البحر الأحمر.. إمكانيات وفرص
|| صحافة || العهد
الحقيقة أن عملية إعادة استكشاف المواقف والأفكار والظروف، وحتى الخطوات الناقصة أو نصف المكتملة، هي عملية ضرورية لا بد وأن يقوم بها العاقل بين الوقت والآخر، كنوع من الحساب والمراجعة والتثبت بالحذف والإضافة، حيال أساطير وأكاذيب، قد ترسخت بالخطأ في الوعي العام للشعوب، وإلا فإننا سنفيق ذات يوم، وإذا المأساة قد تكررت، ومعها استنسخت الهزيمة مرة بعد أخرى، دون أن نتعلم ومن حيث لم ندرِ أو نتوقع.
هذه الأيام التي تخوض فيها المقاومة حربًا كبرى ومواجهة شاملة “طوفان الأقصى”، نيابة عن الأمة العربية، وقيامًا بالواجب الأقدس “الجهاد”، تفرض على الذاكرة العربية بكثير من الإلحاح العودة إلى دروس حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ومحاولة تفكيك وفهم بعضًا من أروع قصصها، وحتى أكثرها ألمًا وترويعًا، لنعرف على الأقل أين نقف اليوم؟ وكيف تكون الحركة الصحيحة؟
بداية، لا بد من العودة لتعبير شهير لشهيد العسكرية المصرية الأعظم، عبد المنعم رياض، خلال حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، والرجل بضمير يقظ وهمة عالية وذكاء لافت، قد لخص الصراع مع العدو الصهيوني بقوله إن “الأمة العربية تخوض حربًا مع مجمع مصالح الصهيونية العالمية، لا نواجه الكيان وحده في معركة متكافئة، وإذًا يجب أن تزخم الموارد والإمكانيات العربية كلها لمعاونة دول النسق الأول، يجب وليس هناك حل آخر، وليست هذه زكاة أو منة إطلاقًا”.
ولأن المخطط العسكري المصري لحرب أكتوبر كان يتمتع بكفاءة ويمتلك النظرة الشاملة للخريطة العربية، ويفهم أن العالم العربي كتلة واحدة، مهما قيل عن إدارة الحرب الكارثية بعد العبور، فقد ظهر إلى الوجود صباح يوم السابع من أكتوبر –اليوم الثاني للحرب- إعلان مصري بإغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الصهيونية، وكانت أكثر ضربة موفقة تحققت في الحرب كلها.
استفادت مصر من الموقف اليمني المبدئي، الذي يدعم باليد واللسان والقلب القضية العربية المركزية، وحققت مفاجأة كاملة للعدو الذي انقطعت خطوط إمداده بالبترول من البحر الأحمر، وفوق كل ذلك، حين تحول الموقف العسكري من هجوم ناجح ونصر وشيك، إلى تقهقر وهزيمة ثم إلى الحصار الشهير “الثغرة”، فقد كانت ورقة باب المندب هي الورقة الوحيدة في يد مصر للمفاوضة وإدخال الإمدادات إلى الجيش المحاصر، ورُفع الحصار رسميًا يوم الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، وخلال كل هذه الفترة لم يدخل إلى الكيان نقطة نفط واحدة من الجنوب.
الأهم من هذه الواقعة هو أن الكيان أصر في مفاوضات الاستسلام “كامب ديفيد” بعدها، على تعهد مصري واضح بعدم إغلاق المضيق في وجهها، وبالتزام أميركي كامل بحماية هذا الشرط، وقد حصل الصهاينة بالطبع من السادات ومفاوضيه على كل ما طلبوه، وربما أكثر، اليوم نعاين ما جناه “خيار السلام” على مصر، التي ابتلعت في إهانة فاضحة وباستسلام وعجز كاملين ضربة صهيونية في سيناء، أوقعت 9 جرحى طبقًا للإعلام الرسمي المصري، الذي تسابق في تبرير الجريمة وتمريرها.
من جديد يعود اليمن إلى واجهة الحدث، مع تصريحات رسمية –هي الأقوى حتى اللحظة- من رئيس حكومة الإنقاذ، عبد العزيز صالح بن حبتور، الذي أعلن بشكل واضح أن اليمن “سيستهدف السفن الصهيونية في البحر الأحمر إذا ما استمر العدوان الصهيوني على غزة”، وهو صاعقة مزلزلة جديدة على رأس الكيان ومن يدعمه، وسيكون له توابع وآثار هائلة على تطورات معركة “طوفان الأقصى” الجارية، وإثباتًا عمليًا على المدى الواسع الذي يمكن للسلاح العربي والمقاومة العربية أن يصلا إليه في المساندة الفعلية للمقاومة والشعب الفلسطيني، الذي دخل مرحلة “الإبادة” بتنفيذ صهيوني وإشراف غربي معلن وكامل.
الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للبحر الأحمر لا تحتمل بالطبع الاستخفاف أو المرور بسهولة على التصريح اليمني القاطع، فهذا البحر هو شريان التجارة العالمية، وموقعه إستراتيجيًا يربط بين 3 قارات، وهو نقطة المفرق بالنسبة لبحار العالم ومحيطاته، والنطاق الجيوبوليتيكي للبحر الأحمر يمتد ليشمل منطقة القرن الأفريقي التي تشرف وتتحكم بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وجنوب غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا،كما يمتد ليشمل دول غرب أوروبا الصناعية.
من المفيد، في هذه الأوقات العصيبة بالذات، تذكر أن كذبة أو أسطورة قطع النفط العربي عن الغرب، لم يكن بالأساس قرارًا أنعكس على ميادين القتال، وكل قراءة في تاريخ صراعاتنا مع الكيان تقول بوضوح وصراحة كاملين أن الأنظمة العربية الرجعية التابعة كانت هي خنجر يهوذا المسموم، الذي يعرف طريقه دائمًا إلى ظهور المقاتلين، وأن الملك فيصل والأنظمة الخليجية الأخرى استفادت من سيل الدم العربي في رفع أسعار النفط بشكل قياسي، وصناعة ما بات يعرف بـ “طفرة النفط” وتدفق الثروات إلى الخليج.
حين يكتب أي عاقل اليوم عن دروس الصراع، وأكاذيبه المنسية، فإنه لا يكتب بحثًا عن التقليب في ماضٍ فات وقته وعبرنا مشاهده، بل هذه الكتابة تحديدًا موجهة إلى أجيال جديدة وشابة، لم تعاصر كل وقائع الصراع مع العدو ومن خلف العدو، وبالتالي فإن قصة هذا الصراع تعرضت لتلاعب الأهواء وتقلب الأغراض بين رواتها، قصدًا وعمدًا لطمس الحقائق وتمييع المسؤوليات، ثم تضيف عليها ما يغطي عليها أو يشوه وجهها، لأن المطلوب الأول من عدونا –ولا يزال- تغييب الذاكرة العربية، وسحق الوعي واغتيال الهوية الجامعة للأمة، للوصول بها إلى مرحلة الكفر بالقضية، والضغط على أعصابها الحساسة المكشوفة إلى درجة التخلي عن الدور الواجب والتكاليف المطلوبة.