الاستراتيجية الروسية تجاه التطورات في الجنوب اليمني المحتل
|| صحافة ||
بعد فشل المحاولات السعودية المتكرّرة لإحياء اتّفاق الرياض في اليمن بين –ما يسمى حكومة هادي المخلوعة وقوات ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً– فشلاً ذريعاً، كما أنه من المتوقع حدوث جولة جديدة من التوترات بينهم، وفي غضون ذلك، وصول عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي إلى روسيا في خطوة يبدو أنها تجهز لدخول الجنوبيين إلى ساحة التطورات الجديدة في اليمن، وهذا بدوره يدعو إلى التساؤل حول استراتيجية موسكو بشأن قضية جنوب اليمن.
العلاقات الروسية السعودية الإماراتية
هناك نقاط مشتركة استطاعت موسكو البناء عليها بعد أن أفسحت الولايات المتحدة الأمريكية لها المجال لكي تحاول التأثير في التوجّـهات السعودية والإماراتية وتوافقهما مع الرغبات الأمريكية، فقد شاركت روسيا على سبيل المثال في المنتدى الاستثماري “دافوس الصحراء” الذي نظمته السعودية في أُكتوبر 2018م، عندما أعلن عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين والأُورُوبيين انسحابهم من المنتدى على إثر مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بالقنصلية السعودية في إسطنبول، فاستغلت روسيا هذه الفرصة سريعاً لتكبير حجم وفدها التجاري وقامت بتوقيع عدد من العقود فيما كان في الواقع خطوة هدفت إلى إثبات استعداد موسكو لمساندة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أكثر من كونها رغبة منها بعقد الصفقات.
ورغم جهود روسيا على هذا الصعيد لم تهمل الشريك الثاني في التحالف الذي تقوده السعودية، فقد وقع الروس والإماراتيون اتّفاقية دفاع بلغت قيمتها 2 مليار دولار في فبراير 2017م، وتبع ذلك إعلان شراكة استراتيجية في يونيو 2018م، عززت العلاقات الاقتصادية في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، ولا تحتاج الإمارات إلى إثبات فائدتها لروسيا في سياق تحقيق الأخيرة لأهدافها، فقد كانت الإمارات هي الوسيط في المصالحة بين إريتريا وأثيوبيا في يوليو 2018م، والذي مكن روسيا من المضي قدماً باستثماراتها في إرتيريا وخططها التوسعية في أثيوبيا.
وكانت الإمارات من أوائل الدول العربية التي أعادت فتحَ سفارتها في دمشق في ديسمبر 2018م بعد مقاطعة دبلوماسية عربية دامت ما يقارب السبعة أعوام، وهو ما مثل خطوة أُخرى نحو أهداف روسيا في المنطقة.
وهذا التقارب كان من أهم الأسباب التي قادت الجنوبيين إلى موسكو بعد انهيار الاتّفاق مع هادي أَو بالأحرى مع السعودية؛ بهَدفِ استقطاب دعم قوة دولية للمستقبل على أَسَاس الماضي التاريخي من العلاقات الوثيقة بين الجانبين، والذي لن يكون إلاّ وفق الرؤية الإماراتية.
العلاقات التاريخية بين الجنوبيين وموسكو
وفي السنوات الأخيرة، سعت روسيا إلى الحفاظ على علاقات وثيقة مع الجنوبيين، في سبتمبر 2018م بعد أن تم استبعاد المجلس الانتقالي من المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة في اليمن، قال سفير روسيا في اليمن، فلاديمير ديدوشكين، إن جنوب اليمن جزء مهم من البلاد ويجب أن يكون له ممثلون في أي اتّفاق سلام، وقد رحب أعضاء المجلس الانتقالي الجنوبي بهذا الرأي، وفي مارس 2019م كانت وزارة الخارجية الروسية أول من دعا مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي للقيام بزيارة رسمية إلى موسكو.
كما حافظت روسيا على عقدٍ مع حكومة هادي منذ سبتمبر 2017م لطباعة وتحويل الأوراق النقدية بأمان من موسكو إلى عدن، ما ساعد عدن على دفع رواتب أفرادها العسكريين والأمنيين في جنوب اليمن المحتلّ، ويبدو أن موسكو تنظر إلى التطورات في اليمن على أنها نقطة تحول في استعادة النفوذ الروسي في المنطقة.
أهداف روسيا الجيوسياسية في جنوب اليمن
لا شك أن موسكو تسعى إلى تحقيق أهداف جيوسياسية من خلال تعزيز وتقوية العلاقات مع جنوب اليمن، حَيثُ تم الإعلان عن أهداف روسيا في البحر الأحمر لأول مرة في يناير 2009م عندما تحدث مسؤول عسكري روسي رفيع المستوى عن الحاجة إلى إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن، وفي عام 2017م أَيْـضاً، دعا القائد العام السابق للبحرية الروسية فيليكس جروموف إلى إنشاء قاعدة بحرية روسية بالقرب من طرق التجارة في خليج عدن، ووصف معهد موسكو للدراسات الشرقية جزيرة سقطرى بأنها موقع مثالي لمثل هذه القاعدة.
حيث تتزايد أهميّة امتلاك قاعدة في المنطقة للمصالح الجيوسياسية لروسيا، حَيثُ ترى موسكو جنوب اليمن كبوابة لنفوذ واسع النطاق في القرن الإفريقي.
في نهاية الحرب الباردة، تخلت موسكو عن قواعدها في جنوب اليمن وفقدت النفوذ الجيوسياسي في المنطقة لصالح أمريكا، كما أن الصدع بين الجنوبيين والإمارات من جهة، والسعودية من جهة أُخرى، يمكن أن يمهد الطريق لعودة النفوذ الروسي في المنطقة، بينما يتراجع النفوذ الأمريكي.
هذا وتأمل روسيا في إنشاء قاعدة عسكرية في اليمن من خلال إقامة علاقات مع مجموعة واسعة من الفصائل اليمنية الجنوبية، مثل الحزب الاشتراكي اليمني التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي والحركة الانفصالية الجنوبية (الحراك الجنوبي السلمي)، وقبول اقتراح الرئيس الأسبق علي عفاش لموسكو حول تأسيس قاعدة عسكرية لها في اليمن، حَيثُ قال “عفاش” حينها لتلفزيون روسيا 24 الحكومي في أغسطُس 2016م: “في الحرب ضد الإرهاب، سنوفر كُـلّ التسهيلات ونحن مستعدون لعرض مطاراتنا وموانئنا على روسيا الاتّحادية”.
آمال روسيا في دعم الجنوبيين مدعومة بآمال أُخرى
في عام 2017م، زار محمد بن زايد موسكو والتقى ببوتين، وقالت مصادر مخابراتية: إن أبو ظبي عرضت على موسكو مكاناً لرسو السفن الروسية في خليج عدن، كما وعد ابن زايد بوتين بإقامة “محطة توقف” رابعة من قناة السويس في البحر المتوسط إلى بحر العرب –وتشمل القواعد الأُخرى الإسكندرية والعقبة والفجيرة– تعتزم روسيا تحقيق قوة بحرية خفيفة وسريعة في المياه الدافئة، الأمر الذي يتطلب محطات صيانة بحرية في مياه المنطقة، في المقابل رفضت دول مثل جيبوتي مراراً طلب روسيا لبناء قاعدة بحرية على أراضيها خوفاً من التوترات مع القواعد الأمريكية والإسرائيلية.
لكن من ناحية أُخرى، فَـإنَّ الوجود في جنوب اليمن يمكن أن يساعد روسيا كأدَاة مهمة في إدارة المنافسة على الطاقة.
في مارس 2020م، كان هناك خلاف على إنتاج النفط بين السعودية وروسيا، ويستمر الخلاف رغم إعلان التعاون بين البلدين في أوبك بلس، لذلك قد تسعى موسكو إلى دعم المجلس الانتقالي الجنوبي وتمكينه من تحقيق السيطرة الميدانية تدريجيًّا حتى الاعتراف به كدولة ونظام؛ بهَدفِ السيطرة من خلاله على مضيق باب المندب وخليج عدن.
روسيا والخطوط العامة لميزان القوى في اليمن
على الرغم من الفوائد الجيوسياسية التي قد تحصل عليها روسيا من تقسيم اليمن، فَـإنَّ موسكو لا تدعم بشكل مباشر استقلال جنوب اليمن؛ لأَنَّ هذا من شأنه أن يخلق خلافات خطيرة مع الشمال وخُصُوصاً حركة أنصار الله، حَيثُ تعتبر روسيا الاستقرار في جنوب اليمن شرطاً مسبقًا لهدفها المتمثل في توسيع دائرة نفوذها في البحر الأحمر، ولهذه الغاية رسخ الكرملين نفسه حتى الآن كوسيطٍ موثوقٍ به في النزاع، وحافظ على علاقات وثيقة مع حكومة الفار هادي وعلاقات غير رسمية مع السياسيين اليساريين في جنوب اليمن، وهو موضوع رحب به السعوديون أَيْـضاً، الذين فشلوا في تحقيق السلام بين حكومة هادي والمجلس الانتقالي حتى هذه اللحظة.
ومع ذلك، يمكن النظر في إطار السياسة الروسية تجاه اليمن في دعم برامج وقف الحرب التي تحافظ على العلاقات مع جميع الجهات الفاعلة والأطراف المحلية والجهات والأطراف الفاعلة الإقليمية، من خلال سياسة “توازن القوى”، حَيثُ تعتقد روسيا أنها تستطيع أن تحدث وجوداً أكثر فاعلية في اليمن بالقرب من مضيق باب المندب لتسهيل العمليات البحرية وضمان الأمن الإقليمي.
صحيفة المسيرة