ولو كان به خصاصة وحاجة فهو سيتعرف في كتاب الله على أهدافٍ أوسع بدرجات من أهداف الذات، وسيعرف أن الإيثار قطار التقدم ووسيلة النهضة الإنسانية.
الثاني: أنه سيعيش حالة الأمة الواحدة، والوحدة مع الآخرين؛ لأن الإنسان حينما يحرر نفسه من قيود زنزانتها، سينطلق في رحاب الأمة الواحدة، فتراه يتعلم في هذا الواقع الجديد الصفات المثلى كالحيوية والعطاء والإحسان والحركة الهادفة.
وإنما كان القرآن يهدي للتي هي أقوم، لأنه يبين لأتباعه السنن الإلهية، التي تحرضهم على التطلع والهدفية نحو الخير.. إذ أن ما يحويه القرآن من سنن إلهية من قبيل سنة العطاء والشهادة في سبيل الله والوحدة والتعاون على البر والتقوى، وسنّة النظم والعمل الدؤوب على أُسس واضحة، وسنة الاستقامة على الطريق.. كل ذلك فيه التحريض على العودة إلى الاصول التاريخية والاجتماعية والإنسانية الصحيحة. ولهذا كانت إرادة النهضة بحاجة إلى قراءة القرآن الكريم قراءة “جديدة”.
القرآن سبيلنا إلى الرقي
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرءُُوفٌ رَحِيمٌ) (24)
لقد جمعت رسالة الإسلام شتات أمة، فصنعت منها الحضارة الأقوى في العالم. فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في مناطق متناثرة من أرض الجزيرة العربية وأطرافها، فحولهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في مدة قياسية جداً إلى أمة شاهدة على الناس بالقسط والعدل.
فالقرآن الكريم يفجر في الإنسان طاقاته، ويلملم شتات البشرية تحت راية واحدة، لا سيما وأنه كتاب حيٌّ ينبض بالفاعلية والروح إلى يوم القيامة.
فالله سبحانه وتعالى وعد الإنسان بالثواب وتوعّده بالعقاب؛ بمعنى أن الخالق المتعال لم يخلق الإنسان ليفنى، وأنه لم يجعل حدوده في الدنيا، إذ هذه الأخيرة ليست إلاّ وسيلة من وسائل بني البشر، ليرقوا بها إلى ما هو أعلى وأرقى.
وحينما يفتح القرآن مثل هذا الأفق الواسع أمام الإنسان، فإنه يبعث فيه الروح والعزم والإرادة، ثم إنه يدعوه إلى الجهاد، هذه الفريضة المقدسة التي لا تعني القتال فقط، بل هي تعني بذل المزيد من الجهد في كافة مناحي الحياة؛ فهي تعني الإنفاق والإحسان والعطاء والتغلب على هوى النفس ووساوس الشيطان. لغرض التحرر من الهوى الشرير وقيود الباطل.
ن المؤمنين -وعبر هذه البصيرة الإلهية- سيعلمون أن أمامهم آفاقاً واسعة وأن عليهم أن يبلغوها، ويعلمون أيضاً أن أجلهم محدود في هذه الدنيا، وبالتالي فإنهم سيضغطون على أنفسهم ما استطاعوا حتى يفجروا طاقاتهم المودعة فيهم من قبل الله فيصلوا إلى معدن الحكمة والتطور ورضا خالقهم عنهم.
إن الصفة الأساسية لاتباع القرآن تكمن في أنهم لا يسمحون لأن تكون أعمارهم ضحية أو هباءً، فتراهم لا يستسلمون للهواجس والوساوس واللهو واللعب وتفاهات الأُمور، وهم في تطلع دائم إلى الأسمى والارقى والأحسن من الوجود سواء على صعيد الدنيا أو الآخرة.
إن من الفلاسفة من دعا إلى أن يصنع الإنسان الطبيعة، ولكن كتاب الله دعا إلى أن يصوغ الإنسان نفسه صياغة جديدة،، وإلى أن يصنع الطبيعة من حوله. وبهذه الدعوة فقد سبق القرآن جميع المذاهب الفلسفية والفكرية والاجتماعية.
أما سبيل العودة إلى التاريخ التليد، فليس ثم خيار سوى العودة إلى سبب التقدم والعظمة، وهو القرآن الكريم وما يحويه من بصائر نورانية، فنتفتّح عليها ونستفيد منها ونصوغ أنفسنا كأفراد وشعوب ضمن ما رسمته لنا لكي نكون خير أُمة أُخرجت للناس، ولكي نكون شاهدين عليهم؛ أي لنكون المقياس الذي تقاس به الأمم من حولنا كما كان الرسول شهيداً علينا وقدوة ومقياساً لنا.