التطورات في السودان ومشروع “الشرق الأوسط الجديد”

موقع أنصار الله . تحليل| أنس القاضي

 

يعيش السودان منذ أبريل 2023م واحدة من أعنف الحروب في تاريخه الحديث، بعد انفجار الصراع بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” على خلفية التنازع حول السلطة، عقب الثورة الشعبية عام 2019م، حينها قامت النخبة الحاكمة بالإطاحة بالبشير وتقديمه أُضحية، واستولى الجيش والدعم السريع على السلطة ووعد بتسليم الحكم إلى القوى المدنية المنتخبة، ثم ماطل في ذلك، ودخل في هذه الحرب.

وبينما بدأ النزاع في ظاهره داخلياً، إلا أنه سرعان ما انكشف عمقه الإقليمي والدولي، إذ تحوّل السودان إلى ساحة تنافس بين قوى كبرى تسعى لحماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، أو لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.

تداخلت خطوط الدعم والتحالفات، فانقسمت القوى الإقليمية والدولية بين داعم للجيش ومساند لقوات الدعم السريع، وبرزت مشاريع متناقضة: بين من يدفع نحو توحيد السودان واستقراره، ومن يروّج لتفتيته وإعادة تشكيله بما يخدم مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.

المشهد العسكري في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع

 

اندلعت الحرب الأهلية في السودان في 15 أبريل 2023م بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على خلفية الصراع على السلطة بعد فشل اتفاقات انتقال السلطة إلى القوى المدنية.

يسيطر الجيش السوداني على الخرطوم (العاصمة) – الشمالية – نهر النيل – البحر الأحمر – كسلا – القضارف – النيل الأزرق – الجزيرة – سنار – وعدة مناطق جنوبية كـ أم عردة وجبل أم هشابة. فيما تسيطر قوات الدعم السريع على: غرب دارفور – جنوب دارفور – شرق دارفور – أجزاء من وسط دارفور (باستثناء جبل مرة الذي تسيطر عليه حركة عبد الواحد محمد نور) – ومناطق في أم درمان.

يعتمد الجيش السوداني على تقدم مدروس، بدعم من القوات النظامية وبعض الحركات الموقعة على اتفاق السلام، فيما يستخدم الدعم السريع تكتيكات الأرض المحروقة، وهجومات مكثفة على مخيمات النازحين، وسط اتهامات بجرائم حرب وإبادة جماعية.

التحولات في الميدان

 

بداية من هذا العام 2025م بدأت تتراجع سيطرة “الدعم السريع” على عدة مناطق بسبب صعوبات لوجستية وعدم القدرة على إيصال الإمدادات في المساحات الواسعة التي تنتشر فيها، ويحقق الجيش مكاسب ميدانية خصوصاً في الخرطوم والمناطق الشمالية والشرقية، أما “الدعم السريع” فلا يزال متماسكاً في دارفور، ويُتهم بالسيطرة على الإقليم عبر مليشيات عنيفة تنفذ عمليات تطهير عرقي واغتصابات وغيرها من الفضائع.

الجيش السوداني يرفض التفاوض مع قوات الدعم السريع ما لم تُلقِ السلاح، ويُخطط لتشكيل “حكومة حرب”. فيما الدعم السريع يُعلن استعداده للتفاوض لكن يواصل الهجمات العسكرية، ويحاول تشكيل حكومة موازية بتحالفات داخلية.

  

الصراع الداخلي الاجتماعي السياسي في السودان

 

جوهر الأزمة السودانية هو هيمنة القوى المرتبطة تاريخياً بالاستعمار والمصالح الإقليمية والدولية، والتي تختطف الثورات الشعبية كل مرة، وتعيد إنتاج السلطة القديمة بأدوات جديدة، هذه القوى النافذة تستخدم المؤسسة العسكرية كأداة دائمة للانقلاب على فترات الحكم المدني القصيرة، وهذا الأمر يتكرر منذ ثورة أكتوبر 1964م وحتى ثورة ديسمبر 2019م.

أُُجهِضت ثورات الشعب السوداني باستمرار على يد تحالفات بين قوى داخلية مستفيدة من الامتيازات الطبقية والتاريخية، وقوى إقليمية ودولية تسعى لاستغلال موقع السودان الجيوسياسي وثرواته.

الحرب الراهنة بين الجيش والدعم السريع ليست معركة خير وشر، فهي داخل ذات القوى المسيطرة، صراع على السلطة والثروة، تقوده قوى إخوانية داخل الجيش، وقوات الدعم السريع المرتبطة بالإمارات وغيرها من المحاور الخارجية، ويسعى الطرفان إلى فرض الوصاية على الشعب السوداني دون أي شرعية دستورية.

  

رفض حكومة بورتسودان وحكومة الدعم السريع

 

حكومة “بورتسودان” التابعة للجيش تُعد امتداداً للنظام السابق، تسعى لتكريس حكم العسكر والجماعة الإخوانية، و”شرعنة” وجودها عبر تعديل الوثيقة الدستورية. فيما تحالف الدعم السريع يسعى لتأسيس حكومة موازية، متحالفاً مع حركات سياسية وقوى أهلية قبلية انفصالية تسعى للحكم الذاتي، ويروّج للعلمانية واللامركزية، مع تضمين حق تقرير المصير والانفصال، وهو ما يهدد وحدة البلاد، كما دعا ترامب للتدخل لمساندته ضد الجيش السوداني “المدعوم إيرانيا” حد تعبيره.

 

 الأبعاد الدولية والإقليمية للصراع السوداني

 

بينما يدخل الصراع في السودان عامه الثالث، لم يعد مجرد نزاع داخلي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل تحوّل إلى ساحة مفتوحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، حيث تتقاطع المصالح الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية، في صراع يعكس التوازنات الجديدة في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر.

 

 الإمارات – دعم مباشر لقوات الدعم السريع:

تدعم الإمارات قوات الدعم السريع عسكرياً ولوجستياً، عبر تسليحها من خلال ممرات في تشاد (خصوصاً مطار أمدجراس)، إضافة إلى علاج الجرحى في مستشفياتها.

تشير تقارير إلى توظيف الإمارات مرتزقة كولومبيين عبر شركات أمنية خاصة مقربة من أبوظبي، ورغم النفي الرسمي، رضخت الإمارات لضغوط أمريكية في ديسمبر 2024م، وأعلنت وقف دعمها العسكري للدعم السريع إلا أنه واقعياً لا يزال مستمراً ويناقض تصريحاتها السياسية العلنية.

 

 مصر – دعم سياسي وأمني للجيش السوداني:

تعُدُّ مصر استقرارَ السودان جزءاً من أمنها القومي، خصوصاً مع مخاوفها من تمدد نفوذ إثيوبيا وغياب جيش مركزي قوي في السودان على مقربة منها، فذلك بالنسبة لها يعني الفوضى، و ترفض القاهرة أي مشروع انفصالي أو صعود بديل مسلح يهدد وحدة السودان، ولذا فهي تدعم موقف الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان.

 

 السعودية – انحياز للجيش وتوازن دبلوماسي:

تدعم السعودية الجيش السوداني وتسعى لاستقرار منطقة البحر الأحمر (حدودها البحرية مع السودان)، وتلعب دوراً سياسياً في رعاية “حوار جدة”، وهي تتدخل بطريقة أو بأخرى دعماً للجيش من أجل خلق توازن مع إيران التي بدأت بدعم الجيش السوداني، وتوازن مع الإمارات التي تدعم قوات الدعم السريع.

 

 إيران – عودة قوية عبر دعم الجيش:

أعادت إيران علاقاتها مع السودان منتصف 2024م، وبدأت بمد الجيش بطائرات مسيّرة وأسلحة نوعية كما تشير التقارير، وهي تعمل على مد حضورها إلى السودان حتى لا تستفرد فيها السعودية ولا تصبح مع المحور الصهيوني، خصوصاً أن البرهان كان -قبل الحرب- يتجه إلى التطبيع مع الكيان. في العموم تسعى طهران لتعزيز حضورها في البحر الأحمر، وموازنة الحضور السعودي الإماراتي في السودان.

 

 روسيا – علاقات مزدوجة:

 اتجهت روسيا في السنوات الأخيرة نحو دعم الجيش السوداني دون إعلان ذلك رسميا، لكن العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وحكومة البرهان تتطور بسرعة، فهي تهدف لتعزيز وجودها في السودان من خلال شراكات في التعدين، وتسعى للحصول على قاعدة عسكرية في السودان على البحر الأحمر.

 

 تركيا – الوسيط المحتمل لأجل مصالحها:

تحاول تركيا لعب دور الوسيط بين الخرطوم وأبوظبي، وقد رحبت الحكومة السودانية بهذا الدور، وترى أنقرة أن السودان شريك مهم في استراتيجيتها في أفريقيا والبحر الأحمر، ولتركيا مشاريع توسع كبيرة في عموم أفريقيا، والسودان جزء منها.

 

 الولايات المتحدة – ضغوط دون تدخل مباشر:

فرضت واشنطن عقوبات على قادة الطرفين، ووضعت ضغوطاً على الإمارات لوقف دعمها للدعم السريع، وتشارك في رعاية “حوار جدة”. وتبدي واشنطن اهتماما واضحا في السودان من خلال تعيين مبعوث أميركي خاص بشأن السودان توم بيرييلو، الذي بدأ عمله بزيارة الرياض والقاهرة وأنقرة، وهي في حالة تنافس مع روسيا وإيران وحتى تركيا في السودان، وإن كانت لا تظهر كطرف رئيس في الصراع إلا أنها أحد الأطراف المؤثرة فيه.

 

 تشاد وإثيوبيا – أدوار جيوسياسية حساسة:

تُستخدم تشاد كممر للأسلحة إلى الدعم السريع، رغم نفيها الرسمي، وتدعم إثيوبيا الدعم السريع سياسياً في إطار صراعها مع مصر حول سد النهضة.

 

الكيان الصهيوني يراقب بحذر:

تبدي “إسرائيل” قلقها من التقارب بين الجيش السوداني وإيران، خصوصاً فيما يتعلق بنفوذ الكيان في البحر الأحمر، وهي تسعى للتطبيع مع الجيش السوداني قبل الحرب، وهي من حيث الموقف الاستراتيجي أقرب إلى موقف الدعم السريع والامارات وإثيوبيا، في مواجهة الجيش السوداني وتحالفه الإيراني الروسي، فتقسيم السودان جزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تلتقي فيه المصلحتان الأمريكية والصهيونية.

 

النتيجة العامة:

يكشف تحليل الأبعاد الدولية والإقليمية للصراع السوداني عن حقيقة صادمة، وهي أن الحرب في السودان لم تعد مجرد نزاع داخلي على السلطة، بل تحوّلت إلى ساحة صراع مفتوح بين محاور إقليمية ودولية متنافسة. فقد أدى تداخل مصالح قوى مختلفة كالإمارات، ومصر، والسعودية، وإيران، وتركيا، وروسيا، والولايات المتحدة، إلى تعقيد المشهد السياسي والعسكري والإنساني، بما يجعل أي تسوية داخلية رهينة لحسابات خارجية متشابكة.

أصبح واضحاً أن كل طرف داخلي لم يعد يتحرك بمعزل عن داعميه الإقليميين، ما أدى إلى إطالة أمد الصراع، وتفشي الانتهاكات، وتفاقم الأزمة الإنسانية التي باتت تهدد بتمزيق السودان وانهياره الكامل. كما أن فشل المجتمع الدولي في بلورة موقف موحّد، واستمرار ازدواجية المعايير يفاقمان الأزمة ويزيدان من معاناة ملايين السودانيين.

أما الجانب الإنساني فقد تجاوز حدود المأساة إلى حالة كارثة شاملة متعددة الأبعاد، حيث اختلط القتل بالنزوح بالمجاعة بالتدمير، في ظل غياب الدولة، وتصاعد الجرائم الممنهجة من أطراف النزاع، وعجز دولي عن فرض وقف للقتال.

إن مصير السودان اليوم معلّق بين مشاريع الهيمنة ومخاطر التقسيم، وبين نضال شعبه لاستعادة ثورته وتحقيق تطلعاته في الحرية والعدالة والحكم المدني والسيادة الوطنية.

قد يعجبك ايضا