الشهيد عبد الكريم الخيواني.. الفجرُ بعد سناك مسودٌّ كظيم

7 سنوات على فاجعة "الاغتيال" والعيون لم تجف بعد من الحزن

|| صحافة ||

لا زلتُ أتذكَّرُ ذلك اليوم الأسود حين تناقل الجميعُ وبسرعة البرق نبأَ اغتيال الكاتب والصحفي والأديب الأُستاذ عبد الكريم الخيواني، والذي نزل علينا كالصاعقة، وعشنا في دوامة من هَولِ ما سمعناه، وأدركت وقتَها أن القادمَ سيكونُ دموياً وهو ما حدث بالفعل، حَيثُ ارتكب المجرمون بعد أَيَّـام قليلة مجزرتي بدر والحشحوش، ثم جاء العدوان الأمريكي السعوديّ ليدشّـن فصلاً جديدًا مباشراً من الجرائم المتوحشة بحق الشعب اليمني.

لقد جاءت هذه العملية في لحظة تاريخية دقيقة يمر بها اليمن، وبعد انتصار ثورة 21 سبتمبر 2014، وفي سياق مؤامرة داخلية وخارجية كانت تحاك ضد اليمن حَيثُ أقدم قاتل مأجور على اغتيال الصحفي عبد الكريم الخيواني ظهيرة الأربعاء 18 مارس 2015 بعد عودته مباشرة من حضور اجتماع مع أعضاء اللجنة الثورية العليا لمناقشة استكمال الفراغ الدستوري في اليمن، ولوضع معايير اختيار أعضاء المجلس الوطني بحسب بيان اللجنة الثورية العليا الصادر في 19 مارس 2015.

وقال البيان: “إن الشهيد عبد الكريم الخيواني كان من أبرز المناضلين الذين فجروا ثورتي 11 فبراير 2011 و21 سبتمبر 2014، وبجهوده ورفاقه من الثوار توج مسار الثورة المتواصلة بالإعلان الدستوري بتاريخ 6 فبراير 2015، والذي كان الشهيد من الذين أعدوا وحضروا للإعلان الدستوري بعد مؤامرة الاستقالات السياسية الممنهجة؛ بهَدفِ إسقاط الثورة وقرارها الوطني”.

وأعلنت اللجنة الثورية بعد حادثة اغتيال الخيواني الحدادَ الرسمي العام، وتنكيس الأعلام لمدة يومين، كما تم تسمية شارع الرئاسة في جنوب العاصمة، والممتد من ميدان السبعين، وحتى تقاطع شارع تعز باسم الشهيد عبد الكريم الخيواني، ودعت اللجنةُ يومَها إلى أن تكونَ جنازةُ الشهيد العظيم الخيواني يوماً للعزة والكرامة والحرية، ولعزل الإرهاب، وجرائم العنف والاغتيال المنظم عبر حضور مليوني حاشد في صنعاء والمحافظات في يوم تشييع جنازة الشهيد الخيواني.

في ذلك الوقت كان اليمن يمر بمنعطف تاريخي خطير، ومن خلف الستار، كانت السعوديّة وبرعاية مباشرة من أمريكا وبريطانيا تتحضر لشن عدوان غاشم على الشعب اليمني، فكانت عملية اغتيال الشهيد عبد الكريم الخيواني أول رصاصة في هذا العدوان، وربما أن العدوّ كان يدرك جيِّدًا خطورة الإعلام، وأهميته في مواجهة المخطّطات الإجرامية لقوى العدوان، ففضل أن تكون طلقته الأولى صوب أبرز الإعلاميين اليمنيين في الساحة آنذاك، وأكثرهم حضوراً ونشاطاً وهو الأُستاذ عبد الكريم الخيواني.

لقد ساد الحزن جميع أرجاء اليمن بعد عملية الاغتيال الجبانة، وصدرت الكثير من بيانات الإدانة والاستنكار، ورثى –شهيدنا- جميع الأصحاب والأحباب والزملاء، سواء من اليمن أَو من خارجه، فحادثة اغتيال الشهيد عبد الكريم الخيواني، كانت فاجعة بكل المقاييس، وحزن عميق سكن صدور الأحرار من سياسيين وأدباء وإعلاميين وشعراء وغيرهم.

ولم تقتصر بيانات الاستنكار والشجب على الأحزاب اليمنية، بل وصلت إلى الأروقة العربية والعالمية، حَيثُ قالت منظمة العفو الدولية في بيان بعد الجريمة: “نخشى أن يكون مقتلُه بمثابة إنذار لكل شخص لا يزال يملك الشجاعة الكافية لكي يمارس الصحافة المستقلة اليوم في اليمن”.

وقال سعيد بو مدوحة -نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية- تعليقاً على هذه الجريمة المتوحشة: “بالنظر إلى تاريخ الترهيب والمضايقات التي واجهها عبد الكريم الخيواني؛ بسَببِ عمله الصحفي الجريء ونشاطه السلمي، فَـإنَّ مقتله الذي يبعث على الصدمة، يشي بجريمة اغتيال ذات دوافع سياسية”.

ووصف رئيس الاتّحاد الدولي للصحفيين، جيم بو ملحة، الشهيد عبد الكريم الخيواني بأنه “صحفي لامع ومناضل؛ مِن أجلِ المستضعفين، وقد ناضل في حياته؛ مِن أجلِ الصحفيين المستقلين ووضعهم في قمة أولويات نقابة الصفحين اليمنيين ليتمكّنوا من العمل دون تهديد ودون أي تدخل سياسي”.

 

رجل عظيم

وكتب الشاعر الكبير معاذ الجنيد قصيدة رثاء عظيمة في رحيل الشهيد الخيواني، قال في مطلعها:

ها أنت تصعد للسماء

ونحن نسقُطُ في الجحيم

إذ كنتَ آخر رحمةٍ نحظى بها

سلبوك من أحداقنا

وكأننا الشعبُ الرجيم

وواصل الشاعر الجنيد قصيدته قائلاً:

هذا هو الزمنُ اللئيم

وطنٌ تطيبُ به الحياة

لكل أفاق أُثيم

كان اسمه اليمن السعيد

وأصبح اليمن التعيس

وصار بعدك سيدي

اليمن اليتيم

الفجر بعد سناك يطلع

وهو مسود كظيم

وكتبتُ حينها أبياتٍ نثرتها من وجع من أبرزها:

قتلوك يا سيدَ الرجال

وأيُّ رصاصة تجرؤ على قتل القلم

قتلوك

أيُّ جريمة هذه التي

يهتزُّ من عدوانها عرشُ الصحافة

آلاء.. لا تبكين وحدَك

فدموعُنا تهمي كأمطارِ الربيع

سقطت كأوراقِ الشجر

والحزن يغضبُ ثائراً.

وزدت حينها بالقول:

هي كربلاءُ اليوم تأتي من جديد

ويزيدُ يحضُرُ من جديد

وأبوك يا آلاء في صَفِّ الحسين

لا يعرف الحزن الكبير

وإلى جانب الأبيات الشعرية والنثرية، كانت الكلمات أكثر وجعاً وألماً، وهي تلامس القلوب عند قراءتها، لترثي شهيدنا الأُستاذ عبد الكريم الخيواني، وتشنع قاتليه، وكل من وقف وراء هذه الجريمة الشنيعة، فالشهيد الخيواني –رحمه الله- عانى من التهديدات والسجن والتهم الزائفة والقذف والخطف، وقد سحب من داخل منزله منتصف الليل في عهد النظام السابق للخائن عفاش، وتعرض للضرب أمام أولاده، وتلقى هو وأسرته التهديدات، واتهم رسميًّا بالإرهاب، وبأنه جاسوس، وسجن عدة مرات، ومنع من الحصول على دوائه، وحرم من حقه من السفر، كما تقول الناشطة الحقوقية الأجنبية جين نوفاك.

وتضيف نوفاك: “لقد أغلق نظام صالح صحيفة الخيواني – وهي صحيفة “الشورى” الصادرة عن حزب اتّحاد القوى الشعبيّة التي كان يرأس تحريرها- وحطمت حواسيبه، ورميت في القمامة، وكادت أن تقطع أصابعه”.

وتزيد بالقول: “هو رجل يستحقُّ العالَمُ أن يعرفَه وأن يعرفَ نضالَه الملهمَ لحرية التعبير وحقوق المواطنين اليمنيين”.

وأكّـد المفكر الإسلامي الشيخ حسن فرحان المالكي -فك الله أسره- أن الشهيدَ عبد الكريم الخيواني “نبتةٌ يمنيةٌ أصيلة، كنا نسمعُ به وبتضحياتِه وسجنه قبل الربيع العربي، وكان نموذجاً للصحفي الحر، وسفيراً للنوايا الحسنة بعد، وتاريخه وتضحياته تملأ الدنيا”.

 

الكاتبُ الأشجع

ووصف الدكتور عبد العزيز المقالح الشهيدَ الخيواني “بالكاتب الأشجع”، والدليلُ على ذلك ما تعرض له طوال 20 عاماً من اعتقالات ومطاردات وما تحمله من عناء، وكان واضحًا وهو يكتب، ولم يكن يهتم بالعواقب التي ستترتب على ما يكتبه، وكان همه الأول والأخير أن يكون صادقاً مع نفسه، ومع ما يعتقده وصادقاً مع قارئه، وهي ميزة لا ينالها سوى القليل جِـدًّا من الكتاب وأصحاب القضايا، بحسب الدكتور المقالح.

ويزيد المقالح قائلاً: “لم يكن يجيدُ استخدامَ “التَّقِيَّة” أَو التخفِّي وراء الرموز، وهو يتحدث عن “عتاولة” الفساد في البلاد، فقد كان يقولُ للأعور يا أعور، وللأعمى يا أعمى، بكل ما تحمله الكلمات الصادقة من قدرة على التأثير، وبلا أدنى تحسس في العواقب أَو الخوف مما قد يناله من انتقام”.

ويذهب المرحومُ محمد يحيى المنصور -رئيس وكالة الأنباء اليمنية سبأ السابق- ليؤكّـد أن استهدافَ الشهيد عبد الكريم الخيواني هو استهدافٌ لمكانته في خط الثورة، واستهداف لمكانته وموقعه المؤثر لدى قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي –يحفظه الله- واستهداف للنموذج والمثال الذي كان يمثله عند جيل الثوار والحقوقيين والصحافيين والسياسيين والناشطين.

وإذا كان الشهيد الخيواني –رحمه الله- يحظى بهذه المكانةِ العظيمة في نفوس كُـلّ محبيه، فهو بالتأكيد أكثرُ تعلقاً وشغفاً لدى أهله وأبنائه وأسرته، وهذا ما لمسناه من خلال المقالات التي كتبت عنه من قبل أبنائه وأسرته.

ويقول محمد عبدالكريم الخيواني، نجل الشهيد: إن حجم الفراغ الذي تركه رحيلُ والده في الجوانب الإنسانية والاجتماعية والثقافية والفكرية كان كَبيراً، مؤكّـداً أن اليمنَ والوسطَ الصحفي خسر برحيل الشهيد الخيواني اسماً وعلَماً ومثقفاً وسياسيًّا بارزاً قاوم الظلم والطغيان ووقف مدافعاً عن الحياة الإنسانية والحقوق والحريات.

ويقول محمد عن أبيه: “كانت حياة والدي مسيرةً حافلةً بالدروس؛ نتيجةَ ما تعرض له من ملاحقة واعتقال وتعذيب وسجن، حتى استشهاده.

وتقولُ إباء عبد الكريم الخيواني في عنوان صحفي “آه يا أبي”: “”إن دمك هو روح الحياة وأنت من كان ينشر البسمة والتفاؤل في وجوه وقلوب الناس”.

وتزيد قائلة: “أبي.. ذهبت من دون أن أرى الابتسامةَ في وجهك المنير، أبي.. سأنظُرُ إلى صورك وأقول للجميع: هذا هو أبي، هذا هو الرجل الصادق، هذا من وقف أمام الظالمين، ناصر المظلومين، أنت رمز للحياة يا أبي، لا بل رمز الوجود”.

أما هناء الخيواني فتوجّـه رسالةً للمجرمين القتَلة قائلة:” باغتياله من الوراء يدُلُّ على أنه هو القوي الذي لا يملك إلا كلمة الحق التي تخافون منها، ولم يستطيعوا مواجهتها إلا بعملية الجبن التي يعلمها، فَـإنَّها لم تزده إلا وضوحاً وتزين بشهادة ولم تزد محبيه إلا أن يكونوا عبدَ الكريم، ويأخذون برايته، فهنيئاً له وإلى جنات الخلد إن شاء الله”.

 

قلوبٌ مكلومة

لقد شاركت جميعُ الأحزاب اليمنية ببيانات نعي واستنكار لاغتيال الشهيد عبد الكريم الخيواني، وبكاه البعيدُ قبل القريب، وكانت هذه الجريمةُ انطلاقاً لعهد جديد، وواقع بدأ يتشكل في اليمن، فالأحزاب السياسية وعلى رأسها التجمع اليمني للإصلاح –الإخوان المسلمين- كانوا قد عقدوا العزم على مواجهة الثورة الوليدة 21 سبتمبر 2014 بالحديد والنار، متكلين على الدعم الأمريكي السعوديّ، ولهذا فقد انفلت العقدَ كما يقولون، وَتتابعت الأحداث والمنغصات على الشعب اليمني، ولا تزال ماثلة إلى يومنا هذا ونحن نواجه العدوان الأمريكي السعوديّ منذ سبع سنوات مضت.

لكن وعلى الرغم من الجراح العميقة، والأحزان الكثيرة، فَـإنَّ الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين اليمنيين وغيرهم لم يتركوا هذا اليوم 18 مارس دون أن يكون لهم صوتٌ صادحٌ ضد جريمة اغتيال الشهيد عبد الكريم الخيواني، وفي كُـلّ عام تنظم الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان فعالية تستعرض فيها مسيرة وحياة الشهيد المرحوم الخيواني، وتطالب بمتابعة قاتليه وكشفهم أمام الرأي العام ومعاقبتهم ليكونوا عبرة لم يعتبر.

ويؤكّـد رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية سبأ، نصر الدين عامر، على أهميّة إحياء ذكرى استشهاد الإعلامي الخيواني، لاستحضار دوره في مواجهة قوى الاستكبار والطغاة في زمن كان الصمت مطبقاً لدى الكثيرين.

وقال في فعالية أحيتها الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان الخميس الماضي على رواق بيت الثقافة بصنعاء بمناسبة الذكرى السنوية السابعة لاستشهاد الثائر والإعلامي الحقوقي المناضل عبد الكريم الخيواني: “إن الشهيد الخيواني كان واحداً من أعلام اليمن المدافعين عن المظلومين والصارخين بكلمة الحق في وجوه الظالمين”، مُشيراً إلى أن ما تميز به الشهيد من صفات وأخلاق وشجاعة في قول الحق ودفاعه بصلابة عن حقوق الإنسان.. مؤكّـداً أنه لا يوجدُ اليوم أصدقَ في الدفاع عن حقوق الإنسان من المرابطين الأبطال في جبهات العزة والكرامة وميادين الوغى.

وألقيت في الاحتفالية كلماتٌ متعددةٌ أشَارَت إلى تنوع عطاءات الشهيد الخيواني وإبداعاته وإخلاصه لوطنه والتزامه بالمواقف الصلبة المنحازة للإنسان والحقوق والحريات، التي تجاوز كُـلّ الانتماءات.. مبينة أن الشهيد الخيواني كان صاحب كلمة حق في زمن الصمت والقلم الذي لا يجف مداده والجبل الراسخ الذي وصلت جذوره إلى أعماق الأرض لتنبت حرية وعزة وكرامة.

وأكّـد المتحدثون أن استهداف الشهيد الخيواني كان الرصاصةَ الأولى الممهِّدة للعدوان الأمريكي السعوديّ الإماراتي على اليمن، إدراكاً من دول العدوان لأهميّة قلم وكلمة الشهيد وتأثيره على الساحة المحلية والدولية.

واعتبرت الكلماتُ اغتيال الشهيد الخيواني، بذلك المشهد، أبلغَ الأدلةِ على مواقفه المؤثرة بالكلمة والفكرة.. لافتة إلى أن الشهيد كان وما يزال مرجعية للحقوقيين والباحثين عن الحرية ومن أبرز الشخصيات التي كانت تعيق طموحات وأهداف العدوّ السعوديّ من خلال تعريته وفضح مخطّطاته بقلمه وتصريحاته وتحذيراته في مختلف المحافل والوسائل.

وأكّـدت الكلماتُ أن جرائمَ الاغتيال التي استهدفت الكوادرَ والكفاءات الوطنية من الشهيد الخيواني والبروفيسور أحمد شرف الدين والعلامة المرتضى المحطوري والدكتور محمد المتوكل وعبدالكريم جدبان وغيرهم، تأتي في إطار مخطّطات قوى العدوان بأيادٍ محلية، أماطت اللثام عن وجهها وأساليبها القذرة.

وجدّدت الكلماتُ التأكيدَ على السيرِ وفقَ النهج الذي رسمه الشهيد الخيواني في مواصلة النضال لمواجهة قوى الظلم والاستكبار العالمي.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا