موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
بتوقيت "بشائر الفتح" جاء وقف إطلاق النار، ومنها النار التي أشعلتها الصواريخ في أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة والتي لم تكن ختام حرب الـ12 يوماً، فالختام كان في بئر السبع جنوب فلسطين وفي وسطها وفي حيفا في الشمال، ظل دوي انفجارات الصواريخ الإيرانية هو الصوتُ الأعلى حتى اللحظات الأخيرة وتسيّد مشهد الخراب الذي أحدثته الشاشات وهو المشهد الذي لن يفارق أذهان الصهاينة لسنوات.
لأول مرة يقع هذا الخراب في حرب مع كيان العدو داخل عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقول سيرورة الصراع إنها لن تكون المرة الأخيرة، فهي جولة من معركة الفتح الموعود على طريق القدس، والفتح هنا مصطلحٌ أكبر من النصر وما حصل مع إيران أكثر من صمود وليس بأقل من انتصار.
في تحوّل استراتيجي لافت، وبعد أسابيع من التصعيد والمواجهة العسكرية المفتوحة، أُسدِل الستار فجر الثلاثاء على فصلٍ من فصول الصراع الأكثر خطورة في المنطقة، في الواقع وتحت ضغط حقيقة الوقائع التي فرضتها إيران جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وقف إطلاق النار بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعدو الإسرائيلي، الذي دخل حيّز التنفيذ عند السابعة من صباح الثلاثاء، باعتباره تسليماً بالأمر الواقع الذي فرضته طهران بقوة النار والدهاء السياسي، بعد أن أثبتت أن الكلمة الأخيرة في الميدان تُكتب بالصواريخ الباليستية، وتقطف ثمرة الصمود الوطني والتلاحم والاصطفاف العظيم الذي هو بحد ذاته أحد أهم مكاسب العدوان على جمهورية إيران الإسلامية ضمن حزمة مكاسب عظمى تؤرخ لمرحلة جديدة واعدة وحبلى بالبشائر الكبرى.
الإعلان مثّل تتويجاً لملحمة صمود إيرانية فريدة، بدأت فصولها بعدوان غادر شنه العدو الإسرائيلي بضربات جوية استهدفت مواقع استراتيجية إيرانية وقادة عسكريين وعلماء، لكن قرار إنهائها كان وبقي حتى الموجة الأخيرة من الرد إيرانياً بامتياز، موسوماً بختم عمليات "الوعد الصادق 3" التي قلبت الطاولة على المعتدين وأدخلت كيان العدو وحليفته واشنطن في مأزق وجودي، بعد فشلهم الذريع في تحقيق أياً من أهدافهم المعلنة والمضمرة.
كشفت المعطيات الميدانية والسياسية عن حجم الهزيمة التي مُني بها العدوان، فقد تبخرت أهدافه الكبرى واحداً تلو الآخر، تاركةً وراءها أسئلة عميقة حول جدوى الرهان على القوة العسكرية في مواجهة إرادة القوة الوحيدة في المنطقة الواقفة في وجه المشروع الصهيوني مدعومة بموقف شعبي قل نظيره في تاريخ الأنظمة وشعوبها.
أكثر منه فرقعات وفزاعات للتهديد والابتزاز السياسي كان هدف إسقاط النظام في إيران حاضراً بقوة في تصريحات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اللذان راهنا على أن الضغط العسكري سيشعل فتيل فوضى داخلية، جرى مسبقاً التخطيط لها وتمويلها وإدخال عناصرها إلى مدن وأقاليم إيران على مدار سنوات، تساءل ترامب صراحة عن "إمكانية تغيير النظام"، بينما اعتبر نتنياهو أن إسقاطه "قد يكون نتيجة" للحرب، ولعل كواليس المخابرات الإيرانية تكشف لنا عن حجم المؤامرة الكبيرة التي خُطط لها.
لكن نتنياهو، الذي توهّم أن بإمكانه استغلال بعض الخلايا الداخلية لزعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية، صُدم بواقع لم يكن في الحسبان، فقد تحولت المحنة إلى منحة، وتجلت الوحدة الوطنية في أبهى صورها؛ حيث خرجت الملايين في طهران وسائر المحافظات، من كافة الأطياف السياسية، حتى تلك التي تُحسب على المعارضة، لتعلن بصوت واحد: "الولاء للوطن في وجه الأعداء"، أثبت الإيرانيون أن الجمهورية الإسلامية دولة ضاربة في عمق التاريخ، عصيّة على الانكسار في وجه قوى الاستكبار العالمي أن شعبها يتسم بحس قومي عميق يصعب على الأعداء تجاوزه أو استثماره والتلاعب به، وفي هذا السياق، لم يجد عضو "الكنيست" عن حزب "الليكود"، عميت هاليفي، بُداً من الإقرار بالواقع المرير قائلاً: "النظام في إيران باقٍ، ولا يزال يمتلك صواريخ وقدرة على إطلاق النار على "إسرائيل" مسنودا بموقف شعبي أعاد ترميم نفسه بعد سنوات من العمل على تجذير الخلاف بينه والنظام".
شكل تدمير البرنامج النووي السلمي الإيراني جوهر العدوان وهدفه الأسمى، بالنسبة للعدو الصهيوني والأمريكي، ورغم التدخل الأمريكي المباشر الذي حشدت له القيادة الوسطى الأمريكية 125 طائرة حربية وصواريخ خارقة للتحصينات لاستهداف منشآت "فوردو" و"نطنز" وأصفهان، فإن النتيجة كانت مخيبة لآمال الصهاينة ولرهانات الغرب عموماً.
أكد عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، إسماعيل كوثري، أن "الإجراءات اللازمة لحماية المنشآت النووية قد اتُخذت مسبقاً"، نافياً بشكل قاطع ما وصفها بـ"الإدعاءات" حول تدمير برنامج إيران النووي.
الفشل في التدخل العسكري مثّل إسقاطاً لآخر أوراق القوة التي يستند عليها الغرب في تهديده إيران ومنح الأخيرة فضاءً أوسع للتحرك بحرية واستقلال نحو حيازة مشروع وطني أصبح اليوم مطلباً شعبياً أكثر منه برنامجاً علمياً تنمويا، على أية حال. التحصينات الهندسية العميقة، خصوصاً في منشأتي "فوردو" وأصفهان، جعلت اختراقهما مهمة شبه مستحيلة، كما أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن طهران نفذت عمليات إخلاء استباقية للمواد الحساسة والخبراء قبل ساعات فقط من الضربات، مما أفقدها قيمتها العسكرية.
الاعتراف جاء من قلب المؤسسة العسكرية للعدو، حيث أكد اللواء في "الاحتياط"، يوم توف ساميا، بخيبة كبيرة: "لا يمكن تدمير برنامج نووي عبر القصف الجوي فقط، ما تبقى من المواد يمكن نقلها وتخصيبها في أماكن أخرى". ولم يتوقف اللواء عند هذا الحد، بل شكك في الرواية الرسمية لحكومته، مضيفاً: "لا يقين بأن البرنامج النووي الإيراني قد تم تدميره فعلاً".
في محاولة يائسة أخرى لشلّ قدرة الرد الإيرانية، كثّف العدو الإسرائيلي، بدعم استخباراتي أمريكي، غاراته على ما اعتقد أنها مخازن الصواريخ ومنصات الإطلاق، لكن الرد الإيراني جاء ليفضح هشاشة هذه التقديرات، مئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة الانقضاضية التي أُطلقت ضمن عمليات "الوعد الصادق 3" لم تضرب أهدافها بدقة متناهية فحسب، بل كشفت عن ترسانة متنوعة ومتطورة، بما فيها صواريخ فرط صوتية، أثبتت أنها عصيّة على منظومات الدفاع الجوي التي طالما تباهى بها العدو.
استمرت عمليات الإطلاق القوية والممنهجة حتى الدقيقة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، كانت الرسالة أكثر من واضحة ومفادها أن محاولة تحييد القوة الصاروخية الإيرانية قد باءت بفشل ذريع، وهي واعدة وما لم تكشفه إيران أكثر من مما استخدمته في التصدي للعدوان.
عملت طهران على استراتيجية متكاملة الأركان، جمعت بين القوة العسكرية والدهاء السياسي والصمود الشعبي، بداً من استراتيجية الردع المتصاعد واعتمدت القيادة الإيرانية نهجاً تصاعدياً ذكياً، بدأت بردود محدودة ذات طابع تحذيري، ثم انتقلت إلى ضربات موجعة ومباشرة شلّت الحركة في مدن كبرى مثل "تل أبيب" و"بئر السبع"، وأربكت منظومة العدو الدفاعية والقيادية. هذه الحرب النفسية-العسكرية وضعت صانع القرار في داخل الكيان أمام خيارات مستحيلة، وأجبرته على التراجع.
شكل استهداف قاعدة "العديد" الجوية الأمريكية في قطر، أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة، نقطة تحول حاسمة، ومثّلت الضربة رسالة بالغة الوضوح لواشنطن بأن لا خطوط حمراء عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الإيراني، وأن أي تدخل مباشر سيُقابل برد مباشر على القوات الأمريكية نفسها، فالضربة المدروسة أحدثت صدمة في دوائر صنع القرار الغربية وعجّلت بالبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه، والأهم أنها قدمت رسالة أكثر وضوح للدول العربية المستضيفة للقواعد الأمريكية بأنها ستدفع ثمناً من أمنها القومي بما يحوّل القواعد من حمايات إلى ثغرات ونقاط حساسة تضع أمنها على صفيح ساخن في أي مواجهة قادمة.
دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ صباح الثلاثاء، الطرف الذي أطلق الطلقة الأخيرة، وضرب الموجة القاصمة سياسياً وعسكرياً، كان إيران، خرجت الجمهورية الإسلامية من هذه المواجهة وهي أقوى وأكثر ثقة، فارضةً قواعد اشتباك جديدة ومعادلة واعدة توضع ثمارها في ميزان مشروع المقاومة في وجه مشروع الصهاينة التوسعي الخبيث.
المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علّق على هذا التطور بالقول: إن إيران "حققت نصراً استراتيجياً وأجبرت الأعداء على طلب وقف إطلاق النار".
الاعتراف بالهزيمة جاء من معسكر العدو نفسه؛ فقد عنونت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية بأن "إيران خرجت من الحرب أقوى" أما وزير الأمن الإسرائيلي السابق في كيان العدو، أفيغدور ليبرمان، فلخّص المشهد بكلمات توجز الخيبة لدى ملايين المغتصبين الصهاينة : "خاتمة الحرب على إيران نشاز، ومُرّة على إسرائيل".
اليوم، تقف إيران على أرض صلبة، سياسياً وعسكرياً، وتذهب إلى أي مفاوضات مستقبلية من موقع القوة والندية، بعد أن أثبتت للعالم الذي خذلها أن أمنها وسيادتها خط أحمر، وأن صمودها لم يكن مجرد إنجاز وطني، بل هو انتصار للأمة جمعاء وفي مقدمتها فلسطين، في مواجهة مشاريع الهيمنة والاستكبار العالمي، وهو انتصار سترتسم على ضوئه ملامح الانتصار الكبير على طريق معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس.