بين الحربين الأولى والثالثة.. هكذا يقاس انتصار المقاومة
|| صحافة ||
تتشابه الحرب الأخيرة على لبنان إلى حد كبير مع اجتياح عام 1982 من حيث الأهداف التي وضعها العدو لكليهما، لكنهما يختلفان لناحية بعض المنطلقات والحيثيات والنتائج التي انتهت إليها كل منهما. وإذا ما أردنا فهم حقيقة الانتصار العظيم الذي حققته المقاومة في تلك الحرب يكفي أن نجري مقارنة سريعة بين الحربين الأولى والثالثة على لبنان لنفهم ماذا جرى في الميدان وماذا تحقق على أرض الواقع ولماذا وكيف فشل العدو وهزم هزيمة ساحقة أمام المقاومة اللبنانية؟
أولاً – أهداف الحربين الأولى والثالثة
حدد العدو هدفه المركزي من اجتياح سنة 1982 بالقضاء على البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ما يكفل له إنهاء المقاومة وتحقيق الأمن على حدوده الشمالية (سلامة الجليل). حينذاك أعلن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” مناحيم بيغن أنه أبلغ الرئيس الأميركي ريغان بإصداره الأوامر للجيش “الإسرائيلي” بطرد الفلسطينيين لمسافة ٤٠ كلم بعيدًا عن الحدود أي إلى حدود منطقة الأولي قرب مدينة صيدا.
لم تختلف أهداف الحرب الأخيرة (2024)على لبنان عن سابقاتها الأولى (1982) والثانية (2006) من حيث الأهداف التي حدد العدو سقفها وإن اختلفت العبارات بالحديث عن القضاء على المقاومة وسحقها وإبعادها إلى شمال الليطاني وإعادة المستوطنين، ومع نشوة بنيامين نتنياهو بعد الضربات الأولى رفع سقف أهدافه نحو تغيير الشرق الأوسط.
الاختلافات بين الحربين
بين حربه المسماة “سلامة الجليل” عام 1982، وحربه المسماة “سهم الشمال” عام 2024، ثمة فوارق جوهرية أثرت بطبيعة الحال في مسار تحقيق أهداف العدو والنتائج التي حققها. هذه الفوارق يمكن حصرها بثلاثة جوهرية:
أولاً – لم تكن المقاومة الفلسطينية آنذاك ابنة الأرض اللبنانية. لذا سارعت إلى الانسحاب والتحصن في الخلف لعلمها أن إسرائيل ستتوقف عند نهر الأولي.
ثانيًا – لعل العدو كان مطمئنًا إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية غير محاطة بحركة شعبية مساندة وأنه سيواجه مقاومة مسلحة وبشكل محدود ما يسهل استثمار هذا العدوان لمصلحته.
ثالثًا – كانت المقاومة محدودة وغير فعالة وبررت قيادة منظمة التحرير ذلك بالمفاجأة وعدم القدرة على التصدي.
نتائج الحربين
بعد تحديد أهداف العدو في الحربين ونقاط التلاقي والاختلاف بينهما يمكننا الآن أن نقيم بطريقة علمية وفق المنهج المقارن معيار الهزيمة والنصر من خلال ما أفضيا إليه من نتائج على الصعيدين الميداني العسكري والسياسي:
أولا ً. لم تكتف “إسرائيل” بالمعلن من أهدافها (نهر الأولي) فتابعت غزوها نحو بيروت. حتى ووجهت على مدخلها الجنويي في منطقة خلدة ولاحقًا عند مشارف كلية العلوم بمقاومة شرسة من مجموعات من المقاومين الإسلاميين والوطنيين. لكنها تمكنت من خلال القصف المدمر بالطيران من دخول العاصمة بعد حصارها. وكل ذلك انتهى في غضون 6 أيام تمكن بعدها جيش العدو من أن يسرح ويمرح في شوارع بيروت.
أما في الحرب الأخيرة (سهم الشمال) فقد تغيرت المعادلات، فالعدو ناهيك عن أنه لم يصل إلى الليطاني كما حدد ضمن أهدافه، فإنه أيضاً لم يتجاوز القرى الحدودية الأمامية وبقي غارقًا في وحولها أكثر من شهرين كاملين، وذلك بفضل صمود المقاومة الأسطوري واستبسالها الذي كبد العدو خسائر فادحة رغم الكثافة النارية التي دك فيها تلك القرى على مدى 14 شهرًا.
ثانيًا – في الحرب الأولى (1982) توصلت أمريكا إلى اتفاق بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية قضى بخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت وعلى رأسهم أبو عمار والقيادات بأسلحتهم الفردية. وبذلك تحقق الهدف “الإسرائيلي” في ضرب البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية وإبعاد خطر المقاومة الفلسطينية عن الحدود الشمالية. هذا الإنجاز العسكري على الأرض سعى العدو فورًا لتثميره وتسييله سياسيًا، من خلال عدة خطوات متسارعة:
أ – استقدام القوات المتعددة الجنسيات للإشراف على تنفيذ الاتفاق (21-08-1982).
ب – إيصال بشير الجميل إلى سدة رئاسة الجمهورية على متن دبابات الجيش “الإسرائيلي” (24-08-1982)، والذي بقي عهده 3 أسابيع قبل مقتله وحلول أمين الجميل كرئيس خلفًا لأخيه (23-09-1982)، لتخرج بعدها قوات الاحتلال “الإسرائيلية” من بيروت بخمسة أيام.
ج – استفاد العدو من تفوقه العسكري وإخراج منظمة التحرير من لبنان والدعم الأميركي للشروع بمفاوضات تؤمن له ترتيبات أمنية وفق شروطه، فكانت النتيجة توقيع اتفاق العار والذل في ١٧ أيار ١٩٨٣، والذي حقق الشروط “الإسرائيلية” بالكامل وحول لبنان إلى موقع الشرطي المسؤول عن أمن الاحتلال.
ولعل من المفيد أن نجري هنا مقارنة ما بين اتفاق الذل (17 أيار) واتفاق وقف إطلاق النار (27 تشرين الأول 2024)، لنعرف من هم السياديون الحقيقيون الحريصون على البلد ولا يفرطون بحبة تراب منه، ومن هم الذين باعوا البلد واستتبعوه للعدو “الإسرائيلي” ولنلمس بالوقائع والدلائل حجم التحول الذي أوجدته المقاومة في لبنان وكيف نقلت لبنان من ضفة البلد المحتل التابع والدائر في فلك العصر “الإسرائيلي” إلى ضفة البلد السيادي المستقل المتوج بغار الانتصارات وشموخ أرزه.
بالعودة إلى النصوص، يتضح أن المادة الأولى من اتفاق 17 أيار (قبل إلغائه) أنهت حال الحرب بين لبنان و”إسرائيل”، بمعنى أنها أخرجت لبنان من ساحة الصراع مع “إسرائيل” بالكامل. أما اتفاق وقف إطلاق النار الحالي فينص حصرًا على ما يسميه بـ”وقف الأعمال العدائية”، وهذا يعني ضمنًا أن لبنان سيبقى حجر عثرة ومدماكاً أساسياً في الصراع مع “إسرائيل”.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فمن خلال مراجعة المادة الثالثة من اتفاق 17 أيار، نجد أنه نص على إنشاء منطقة أمنية على الأراضي اللبنانية تصل إلى مشارف صيدا، مقيدًا بذلك سيادة لبنان على أراضيه لصالح استقرار حدود الاحتلال، كما حدد السقف المسموح به للجيش للتواجد في المنطقة الأمنية من حيث العدد والعدة. وفي ملحق الترتيبات الأمنية يفرض على السلطات اللبنانية اتخاذ تدابير أمنية خاصة لكشف النشاطات العدائية ومنع إدخال أو تحرك المسلحين غير المسموح بها في المنطقة الأمنية وغيرها. وأبعد من ذلك نصت المادة ٥ منه على منع أي شكل من أشكال الدعاية المعادية.
أما منطلق اتفاق وقف إطلاق النار في الحرب الأخيرة فكان عدم التنازل عن أي شأن سيادي، مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن النفس، وبالتالي إذا ما أسقطنا الاتفاق على الواقع على الأرض نجد أن العدو ملزم بالانسحاب الكامل من الأراضي التي توغل بها، ونجد أن المنطقة العازلة تحققت على أرض العدو باعتبار أن عودة النازحين اللبنانيين السريعة إلى القرى الأمامية مقابل عدم عودة المستوطنين إلى مستوطنات الشمال أوقع حكومة العدو في ورطة.
في الخلاصة، أثبتت المقاومة مجددًا شرعيتها وأنها حاجة وضرورة لقوة لبنان وعزته ومنعته، لا سيما أنها تمكنت من فرض شروطها على العدو عبر منعه من تحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة، وعدم التنازل عن حبة تراب واحدة من أرض لبنان، واحتفاظها بحق الدفاع عن النفس في حال الاعتداء على لبنان، ومنع العدو من التدخل في شؤون لبنان الداخلية أو فرض رئيس جمهورية وحكومة تابعة. كل ذلك يعني باختصار أن المقاومة انتصرت بقوة الإرادة رغم الفوارق الكبيرة في القدرات العسكرية مع العدو.
العهد الاخباري: علي عوباني