الغربلة.. سنة إلهية عبر الزمن
تتجلى حقيقة الإنسان أولًا في انتمائه الإيماني، ثم يتجلى واقع الإنسان لأكثر من ذلك، أكثر من مجرد الانتماء، أهم ميدان تتجلى فيه حقائق الناس وخباياهم وخفاياهم، ويخرج ما في أعماق نفوسهم إلى واقعهم العملي: فيما يقولون، وفيما يفعلون، أهم ميدان يجلِّي الناس، يكشف الناس، يوضح الناس، يبين الناس… هو ميدان الصراع، فمثلًا: في واقع الإيمان والقيم الإيمانية، وما عليه المؤمنون، تتجلى تلك القيم- التي هي في الأساس جذورها في أنفسهم: معتقدات، ومبادئ، ومعانٍ، ووجدانٍ إيماني: محبة لله، وخوف من الله، وتعظيم لله، ونفوس زاكية وصالحة… تتجلى تلك القيم- في الممارسات، في السلوكيات، في الأعمال، في المواقف، وما عليه الخبيثون: الإنسان الذي هو خبيث، ولو كان ينتمي للإيمان، ولو كان يقدِّم نفسه حتى متدينًا، يتجلى ويتضح وينكشف ذلك الخبث في واقعه العملي، في سلوكياته، في مواقفه، في أقواله، في أفعاله، في تصرفاته؛ فيتضح حقيقة ما هو عليه.
في ظل ظروف اعتيادية ليس فيها أمور حساسة، ولا مشاكل، ولا أخطار، ولا تحديات، ولا انفعالات، ما يثير حالة الانفعال لدى الناس، قد يظهر الكثير من الناس: [ما شاء الله العظيم من أهل الخير، وأطيابًا ومؤمنين]، ولكن عندما تأتي مثل هذه العواصف من الأحداث المزلزلة: فيها مخاوف، فيها أخطار، فيها انفعالات، فيها…
عوامل تحرك هذا الركود والجمود في واقع الناس؛ فيخرج ما في نفوس الناس، وما في قلوبهم، وما في أعماق أنفسهم، ليتجلى في واقعهم العملي والسلوكي: في الأقوال، والتصرفات، والمواقف، والولاءات، والعداوات… تظهر كل الأمور، ولهذا نجد في هذه الآية المباركة: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ}، آية مهمة، هذه الآية المباركة في سورة آل عمران، وهي تأتي في إطار الحديث عن هزيمة أُحد، ما ترتب عليها من: تضحيات، ومأساة، واهتزاز كبير داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، المجتمع المسلم تسببت هزيمة أحد في إحداث اهتزاز كبير، وغربلة كبيرة لواقعه الداخلي، البعض ممن كانوا في الماضي يظهرون كمؤمنين، صالحين، صادقين، ثابتين، جادين، أوفياء، لو أن المسألة مجرد كلام- مثلًا- البعض يمكن أن يطلّع لك قائمة طويلة من المبادئ التي يزعم على أنه عليها، فيقول مثلًا: [أنا من الأوفياء، وأنا من الصادقين، وأنا من الثابتين، وأنا من الكذا، وأنا وأنا…]، يعبِّر عن نفسه بقائمة طويلة عريضة يزعم أنَّه على تلك المبادئ والقيم، لكن عندما تعصف الأحداث تكشف حقيقة الناس، تغربلهم،
هذه سنَّة إلهية، وما كان الله ليترك المؤمنين في كل عصر، في كل زمن، في كل جيل، إلَّا وتمضي عليهم هذه السنة، هذه سنَّة إلهية مع كل الأجيال؛ ولهذا أتى التعبير القرآني على هذا النحو: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} ما يمكن أن يترككم على ما أنتم عليه: واقع يمكن أن يدخل فيه الخبيث مع الطيب، يمكن أن يقدِّم الجميع أنفسهم على أنهم: طيبون، وصالحون، وأبرار، وأخيار، وملائكة، ومن أهل الخير… لابد؛ لأن الله لا يقبل الغش أبدًا، لا يقبل الخداع، لا يمكن للإنسان أن يخادع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولهذا عندما نأتي- مثلًا- إلى واقعنا في هذا الزمن، نحن في هذا الجيل وهذا العصر، عندما نشاهد هذه الأحداث التي تعصف بنا، وتنزل بساحتنا، وتأتي إلى واقعنا، وهي أحداث تعنينا نحن، متى نتصور أنَّ الاختبار الإلهي سيأتي؟ أم أنه سيأتينا هذا الاختبار الإلهي يوم القيامة؟! مثلًا: البعض من الناس لم يسمح لنفسه بأن يتفهم حتى هذه المسألة: أننا نعيش اختبارًا إلهيًا، يختبرنا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ماذا سنكون عليه، ما هي مواقفنا، كيف هي ولاءاتنا، كيف هي قيمنا وأخلاقنا؟ وبماذا يختبرنا؟ يختبرنا بالأحداث، بالمشاكل، بالتحديات، بالأخطار، عندما يأتي إلى واقعنا مثل هذه المشاكل، وهذه الأخطار، وهذه التحديات، يختبرنا فيما إذا كنا سننهض بالمسؤولية، ويتجلى في نهوضنا بالمسؤولية كل تلك القيم، كل تلك الأخلاق، كل تلك المبادئ، أم أننا سنفشل، ولن ننهض بالمسؤولية، ويتجلى في واقعنا الشيء الآخر: الذي هو الخبث.
{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، لابدَّ من الأحداث التي تغربل الناس، وتكشف واقعهم، وتجلي حقيقة ما في أنفسهم؛ فيظهر الخبيث، ويظهر الطيب، أين سيكون الطيب، وأين سيكون الخبيث بحسب التوصيف القرآني؟ هل الطيب هو الذي يستجيب لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وينهض بهذه المسؤولية، يضحي، يعاني، يصبر، يثبت، يعمل بمقتضى إيمانه، بمقتضى تلك القيم، مقتضى تلك التوجيهات الإلهية في القرآن الكريم: التوجيهات الإلهية بالجهاد، والتضحية، والعطاء، والصبر، والثبات… وكل تلك التوجيهات الإلهية؛ أم هو الخبيث الذي يفعل هكذا، مَن مِن الطرفين؟ المتنصل عن المسؤولية، المتهرب من تلك التوجيهات الإلهية، أم الناهض بها، من منهما الخبيث، ومن منهما الطيب؟ المسألة واضحة في القرآن الكريم كل الوضوح.
ونجد في بقية النصوص القرآنية- مثلًا: في سورة آل عمران- أنَّه في الظروف الحسَّاسة والخطرة والاستثنائية يأتي الاختبار بشكل أكبر وأعمق، مثلًا: في الظروف المطمئنة يمكن للبعض من الناس أن- لا بأس- يتماشى معها، ويتظاهر بأنه في صف الحق، وأنه ضد الباطل، وضد الإجرام والطغيان والعدوان والظالمين والمجرمين، لكن عندما تكون هناك اهتزازات أكبر، البعض |لا|، كالغربال الذي كلما اهتز نقى أكثر وأكثر، وتساقطت منه الكثير من الشوائب، تتساقط منه أكثر وأكثر، فمثلًا في هزيمة أحد: البعض من الناس كان ما قبل هزيمة أحد في الصف الإسلامي يظهر وكأنه من الثابتين والصالحين والمؤمنين والمقتنعين بهذا الحق، بهذه المبادئ،
بهذه القيم، بهذه المواقف التي رسمها الله، والتي ينبغي أن نكون عليها، وأن نتمسك بها كمؤمنين؛ لأن هذا معنى أن تكون مؤمنًا بتلك: المبادئ، القيم، الأخلاق، التوجيهات الإلهية، المواقف التي رسمها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مقتنعًا بها، وملتزمًا بها، فعندما تأتي لتقول: [أنا مؤمن، أنا أتَّبع هذا القرآن، أنا أؤمن بهذه التوجيهات والتعليمات، أنا أؤمن بهذه المواقف، ولائي هو هذا الولاء، اتجاهي هو هذا الاتجاه]، يأتي الاختبار الإلهي، تأتي- أحيانًا- مواقف صعبة: إما تراجعات، أو انكسارات، أو مواقف تحقق فيها للعدو بعض التقدمات، يحصل شهداء، يحدث أن يكون هناك جرحى، أن يكون هناك تراجعٌ ما… فيهتز البعض اهتزازًا كبيرًا.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}[آل عمران: من الآية140]، في كثير من الأحيان يكون العدو قد خسر هو كذلك، وقد تكبَّد الكثير من الخسائر والهزائم، وينسى البعض من الناس هذه المسألة، لا يرون إلَّا حالة الضرر، أو الألم، أو وقوع شهداء أو جرحى في صف المؤمنين؛ فيجعلون من المسألة مشكلة،
ويهوِّلون من خلالها، ويرجفون، ويثبطون، ويخذلون، ويصوِّرون المسألة أنَّها: مسألة خطيرة، وأنَّه لا يمكن للناس الثبات، وأنَّ الموقف خطأ، وانظروا كيف كانت النتيجة…الخ. الله يقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، يحصل في الواقع البشري أن يحدث- أحيانًا- تراجع، أحيانًا ضرر، أحيانًا شهداء، أحيانًا جرحى، يحدث لاعتبارات كثيرة تعود إلى الواقع البشري.
{وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140 وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ 141 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين142َ}[آل عمران: 140-142]، الآية المباركة تقول: {وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}، يتبين في الواقع العملي، وبالفعل، ومن خلال الأحداث نفسها يتبين من هم المؤمنون الصادقون الأوفياء، تبينهم ماذا؟ تبينهم الأحداث من خلال ثباتهم، من خلال استمراريتهم، من خلال وفائهم، من خلال صبرهم، من خلال تضحيتهم، من خلال عطائهم؛ لم يتراجعوا، لم ينكسروا، لم يهنوا، لم يضعفوا، لم يستكينوا، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية146].
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
المحضرة السادسة من محاضرات الهجرة النبوية 1440 هـ