لم تكن الصدمة في الرقم، بل في الدلالة. عشرة آلاف طائرة مسيّرة ضُبطت في قلب إيران، لا في قواعد أجنبية ولا في صحارى بعيدة، بل في عمق البلاد، داخل حدود السيادة. ومن يقف وراءها؟ عملاء للكيان الصهيوني. لا مرتزِقة على الأطراف، بل خلايا نائمة، زرعتها الأيدي الإسرائيلية في خاصرة الأُمَّــة، تنتظر لحظة الصفر لتغدر بالداخل، قبل أن ينهض من تحت أنقاض الغارة الأولى.
قد يظن البعض أن الأمر مُجَـرّد معلومة أمنية، أَو نجاح استخباراتي عابر. لكن الحقيقة أنه جرس إنذار مدوٍّ لكل من لم يُدرك بعد كيف يخوض اليهود معاركهم ضد الأُمَّــة. إنهم لا يشنّون حروبًا تقليدية، بل ينخرون المجتمعات كما ينخر السوس جذوع الأشجار؛ صامتين، متخفّين، بأدوات ناعمة حينًا، وبوسائل قاتلة حينًا آخر، حتى إذَا استشرى الفساد، سقط الجسد من تلقاء نفسه.
اليهود لا يدخلون الأوطان من حدودها... بل من عقول أبنائها:
صهاينة اليوم لا يعتمدون على الجيوش والطائرات وحدها، بل يُجنّدون العقول، يُوظّفون الإعلام، يُسخّرون الألسنة العربية والفارسية معًا، لتصوّب رصاصها نحو الداخل. وما كشفته إيران من تلك المسيّرات، ليس إلا جزءًا ضئيلًا من المشهد. فكم من طائرةٍ أُخرى تحلّق في فضاء وعينا؟ كم من مشروع ثقافي، أَو حملة إعلامية، أَو نداء "سلام زائف"، ما هو في حقيقته إلا طائرة معادية بلا أجنحة، تضرب الذاكرة وتسمّم المفاهيم؟
يا شعب إيران، ويا أحرار اليمن، ويا مقاومي لبنان، ويا فدائيي فلسطين... إن المعركة لم تعد على تخوم الحدود فقط، بل تسلّلت إلى قلب البيوت. لم يعد الوعي ترفًا فكريًّا، ولا شعارًا في المسيرات، بل بات شرط نجاة وركيزة بقاء. فنحن نعيش زمنًا لا تُخاض فيه الحرب فقط بالسلاح، بل بالفكرة، بالكلمة، بالصورة، وبالوعي المغشوش.
أرادوا أن يضربوا إيران من داخلها، فاعلموا أن المخطّط نفسه يُرسم لليمن، ولغزة، وللبنان، ولكل أرضٍ ترفض أن تنحرف بوصلتها عن القدس. هكذا هي طبيعة المعركة: أن يُدفَع أبناء الأُمَّــة لقتل أنفسهم، وأن تُهدم بيوتها بأيديهم، فلا يُكلّف العدوّ سوى مراقبة المشهد عن بعد. هذه هي عقيدة الكيان، وتلك صنائع مجرميه في تل أبيب.
لكنهم غفلوا عن أمرٍ جوهري: أن شعوبنا لم تعد كما كانت. فأُولئك الذين أرعبتهم المسيّرات في سماء غزة، وقتلتهم على ترابها، لا يزالون حيّين في وجدان الأُمَّــة، صوتًا حيًّا لقضيةٍ لم تمت، رغم القصف والحصار. وسيدرك العدوّ، عاجلًا أَو آجلًا، أن الحديد لا يكسر الإرادَة، حين يتحوّل الوعي إلى سلاحٍ في يد كُـلّ حرّ... سلاح لا يُشترى ولا يُباع.
لن تنجو أُمَّـة إلا بالوعي:
ولن تُحمى جبهة إلا بالتنبه لعدو الداخل.
ولن تُهزم (إسرائيل) حتى نحاصرها من داخلها، كما تسعى لمحاصرتنا من داخلنا.
فيا أحرار الأُمَّــة...
لا ترفعوا رؤوسكم إلى السماء فقط، ترقّبًا للصواريخ والطائرات، بل انظروا من حولكم، تحت أقدامكم، خلف شاشاتكم، وفي تفاصيل حياتكم اليومية.
قد تكون المسيّرة التالية... داخل غرفة نومكم.