النبي الكريم والبلاغ التاريخي العظيم في “غدير خم “

صادق البهكلي

 

يوم الغدير أحد أعظم الأحداث في تاريخ الإسلام، وقف النبي محمد “صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه” في غدير خم ليعلن للأمة الإسلامية بلاغًا تاريخيًا يشهد له الزمان والمكان. هذا الحدث، الذي جرى أثناء عودة النبي من مكة إلى المدينة بعد حجة الوداع، لم يكن مجرد تجمع عادي، بل كان إعلانًا حاسمًا حدد في معالم مستقبل الأمة، ومن هو الأجدر بقيادته بعد وفاته لأن رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله كان يدرك أنها آخر حجة له لذلك كان الحدث تاريخيا ومفصليا وكانت الترتيبات لإعلان هذا الحدث تؤكد أهميته.

 

 التجمع في غدير خم

في ذلك اليوم الحار من الظهيرة، أوقف النبي محمد “صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه” جموع الحجاج العائدين إلى مناطقهم. وجمع ذلك الحشد المهيب الذي قيل أنه يتجاوز مائة الف حاج من مختلف المناطق الإسلامية في صحراء غدير خم، حيث لم يكن هناك أي عائق يحول دون رؤية النبي أو سماعه. هذا التجمع كان بمثابة حالة نفير، حيث تم استدعاء الجميع، بما في ذلك الذين تقدموا في الطريق، لتلقي البلاغ الهام.

صعد النبي على أقتاب الإبل، وأصعد معه علي بن أبي طالب “عَلَيْهِ السَّلَامُ”. ثم وجه النبي خطابه للأمة، ممهدا للبلاغ الرئيسي، قائلا: “يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ اللهَ مَوْلَاي وَأَنَا مَوْلَى المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِهِم مِنْ أَنْفُسِهِم، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ”. رفع النبي يد علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أمام الجموع، مؤكدًا: “اللهم وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ”.

 

 نص ثابت في التراث الإسلامي

توارثت الأمة الإسلامية هذا النص وهذه الواقعة عبر الأجيال، وأصبحت من الثوابت المعترف بها بين مختلف الطوائف الإسلامية، سواء كانوا من السنة أو الشيعة. النص “فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ” أصبح جزءًا من التراث الإسلامي المتواتر، وهو دليل على أهمية هذه الحادثة في التاريخ الإسلامي.

أهمية بلاغ غدير خم:

يكتسب بلاغ غدير خم أهميةً استثنائيةً لأسبابٍ متعددة، منها:

  • التصريح الإلهي: يُعدّ هذا البلاغ بمثابة إعلانٍ إلهيٍّ مباشرٍ من خلال نبيه الكريم (صلوات الله عليه وعلى آله) لتحديد مسار الأمة بعد وفاته.
  • تبيان الخلافة: أوضح النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) من خلال هذا البلاغ جدارة الإمام علي (عليه السلام) في خلافته وأنه المؤهل لقيادة الأمة من بعده .
  • حفظ وحدة الأمة: هدف هذا البلاغ إلى ضمان وحدة الأمة الإسلامية وتماسكها، ومنع أيّ انقساماتٍ أو خلافاتٍ حول مسارها.
  • تثبيت مبدأ الولاية: رسّخ هذا البلاغ مبدأ الولاية كأصلٍ أساسيٍّ في الإسلام، وضرورةٍ لوجود قيادةٍ رشيدةٍ للأمة.

دلالات بلاغ غدير خم:

يحمل بلاغ غدير خم دلالاتٍ عميقةً تمسّ جوهر العقيدة الإسلامية، ومن هذه الدلالات:

  • ولاية الإمام علي (عليه السلام): أكد هذا البلاغ على أحقية الإمام علي (عليه السلام) في خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده، ونفى أيّ أحقيةٍ لأيّ شخصٍ آخر.
  • استمرار الرسالة الإسلامية: أوضح البلاغ أنّ رسالة الإسلام ستستمرّ بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال وجود قيادةٍ رشيدةٍ تمثلها أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
  • عدالة الإسلام: يؤكد هذا البلاغ على مبدأ عدالة الإسلام، وأنّ المناصب والمسؤوليات تُعطى لمن يستحقّها بناءً على الكفاءة والعدل.
  • ضرورة الالتزام بنهج الأئمة: يدعو البلاغ المسلمين إلى الالتزام بنهج أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والسير على خطاهم في مختلف مجالات الحياة.

 

 التفسير القرآني للولاية

النص القرآني تناول في مواضيع كثيرة مبدأ الولاية والتولي سوى من خلال التحذير من تولي اليهود والنصارى والظالمين أو من خلال تولي الله ورسوله وأعلام الهدى من بعده وفي المقدمة الإمام علي عليه السلام وهناك آية صريحة في هذا الموضوع وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. هذا النص القرآني يتكامل مع البلاغ النبوي، ويؤكد على أن الولاية هي أمر إلهي مرتبط بالله ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة والمقصود هنا الإمام علي عليه السلام.

 مفهوم الولاية

 

الولاية ليست مجرد فكرة مذهبية، بل هي حالة قائمة في واقع البشرية. كل البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الثقافية، لديهم رموز وقادة يتبعونهم ويستلهمون منهم. في الإسلام، الولاية هي ارتباط بالقيادة الشرعية التي تمثل الحق والعدل.

النبي محمد “صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه” قدم مفهوم الولاية باعتبارها امتدادًا لولاية الله ورسوله. هذه الولاية ليست مجرد سلطة دينية، بل تشمل جميع جوانب الحياة، من التشريع إلى التوجيه والإرشاد.

 

 الولاية في القرآن والسنة

القرآن الكريم يشير بوضوح إلى أن الولاية هي لله ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. هذا النص يتكامل مع النص النبوي الذي قاله النبي في غدير خم، مما يعكس ترابطًا وثيقًا بين القرآن والسنة في موضوع الولاية.

النبي محمد “صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِه” أتم مهمته على أكمل وجه، حيث بلغ ما أنزل إليه من ربه بشكل واضح وصريح، وأقام الحجة على الأمة. هذا البلاغ النبوي لم يكن مجرد تصريح عابر، بل كان إعلانًا تاريخيًا يحمل في طياته دلالات عميقة حول القيادة الشرعية في الإسلام.

ولاية الرسل امتداد لولاية الله

رسل الله حَمَلة مشاعل النور للبشرية، يعمل الله سبحانه وتعالى على إخراج الناس من الظلمات إلى النور عبر إرسال رسل يأتون بتعليماته وتوجيهاته في كتب سماوية. يتضمن هذا المشروع الإلهي الدور العملي المباشر للرسل، حيث يبلِّغون الناس بما أُنزل إليهم من الله سبحانه وتعالى. الرسل هم أول من يستوعب هذه التعليمات ويجسدها في حياتهم، ويكونون قدوة للناس في فهمها وتطبيقها.

الرُّسل ليسوا مجرد مذيعين ينقلون الأخبار، بل هم يحملون مشروع حياة متكامل، يتضمن تربيتهم للناس على أساسه، وتوجيههم نحو التمسك به. يعمل الرسل على مواجهة التحديات التي تعترض رسالتهم، ويواجهون المعارضين الذين يحاولون إبطالها أو تحريفها.

 

 دور الرسل في مواجهة التحديات

عملية إخراج الناس من الظلمات إلى النور تشمل مواجهة الأفكار والعقائد الظلامية التي تؤدي إلى الضلال والتي يلتزم بها الكثير من الناس. الرسل يأتون بهدي الله ونوره، ويجاهدون في سبيل نشره وتطبيقه في واقع الناس. هذا يتطلب جهدًا كبيرًا يتضمن التربية، والتعليم، والقتال، والتضحية.

الأنبياء ليسوا مذيعين، بل هم يتحملون مسؤولية كبيرة في تحويل التعاليم الإلهية إلى واقع عملي. يتحركون في الساحة لتغيير العادات والتقاليد والمفاهيم الخاطئة، ويوجهون الناس نحو المشروع الإلهي الذي يحملونه.

 

 الولاية الإلهية واستمرارها

عملية إخراج الناس من الظلمات إلى النور تتم ضمن إطار الولاية الإلهية. الله هو ولي الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور. هذا المشروع الإلهي يقوم عليه الأنبياء، ويمثلون امتدادًا للولاية الإلهية في واقع البشر. دور الأنبياء يتطلب طاعتهم، لأن نجاح المشروع الإلهي يعتمد على تطبيق تعاليمهم وتحويلها إلى واقع عملي.

 

 ولاية الإمام علي امتداد لولاية النبي الأكرم

بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله، تستمر الولاية في الإمام علي عليه السلام، الذي يتمتع بمواصفات إيمانية راقية تجعله الامتداد الطبيعي للنبي. الإمام علي يمثل النموذج الأرقى للالتزام بالمشروع الإلهي، من حيث العلم والمعرفة، والارتباط العملي، والالتزام بقيم ومبادئ الإسلام.

 

 الولاية في السياق البشري

الولاية ليست فكرة مستحدثة، بل هي جزء من النظام البشري على مر العصور. كل مجتمع له قادة ورموز يتبعهم ويسترشد بهم. في السياق الإسلامي، الولاية تمثل القيادة الشرعية التي تستند إلى تعاليم الله ورسوله.

الولاية في الإسلام تعني الاقتداء بالنبي وأهل بيته “عَلَيْهِم السَّلَامُ”، والارتباط بهم كقدوة ومصدر للحق والهداية. هذا المفهوم يعزز الوحدة والتماسك في الأمة الإسلامية، حيث يتبع المسلمون قيادة شرعية تستند إلى القرآن والسنة.

 

 ثقافة الغدير وضمان استمرار المشروع الإلهي

ثقافة الغدير تقدم النموذج الأصيل للولاية بعد النبي، حيث تؤكد على دور الإمام علي كامتداد للنهج الإلهي. هذه الثقافة تقفل الأبواب أمام الجائرين والطغاة، وتضمن للأمة استمرار الهداية والنور في غياب النبي. الإمام علي كان يمثل هذا الامتداد، ودوره يستمر عبر الأجيال كقدوة ومرجع للأمة.

 

 الإسلام الأصيل منهج للخلاص

في ظل التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، يصبح الرجوع إلى الإسلام الأصيل ومنهجه وقيمه ضرورة ملحة. الإسلام الأصيل يمثل النور الذي يخلص الأمة من الظلمات، ويصحح واقعها المتأزم. نحن بحاجة إلى التوحد والاعتصام بحبل الله لمواجهة التحديات والأخطار التي تهدد الأمة.

 

قد يعجبك ايضا