عبدالله علي صبري
منذ نشأة الكيان الصهيوني، لا تتوقف الكتابات والتحليلات عن الترابط الوثيق بين "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية، وعن الأسباب السياسية والثقافية التي تجعل من البيت الأبيض أكبر قوة تدافع عن هذا الكيان الإجرامي، وتنحاز إليه في كل المواقف، دون اعتبار للدول العربية التي تجمعها مصالح اقتصادية كبيرة بواشنطن وبكثير من العواصم الغربية.
بل إن ثمة أصواتاً في الداخل الأمريكي ترى أن النخبة السياسية الحاكمة بالولايات المتحدة تنحاز لـ"إسرائيل" حتى على حساب مصالح الدولة الأمريكية ذاتها، وذلك من منطلقات دينية تأثرت بـ"النبوءات التوراتية" بشأن عودة المسيح، ومعركة آخر الزمان في "هرمجدون".
ومن الأعمال المبكرة التي سلطت الضوء على هذه الحالة المركبة والمعقدة، كتابا "يد الله" و "النبوءة والسياسة" للصحفية الأمريكية غريس هالسل، التي عملت مراسلا صحفيا في حربي كوريا وفيتنام، والتحقت بالبيت الأبيض خلال الفترة 1965 إلى 1968 أثناء رئاسة ليندون جونسون.
وقد ركزت في كتاباتها -منذ ثمانينيات القرن الماضي- على الأبعاد الدينية والسياسية للتحالف الأمريكي-الإسرائيلي، وعلى الدور الذي تلعبه الأيديولوجيا الدينية في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وسعت في ما تنشر إلى فضح التحالف بين الصهيونية المسيحية واليمين الديني الأمريكي المتطرف.
بحسب هالسل يؤمن هذا التيار الديني الأمريكي -الذي يتغلغل في النخبة السياسية- بفكرة "الحق الإلهي لليهود في أرض فلسطين"، وبـ"النبوءة التوراتية"، التي ترى أن قيام "إسرائيل" شرط لعودة المسيح. وهذا يعني أن احتلال فلسطين وعدوان "إسرائيل" على الشعوب العربية جزء من "إرادة الله"!
وقد رأينا خلال يوميات معركة طوفان الأقصى، كيف تصرفت الولايات المتحدة وكأنها المسؤول الأول في العالم عن حماية الكيان الصهيوني، وتأمين بقائه، وضمان تفوقه. حتى أن رئيس مجلس النواب مايك جونسون برر هذه المواقف وما يلحقها من دعم مالي كبير، بالزعم أن "إسرائيل" حليف حيوي لأمريكا، وقال: "بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب".
إن البعد "الديني" الإنجيلي يبدو حاكما للموقف السياسي ومفسرا له، حين تبدو الأفعال الأمريكية غير مفهومة في سياقاتها السياسية. وقد أثارت هذه الخلاصة، التي توصلت إليها غريس هالسل، جدلا كبيرا في الأوساط المسيحية الأمريكية. كما تعرضت هالسل لحملات تشويه ممنهجة، وواجهت صعوبات كثيرة في نشر مؤلفاتها. واتُّهمت بـ"معاداة السامية" من قبل بعض المنظمات الصهيونية، وهو الاتهام الذي يُستخدم عادة بهدف تكميم الأفواه المنتقدة لـ"إسرائيل".
وتؤكد الكاتبة الأمريكية أن الخطاب الديني المتطرف ساهم في تشجيع الاحتلال الإسرائيلي وقمع الفلسطينيين، وأدى إلى مآسٍ حقيقية على الأرض، مثل تشجيع تهويد القدس، ونقل السفارة الأمريكية إليها.
واعتمادا على خبرتها الصحفية، لم تكتفِ هالسل بتفكيك هذه العلاقة المريبة بين دولتها والكيان الصهيوني، وبين المتطرفين اليهود والمسيحيين، بل قررت أن تزور فلسطين المحتلة، وتشاهد بنفسها نتائج الدعم الأمريكي للكيان وآثارها على الشعب الفلسطيني.
ومما خلصت إليه أيضًا، أن النهج الإستراتيجي الأمريكي في الموقف من اليهود وحروبهم التوسعية على حساب العرب، يعكس إيمانًا أعمى لا يهتم بحقوق الإنسان أو العدالة، بل بـتحقيق "نبوءات دينية" فحسب.
كما توصلت الكاتبة إلى استنتاجات تدعمها الوقائع على الأرض، في الصلب منها تحول المسيحية في الولايات المتحدة إلى مسيحية صهيونية متطرفة منكبة على "نبوءات توراتية" تغذيها امبراطوريات إعلامية وقيادات سياسية نافذة، إلى درجة أن المثقف الأمريكي لا يستنكف الحديث مثلا عن "معركة هرمجدون"، ونهاية التاريخ لصالح المسيحية الصهيونية.