في هذه المناسبة التي هي ذكرى سنوية، دائماً نركِّز فيها على تخليد ذكرى الشهداء، والحديث عنهم، والحديث عن سيرهم، وعن عطائهم؛ باعتبارهم مدرسة نموذجية تقدِّم لنا وتجسِّد لنا قيم الإسلام ومبادئه، عرفاناً بحقهم، واستفادةً منهم، واعترافاً بعظيم منزلتهم عند الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، وبأهمية عطائهم فيما يتعلق بنا في واقعنا، وبما كتبه الله كثمرةٍ لذلك العطاء، ولتلك التضحية من نصرٍ، وعزٍ، وكرامةٍ، وحياةٍ لشعبنا وأمتنا.
ثم أيضاً بالحديث عن قدسية الشهادة، وعن مفهوم الشهادة بالمعنى الصحيح، والمفهوم الصحيح الذي قدَّمه القرآن الكريم، وأهمية هذا المفهوم الذي له صلة كبيرة جدًّا بحياة الأمة، بعزتها، بقيمها، بدينها، بمبادئها الإسلامية الإلهية العظيمة، والحديث كذلك عن أهمية المسؤولية تجاه أسر الشهداء، التي نحن جميعاً على المستوى الرسمي والشعبي معنيون بها، بالاهتمام بأسر الشهداء على كل المستويات: الرعاية المادية للفقراء منهم، ومواساة المحتاجين منهم، العناية بهم، العناية بهم على المستوى المعنوي، وأيضاً على كافة المستويات.
فهذه المناسبة هي تلفت النظر إلى هذه النقاط بشكلٍ أكبر، وإلَّا فهذه الأمور هي محط اهتمام بشكلٍ مستمر، ونحن معنيون بها على الدوام، إلَّا أنَّ مثل هذه المناسبات تزيدنا اهتماماً، وتلفت نظرنا أكثر، وهي مفيدةٌ ومهمة، نحن بحاجة إليها في المقدِّمة، أمَّا الشهداء فهم أغنياء عن ذلك، الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” قد شرَّفهم، ومنَّ عليهم بما أعدَّ لهم من عظيم المنزلة والثواب والأجر العظيم، ولكن نحن من نستفيد تربوياً وأخلاقياً وإنسانياً وإيمانياً، ونستفيد في الواقع بما نتزوده أيضاً من هذه المدرسة المعطاءة، التي هي عظيمة العطاء، وعظيمة الأثر، وعظيمة النتائج.
عندما نعود إلى القرآن الكريم، نجد أنَّ الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” أثنى بعظيم الثناء على الشهداء، ووعدهم بالوعد العظيم، والأجر الكبير، والمنزلة الرفيعة، وهذا يلفت نظرنا إلى الأهمية الكبيرة للشهادة، وهذه الأهمية مرتبطةٌ بإحياء الروح الجهادية في الأمة؛ لأن هذه الأمة تحتاج إلى أن تتحرك في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى” لإحياء فريضة الجهاد في واقعها، ارتبط عز هذه الأمة، مجد هذه الأمة، كرامتها، حريتها، استقلالها، منعتها، قوتها، كل هذا ارتبط بإحياء فريضة الجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى“، بدون الجهاد في سبيل الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى“ تذل الأمة، وتهون الأمة، وتضعف الأمة، وتتشتت الأمة، ويقهرها أعداؤها، ويغلبها أعداؤها، ويستذلها ويستعبدها ويقهرها أعداؤها.
الجهاد في سبيل الله هو نَظْمٌ لجانبٍ مهم في واقع الأمة، فالمجتمعات البشرية تعيش في واقعها حالة الصراع، حالة النزاع، حالة الاختلاف، والشر موجودٌ في واقع البشر، هناك أشرار، هناك خلافات، هناك أطماع، هناك من يتحركون من أبناء المجتمع البشري وهم يحملون عقدة البغي، والعدوان، والطغيان، والاستكبار، ويمارسون الظلم، ويشكِّلون خطراً وتهديداً على أمن المجتمعات البشرية، على السلم في المجتمع البشري، وبدون أن يتحرك الآخرون الذين ينتمون إلى الخير، ينتمون إلى الإيمان بالمبادئ الإلهية، والقيم الإلهية، والقيم الفطرية والإنسانية، بدون أن يتحركوا هم أيضاً في إطار مسؤولياتهم المقدَّسة، مسؤولياتهم العظيمة، وفقاً لسنَّة الله “سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى”، التي عبَّر عنها الله في القرآن الكريم بقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة: من الآية251]، بدون أن يتحركوا، هم يفسحون المجال نتيجة لتخاذلهم لجبهة الشر، للمجرمين، للطغاة، للأشرار المجرمين، السفاحين، السفاكين للدماء، وينتج عن ذلك مآسٍ كبيرة، وكوارث رهيبة، ومظالم خطير جدًّا في واقع الناس.
فالمجتمعات البشرية بشكلٍ عام تسعى لأن تكتسب في واقعها القوة، والمنعة، والقدرة العسكرية، وكل وسائل القوة التي تساعدها على الدفاع عن نفسها، على دفع الأخطار عنها.
بل البعض من المجتمعات البشرية لا تكتفي بهذا المستوى من الاهتمام، من الجهوزية، من السعي للقوة، بل تسعى إلى أن تكون في مستوى القدرة على ضرب الآخرين، على السيطرة على الآخرين، على قهر الآخرين، على التغلب عليهم، وعلى ثرواتهم، وهذا معروفٌ في الواقع البشري: أنَّ هناك اهتمام كبير بأن تكون المجتمعات قوية، وأن تكتسب كل وسائل القوة التي تحميها، أو أكثر من ذلك: تستغلها لاستهداف الآخرين والسيطرة عليهم. فالإسلام هو ينظم هذه المسألة: مسألة أن تسعى الأمة لتكون قويةً، منيعةً، قادرةً على دفع الخطر عنها، على دفع الشر عنها، ينظم هذه المسألة ضمن الالتزامات الإيمانية والأخلاقية، ووفق القيم الإلهية، والمبادئ الإلهية، والضوابط الأخلاقية، ويربطها في غاياتها وأهدافها بما هو مقدَّس، بما هو مرتبط بالقيم والمبادئ والأخلاق الإلهية.
وبدون الاهتمام بهذا الجانب، فالنتيجة خطيرة جدًّا في واقع الأمة: تبقى الأمة بدون منعة، بدون قوة، بدون عزة، ويستبيحها الأشرار الطغاة المجرمون الظالمون، يستغلون ضعفها، يستغلون عجزها، يستغلون هوانها وذلها، فيستهدفونها بكل أشكال الاستهداف.
وواقع المسلمين هو يترجم هذه الحقائق: حالة الضعف في الواقع الإسلامي، في واقع المسلمين، وليس في الإسلام نفسه، حالة الضعف الرهيب، وما ينتج عنه، وما يترتب عليه من مآسٍ ومظالم كبيرة في واقع أمتنا، هو يدل بشكلٍ واضح على أهمية هذه الفريضة، وما يرتبط بها من نتائج مهمة في واقع الأمة.
كلمة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في تدشين ذكرى الشهيد 1445 هـ