موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي

في لحظة عفوية، قد يجد أحدنا نفسه يتأمل في جَلَبة أطفال عند مغادرتهم المدرسة، عِرَاك وأصوات متعالية، وتَسَابُق على صعود حافلات العودة إلى المنازل، فوراً يتكون لديه انطباع ما، فينجذب للحديث مع أحدهم أو بعضهم، ثم لا يستغرق الوقت طويلاً حتى يجد نفسه يستذكر طفولته.
وفي مقارنة غير منصفة يمنح زمانه القديم ميزة البراءة والاستثناء، فيُعَدِّد لنفسه تلك الخصائص التي كان يتمتع ويحظى بها أطفال ذاك الزمن، حين كان الطفل أكثر مرونة، وذهنه أكثر صفاءً، وسلوكه بسيطاً، ولا يخرج عن الإطار المتناسب مع مرحلته العمرية.
الطفل اليوم يبدو مختلفاً تماماً، فقد أصبح أكثر جرأة، وأكثر مبادرة، وأكثر تطلعاً ورغبة في الحصول على الأشياء. ومَرَدُّ ذلك ببساطة هو ما صار يتمتع به من تعدد للخيارات، أو لنَقُل من قدرة على تحديد خيارات معينة وذلك استناداً إلى ما اختزنه عقله الباطن من كَمِّ المواد الإعلامية التي يتعرض لها يومياً أكان على شاشات القنوات الخاصة بالأطفال أو ما تَزْخَرُ به الشبكة العنكبوتية من مواد.

الاستفادة من المشكلة

الوقوف على هذا الأمر طويلاً باعتباره مشكلة خطيرة تُنذر بمستقبل قاتم للطفل فيه الكثير من الظلم، ولا يمكن لمجتمع في الألفية الثالثة أن يتعاطى مع المتطلبات التي تتعقد يوماً بعد يوم مع تَسارُع النقلات العلمية في العصر التكنولوجي، أن تعامل مع هذه الطفرة العلمية التقنية على أنها مشكلة، ثم يحدَّد ردود فعله بناءً على هذه الفكرة.
والأصل أن المشاكل كانت دائماً نتيجة لعجز الموجهات التربوية عن الموائمة بين حاجة الطفل للَّعِب والتعرف على الجديد، وبين تمكينه من القدرة على اختيار المادة المناسبة أو التعامل مع التقنية بالشكل الذي يُفيده ويُحقق له الترفيه في الوقت ذاته، كأن يستفيد منها في الحصول على صور معينة ترتبط بمواد دراسية أو بتوسيع المدارك المعرفية، وكأن يعتمد على نفسه في كتابة المطلوب البحث عنه، فالأمر هنا -قطعاً- فيه اكتساب معلومات جديدة وتوسيع للمدارك، فضلاً عن المعرفة في التعامل مع أجهزة حديثة كالآيباد، واللابتوب، والهواتف الذكية، وكأن يُرَشِّد من استخدامه للألعاب الإلكترونية. وهي مسألة تَقعُ على الآباء مسؤولية تدريب الأطفال والنشء عليها.

الصهاينة أكثر اهتماماً

نعم لا يمكن الانغلاق، إنما أيضاً لا يمكن التسليم المطلق لهذه المنتجات التقنية فتصير متاحة بلا رقابة أو متابعة وبلا ضوابط ذاتية وموضوعية، فحضور الإشراف الأبوي مسألة حتمية، بحيث يمكن تعيين الألعاب المناسبة للطفل. وتَدخُّل الأهل في هذا الجانب لن يكون مُزعجاً له إلا إذا كان لغرض منعه منها، وإذا ما حدث ذلك فقد يَنْجُمُ عنه انعكاس سلبي يتمثل في لجوء الطفل إلى استخدام هذه الألعاب سراً، أو الخروج مع زملائه لممارسة هذه الحاجة، بما يعنيه ذلك من تَعَلُّم الطفل لعادة خطيرة هي فعل الأشياء سراً، بينما اقتراب الأهل بتوجيه الطفل للألعاب المناسبة ستُوَلِّدُ الثقة لدى الطفل.
المعلوم أن هوامير الإفساد الأخلاقي في العالم (الذين يَتصدَّرُهم الصهاينة) حريصون على غزو هذا العالم باستخدام الثورة الرقمية، والأفضلية لديهم هي غزو عقليات الأطفال والمراهقين، الأمر الذي يعني تشكيل توجهاتهم وميولهم في الاتجاهات التي تحدُّ من إمكانية أن يكونوا يوماً فاعلين وأصحاب توجهات حرة مستقلة، أو من أن يكونوا مؤثرين ومُعيقين للمخططات الصهيونية في الهيمنة على العالم.
لذلك ظلت المؤسسات -سواء الصهيونية أو التي تربطها مع الكيان مصالح- تعمل باستمرارٍ على تطوير وتحديث هذه الألعاب، ودائماً ما كانت الإصدارات من هذه الألعاب -بما فيها التحديثات- تنطوي على كثير من المثالب، الوقوع فيها قد يتسبب بما يخشى منه الجميع، وهذا ما يَفترضُ أن يكون هناك مستوى عالٍ من تركيز الأهل، فبعض الألعاب يمكن التواصل من خلالها مع أشخاص غرباء وغير أسوياء. وبعضها مملوءة بالأفخاخ، تبدأ ناعمة ثم قد تتحول إلى مصائد ابتزاز. هذا إلى جانب كون استخدام الأجهزة الذكية لأوقات طويلة لها آثارها على صحة الطفل النفسية والبدنية.
ويرى خبراء في علاج الصحة النفسية والسلوكية للأطفال والمراهقين "أن الألعاب العنيفة قد تُعزِّز ثقة الطفل بنفسه، وتُنَمّي القيم لديه إذا أحسن الأهل التوجيه."، بينما تَخْلُصُ التناولات التحليلية والتقييمية إلى أن استسهال الآباء في استخدام أطفالهم للألعاب بشكل حر غير مُنضبط يعني احتمالية تحقيق من يقف خلفها من المتربصين لفرصة إحداث الاختلالات في المجتمعات لكثير من الأهداف ذات الأثر البعيد على الفرد والمجتمع والوطن، والتي دائماً ما كانت تتمحور حول الدين والمعتقدات والأخلاق، وعلاقة الفرد بوطنه ومجتمعه، وهزّ ثقته بنفسه. وعلى الأقل هي ألعاب محكومة بالمنظومة القيمية لمنتجيها.

عوالم افتراضية إشارات غير أخلاقية

بالحديث عن المخاطر المحتملة من تعرض الطفل كثيراً وبشكل عشوائي للألعاب الإلكترونية والمحوسبة -بما فيها ألعاب العنف والمراهنات- يتضح أن هناك الكثير من العوالم الافتراضية التي تغرس في الطفل ميولات معينة غالباً لا تكون مخفية وإنما تظهر على سلوكه بشكل واضح، وإهمالها يعني تَرَسُّخها ونموها مع السنوات، والاستمرار والإفراط في استخدام الطفل لهذه الألعاب قد تَقودُه إلى وضع صياغات معينة لما تَرَسَّخ في نفسه من هذه الألعاب، وصولاً إلى ظهورها بشكل إما لا يتناسب مع فئته العمرية، أو يتنافى مع معتقدات وقيم وعادات المجتمع.
أما التأثر المخفي فيرتبط بنفسية الطفل، فبعض الألعاب تحتوي على إشارات غير أخلاقية يرتفع مستواها أو يَقِلُّ، وهذه مسألة تُشكِّل -بلا شك- صدمةً نفسية للطفل، إذ تَفرضُ عليه أموراً لم يظهر عليها بعد، ما قد يُوَلِّدُ لديه شعوراً بالكراهية، وقد تَجِدُه يتخيل ما رآه أو سَمِعهُ في هذه الألعاب يحدث في محيطه الأُسري أو الاجتماعي، ما سيجعله يُوَجِّه كراهيته إلى أفراد هذا المحيط. بل إن خبراء حذروا من لجوء الطفل أحياناً إلى مُحاكاة تلك المضامين الخبيثة، وهي مسألة يُبَرِّرُها عدم نضجه وقدرته على تمييز ما هو صواب وما هو خطأ.

رفع مستوى الرقابة الأبوية

الحرص على صحة الطفل وعدم انزلاقه في مزالق هذا النوع من الألعاب أو التي تُغَرِّبُ الطفل عن واقعه، وقد تُكوِّنُ لديه ثقافة مُشوَّهة لا تَنتمي لهذه الأرض ولا لهويتها، لا شك بأنه يتطلب رفع مستوى الرقابة الأبوية، والتدخل في اختيار الألعاب المناسبة وفقاً للمحتوى اللائق، وضبط الوقت بحيث يتم تخصيص أوقات مُحددة، وكذا مراقبة الطفل وتفاعله أثناء اللعب، ولا بأس من مشاركته اللعب، فذلك سيبني علاقة جيدة معه، إلى جانب أنه سَيُمَكِّنُ الأب من فهم اللعبة ومستوى مخاطرها.
وضمان عدم وقوع الطفل ضحية مخططات التمييع والتسطيح أو حرف استقامته وتوجيه مواقفه لا شك بأنه يستدعي المتابعة والمراقبة من قبل الآباء والأمهات، والعمل باستمرار على إعادة الطفل إلى الواقع الحقيقي وعدم تمكين تلك العوالم الافتراضية التي تخلقها الألعاب الإلكترونية من السيطرة على ذهنه البسيط فيتصور أيضاً أن عالمه الواقعي هو كذلك أو ينبغي أن يكون كذلك. وصحيح أن الألعاب تتضمن شخصيات خَيِّرة تدافع عن الحق وتقتل الأشرار، إنما حتى هذا النوع من الشخصيات لا ينبغي أن تَمُرَّ دون الحضور الرقابي للآباء، فلا يزال هناك جانب المنطق، إذ غالباً ما تَقْفِزُ شخصيات هذه الألعاب على القوانين، وتمنح نفسها حق القيام بتصحيح المجتمع ومُعالجة مظاهره السلبية دون الحاجة للعودة إلى مرجعية ضابطة، قانونية، ومَعنية بهذا الدوْر. بالتالي فإن ترك الطفل يَنْدَمِج ويَتَمَاهَى مع هذه الشخصية، خصوصاً وأنه يَتَقَمَّصُها أصلاً في اللعبة مسألة قد تَدْفَعُه إلى التقليد الأعمى، وإنْ في الزمان والمكان الخطأ، فضلاً عن استخدام السلاح بشكل يُصوِّرُ له أنه بالإمكان أن يكون كتلك الشخصية.

القادم من سياقات الألعاب

في واحدة من مظاهر التأثر السلبي غالباً ما يَمْيُلُ الطفل إلى الانعزال والانطواء، ويبدأ الأمر من لجوئه لاستخدام هذه الألعاب مُنعزلاً عن الآخرين، وهو ما قد يَنْعكِس على بناء شخصيته ونُمُوِّه الفكري وقدرته على التواصل مع المجتمع، فضلاً عن احتمالية إصابته ببعض الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر. هناك أيضاً السلوك العدواني، فكثير من الأطفال يميلون إلى تقليد الشخصيات التي تُبرزها وتُضخمها هذه الألعاب، على غير إدراك منهم لما هو منطقي أو غير منطقي، والعنف بشقيه اللفظي والجسدي هو مظهر للعدوانية يتكون مع تراكم الصدمات القادمة من سياقات الألعاب، كالتعرض للخسارة، أو أحياناً ظهور إشكالات تقنية، أو عدم القدرة على الاستمرار في اللعبة لأي سبب كان، ما يؤثر على عصبية الطفل ويَنْعكِس على سلوكه مع محيطه سواء داخل المنزل أو في المدرسة أو حتى مع أقرانه في الحارة.
ورغم وجود دراسات تؤكد الأثر الإيجابي لهذه الألعاب على مستوى تنشيط الدماغ وتنمية قدرات التفكير والمهارات المعرفية، إلا أنه في المقابل هناك أيضاً مشكلة الإدمان المرضي، التي لا تعني فقط الرغبة باستمرار للعودة إلى اللعب، وإنما التعرض لاضطرابات الإدمان المرضي التي تجعل من العودة للعب أمراً مُلِحاً، مثلها مثل اضطرابات الإدمان الأخرى.
وفي الخلاصة فإن ألعاب الأطفال الإلكترونية قد تتحول من مجرد ألعاب ترفيهية يمارسونها في أوقات فراغهم، إلى أداة هدم لمنظومة القيم والأخلاق، ولشخصية الأطفال والنشء الذين سيشكلون جيل المستقبل، ناهيك عن صحتهم العقلية والبدنية.